النظام الأحسن وإشكالية الشرور

بسم الله الرحمن الرحيم

تعد مسألة الشرور والنظام الأحسن من أكثر المسائل إشكالا، فموضوع الشرور لا يمكن إن يتم إنكاره باعتباره موضوعا وجدانيا، فنحن بالوجدان نجد بأن العالم فيه الأمراض والآفات والحيوانات المفترسة والنباتات والحيوانات السامة، إلى آخره، ولكن ذلك لا ينسجم مع ما بيناه من حكمة ودقة الصانع في مقالات سابقة، فقط أثبتنا بأن الصانع لهذا الكون يتصف بالحكمة المطلقة، ونرى بالوجدان بأن الشرور التي تواجه الإنسان هي خلاف الحكمة من وجهة نظرنا.

فكان لابد من إيجاد صيغة لمعالجة هذه المشكلة.

المعالجات النظرية

مثلما كان لفكرة الشرور عراقة في الوجدان الإنساني، فقد حظيت معالجات الفكرة والتوجيهات النظرية لها بعراقة مماثلة، حتى يمكن أن نقول بأن المشكلة وأطروحات الحلول سارا على خط متواز. لقد حضرت هذه المسألة حضورا كثيفا في تأريخ الفكر الديني والفلسفي والإنساني بصورة عامة.

وعلى الرغم من المعالجات وتنوع الحلول، إلا أنه يمكن متابعة الاتجاهات العامة للأجوبة من خلال الخطوط الرئيسية التالية:
  • خط إنكار الصانع الحكيم والإيمان بأن المادة مبدأ هذا العالم، أي أن المادة أزلية.
إن عجز هذا الخط عن معالجة المشكلة من خلال عجزه عن التوفيق بين وجود خالق حكيم ووجود مظاهر الشرور المتفشية في العالم، دفع به إلى إنكار الصانع والتخلص من الإشكالية عبر مصادرتها بإلغاء أحد طرفيها!

لا شك بأن هذا الخط لا يزال موجودا ومتمثلا بالملحدين، بل الملحدون بدأوا بتغير طريقة الاستشهاد فجلعوا إشكالية الشرور مؤيدا لإلحادهم، حيث إنهم الآن ينطلقون في إلحادهم من منطلقات متعددة منها: الإنفجار العظيم باعتباره الموجد للكون، ونظرية نشوء الخلية الأولى ككيان عضوي أولي ومن ثم نظرية التطور كحل لوجود الكائنات المتعددة والأصناف المتنوعة من الكائنات الحية. وقد استخدموا إشكالية الشرور كشاهد على إنكارهم وجود الإله.
  • خط الإيمان بوجود خالقين، خالق للخير وخالق للشر، خالق النور وخالق الظلمة، إله أعلى وإله أسفل، "أورمزد" و"أهرمان" أو الروح الطيبة والخبيثة.
وهذه هي اتجاهات الثنوية بصورة عامة، وهم الذين يؤمنون بوجود إلهين في العالم. من الواضح بطلان الإجابة التي يقدمها هذا الخط بجميع تنويعاته، نظرا لتظافر الأدلة وقيامها على إثبات توحيد الخالقية وأنه لا خالق إلا الله.
  • الخط الإيماني، الذي تتنوع فيه الأطروحات المختلفة، فلسفية وغيرها، نختار منها الأطروحة الأبرز المتمثلة بعدمية الشرور.
أطروحة عدمية الشرور

تقوم هذه الأطروحة على مقدمات أبرزها اثنتين، يمكن عرضهما على النحو التالي:

المقدمة الأولى: تدور حول معنى الخير والشر، وما هو المقصدور منها؟ يمكن القول أن كل ما هو مطلوب للإنسان فهو خير، وكل ما كان منفورا عنده فهو شر. عند الانطلاق من هذا التحديد للخير والشر، من السهل أن نلمس أن أول ما هو مطلوب للإنسان هو أصل وجوده وحياته، فهو يحب وجود نفسه، وهذا الأمر يمثل بالنسبة إليه أصل الخيرات. في المقابل يعد كل ما يرجع إلى عدم هذا الوجود منفورا عند الإنسان وشرا لديه.

هكذا تنتهي عملية تحليل الخير والشر عند الإنسان وترتد إلى أصل وجوده وإلى عدم هذا الوجود. فأصل وجوