وقفة مع وليد الحسيني - مغالطات (أصالة المادة - الدور والتسلسل واستحالتهما)

بسم الله الرحمن الرحيم

ولي في كل يوم مع الأخ وليد وقفة...

إن مقتضى البحث العلمي، شيء من الموضوعية، إن لم نقل بأن الموضوعية هي أساس البحث العلمي، خصوصا فيما يتعلق بأدبيات لا بعلميات، يعني ما يخص أمورا لا تجد قانونا رياضيا أو معادلة لتثبته.

ولأتكلم قليلا عن الموضوعية، فما هو تعريف الموضوعية، عرفت الموضوعية بأنها إدراك الأشياء على ما هي عليه دون أن يشوبها أهواء أو مصالح أو تحيزات، أي تستند الأحكام إلى النظر إلى الحقائق على أساس العقل، وبعبارة أخرى تعني الموضوعية الإيمان بأن لموضوعات المعرفة وجودًا خارجيًا في الواقع، وأن الذهن يستطيع أن يصل إلى إدراك الحقيقة الواقعية القائمة بذاتها (مستقلة عن النفس المدركة) إدراكًا كاملاً.

طبعا سوف نتكلم مستقبلا أكثر وأعمق، ولكني أود أن أعيد صياغة تعريف الموضوعية، في نظري: الموضوعية هي "محاولة" إدراك الأشياء على ما هي عليه، دون تدخل الأهواء والمصالح والمعارف القبلية قدر الإمكان. حيث إن الموضوعية المطلقة أمر غير ممكن، ليس للإنسان أن يحكم على الأشياء بدون أن تتدخل خلفيته الثقافية والفكرية في حكمه، وإلا لما اختلف البشر في أحكامهم.

ولكن المحاولة الجادة والحقيقية لإدراك الأشياء على ما هي عليه، على فرض الإيمان بوجود ما يمكن إدراكه خارجا ومباينا لذات المدرِك.

طبعا لابد أولا من تقرير نظرية المعرفة وقيمة المعرفة البشرية ومدى حجيتها، وهذا ما فهرسته كأول جزء من بحثنا المشار إليه. ولكن لنتكلم قدر الإمكان بدون الدخول في متاهات التعقيدات.

نعود للأخ وليد في مدونته الكريمة، وجدت نفسي مجبرا للتعليق على بعض ما ورد في الصفحة الأولى، حيث إنه ذكر نظرية أسماها بالسبب الأول، وهي نفس ما أعبر عنه بمبدأ السببية. وقد اعتبر أن مبدأ السببية أمر معقول، أي أن لكل شيء سبب، حيث إننا نجد بالوجدا هذا الأمر قائم، حتى العلم التجريبي وجد ذلك القانون (قانون السببية) واستخدمه وجدانيا، فنحن لا ننتظر نتيجة بدون توفير الأسباب والشروط ورفع الموانع عنها.

لقد ذكر هناك إشكالا مفاده، إن كان مبدأ السببية قائما، ولكل شيء سبب، فليس هناك شيء يجعل استثناء الله واجبا، بمعنى آخر ليس هناك دليل على أن الله خارج عن مبدأ تسلسل الأسباب. حيث اعتبر أن المبدأ يقول لكل شيء سبب عدا الله.

الأخ وليد معذور في إشكاله، فلعله لم يقرأ القانون بصورة سليمة كاملة فظهر عنده الإشكال، وأنا أعتبره واعيا جدا، حيث إنه استطاع أن يستنتج الإشكال بدون الحاجة إلى إدخال شيء عليه من الخارج كفرضيات أو إضافات ليست من صميم مبدأ السببية.

قبل تصحيح القراءة أود طرح مشكلتين وبيان الإشكال فيهما، وهما: التسلسل، والدور.

  • أولا - التسلسل - هو تسلسل الأسباب لا إلى نهاية.
الإشكال: لن يدخل أي من الأسباب حيز الوجود، والسبب: أنه لو فرضنا موجودا ب، قائم في وجوده أو سبب وجوده هو الموجود أ، ولكن أ أيضا متقوم ومتسبب بالوجود ج، وج متقوم بالوجود د، والوجود د متسبب بالوجود هـ، وهـ متسبب بسلسلة لا تنتهي من الوجودات، فإننا لن نصل إلى حلقة يقف عنها التسلسل، فالنتيجة أن الوجود ب لن يدخل حيز الوجود، حيث إنه متقوم بوجود (وهو أ) نفرض له نفس فرض ب، وبالتالي هو أيضا غير موجود، وهكذا لا إلى نهاية.

مثال على ذلك، لو فرضنا بأنك ومجموعة أصدقاء، تريدون الخروج من باب، ولكنك تقول لن أخرج قبل الصديق أ، والصديق أ، يقول لن أخرج إلا بعد الصديق ب، وب يقول لن أخرج إلا بعد ج، وج يقول لن أخرج إلا بعد د، وهكذا لا إلى نهاية، بالتالي لن يخرج أي منكم من الباب.

  • ثانيا - الدور - إعتماد سببين على بعضهما البعض في الوجود.
الإشكال: لن يدخل أي منهما حيز الوجود، والسبب أنه لو فرضنا سبب أ، وسبب ب، وكان سبب أ قائم على سبب ب في الوجود أي متقوم به، وكان ب أيضا متقوم بسبب أ، فإن أي منهما لن يدخل حيز الوجود، حيث إن كلا السببين لن يوجد إلا بعد أخيه، وأخيه لن يوجد إلا بعده فبالتالي لن يوجد أي منهما.

مثال على ذلك، لو فرضنا بأنك وصديق لك، تريدان الخروج من باب، وقلت لن أخرج قبل صديقي، وهو قال بأنه لن يخرج قبلك، فإنك معتمد عليه حتى تخرج وهو معتمد عليك حتى تخرج، بالتالي لن يخرج أي منكما من الباب.


الآن أريد قراءة المبدأ بعد تصحيحه: لكل شيء سبب، حتى نصل إلى سبب يكون واجب الوجود، وإلا دخلنا في إشكال التسلسل، ووجوب وجوده هو المطلِق للوجود ككل، فليس هناك وجود موجود إلا بعد وجود واجب الوجود.

وهنا يحل الإشكال، فأنا أسميه واجب الوجود، وأنت تسميه الله، فليكن الله واجب الوجود.. إذن فمبدأ السببية ليس مغلوطا كما تصور الأخ وليد، ولكن التعريف كان ناقصا، كما سنتعمق فيه أكثر لاحقا.

المغالطة الثانية التي وجدتها في أوائل الأسطر هي: "
والتعريف البسيط والمباشر للقوانين العلمية والفيزيائية : هي أنها وصف بشري للظواهر الكونية والطبيعية .

إن التغاضي عن الالتزام بدقه هذا التعريف وحدوده العلمية – البشرية الواضحة يحاول المدافعون عن نظريه الخلق الإلهي بان هذه القوانين تحكم سلوك وحركه الكون كلها فقانون الجاذبية هو الذي يسبب سقوط الأشياء إلى الأسفل أو أن قوانين الكيمياء تتحكم بتفاعلات الجزيئات وسلوك المواد .

ان ادعاءات كهذه بان القوانين الطبيعية هي التي تتحكم بما حولنا من طبيعة تعكس فهما محرفا وخاطئا عن العلم ولنفترض أن مراسلا صحفيا قد كلف بتغطيه مباراة لكره القدم وبعد انتهاء المباراة يكتب تقريره الصحفي ملخصا فيه أهم الأحداث ونتيجة المباراة فهل من المعقول أن نقول بان ما كتبه الصحفي في تقريره عن نتيجة المباراة كان السبب في هذه النتيجه ؟!!!

بعد أن تعرفنا إلى ما يقصد بالقانون الفيزيائي وما لا يقصد به أعود إلى النقطة التي بدأت بها هذا الفصل ألا وهي :ان القوانين الفيزيائية والتي تم التحقق منها والاعتماد على دقتها تستطيع أن ترسم صوره لما قبل الانفجار الكبير ومن أهم هذه المبادئ العلمية هو قانون حفظ الطاقة – المادة ."

سيدي الكريم وليد، أهذا هو الوصف الدقيق للقوانين الطبيعية، يعني أنت أكتشفت قانونا ليس له أي تأثير على الطبيعة؟ وتعتبر أن القوانين الطبيعية التي تتحكم بما حولنا هو ادعاء، يعني أن القوانين الطبيعية مثل قانون الجاذبية الذي اكتشفه نيوتن ليس له مصداقية أو ليس له أي معنى؟ إذن فما معنى الجاذبية؟!

أعجب لمثل هذا الكلام.. حقيقة هو كلام يثير العجب، لقد أنكر وليد الواقع الموضوعي، وقد أعطى مثالا على ذلك بالصحفي، وتناسى في نفس الوقت بأن الصحفي نقل وصفا لواقع موضوعي موجود بالفعل وليس من اختلاق الصحفي، نعم هو لا يؤثر في الواقع الموضوعي سوى أنه ناقل له أو كاشف.

كذلك القوانين العلمية، فهي لا تعرّف بأنها وصف بشري، بل إنها وصف بشري لظواهر طبيعية مع اكتشاف العلاقات بينها، فالقانون الطبيعي هو كشف للعلاقة بين الموجودات أو الظواهر وليس وصفا للظواهر، فعندما تصف الظاهر فأنت لا تقوم بكشف القانون بل أنت تقوم بكشف أثر القانون، وهناك فرق شاسع بين القانون وأثره.

المهم، يخرج بنتيجة مفادها، بناء على قانون حفظ الطاقة، فإن كوننا الموجود الآن هو قديم (أي أزلي: لا متناهي من حيث البداية)، ولم يُستحدث، بل ولم يخلق أصلا، إشكال جميل جدا ومنمق، ولكن هذا لا ينفي وجود إله أزلي أوجد العالم ووضع فيه هذه القوانين، هل هذا يثبت أن الوجود يساوي المادة (أي لا موجودات وراء المادة)؟

ثم لماذا تريد منا دليلا على ما ينافي قانون حفظ الطاقة، حيث إنه لا ينافي أصلا القرائن العلمية على إثبات وجود الله!؟

للإجابة على هذا الإشكال نقول، يستنتج السيد وليد بأن المادة هي السبب الأعلى (أي العلة الفاعلية: هي التي توجد كل شيء) للعالم، ونقول بضرس قاطع بأن هذا الاستنتاج غير كامل بل مجانب للصحة.

وذلك لأن المادة الأصيلة للعالم حقيقة واحدة عامة (تظهر إما كطاقة - مادة قليلة الكثافة ،أو كمادة - طاقة عالية الكثافة)، في جميع مظاهره وكائناته، ولا يمكن للحقيقة الواحدة أن تختلف آثارها وتتباين أفعالها إلا بوجود مؤثر خارجي، حيث إن العالم ما هو إلا طاقة إما متكثفة أو بسيطة، والمتكاثفة المكونة للمادة بتحليلها إلى أجزائها الأصغر تكون عبارة عن ذرات فيها شحنات سالبة وموجبة ومتعادلة وهي بطبيعتها طاقة، والكثير من الجسيمات والإشعاعات الأخرى، والتي من الممكن تحويلها إلى طاقة بعمليات فيزيائية، والدليل على ذلك أن الطاقة النووية المعتمدة على شطر النواة، مع انبعاث كم هائل من الطاقة.

فكيف يمكن أن ننسب إلى تلك المادة الأساسية التي نجدها في الأشياء جميعا تنوع تلك الأشياء وحركاتها المختلفة؟! ولو أمكن هذا لكان معناه: أن الحقيقة الواحدة قد تناقض ظواهرها، وتختلف أحكامها. وفي ذلك القضاء الحاسم على جميع العلوم الطبيعية بصورة عامة، لأن هذه العلوم قائمة جميعا على أساس: أن الحقيقة الواحدة لها ظواهر ونواميس معينة لا تختلف. ومعنى هذا: أن الواقع الواحد المشترك لا يمكن أن تتناقض ظواهره، وأن تختلف آثاره، وإلا لو أمكن شيء من ذلك، لما أمكن للعالم أن يضع قانونه العام.

وبذلك نعرف أن الواقع المادي المشترك للعالم الذي دلل عليه العلم، لا يمكن أن يكون هو السبب والعلة الفاعلية له، لأن العالم مليء بالظواهر المختلفة والتطورات المتنوعة. وسوف أعود لهذه المسألة لاحقا وأقوم بتفصيلها باستيعاب.

أحب أن أضرب مثالا على ذلك، النار هي وجود، ولكن هل للنار أن تناقض ظواهرها، هل من الممكن للنار أن تكون سببا للتبريد مثلا؟ نعم ذلك ممكن، ولكن بتدخل الكثير من الوسائط والمؤثرات الخارجية، أما بدون تلك المؤثرات فإنه من المحال أن تتحول النار إلى عامل للتبريد.

إجمالا، الحديث يطول، ولا أحب أطالته بمثل هذه الإشكالات الواهية، أريد من جنابه الكريم إشكالات عميقة ترقى للنقاش الموضوعي..

مع التحيات،
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق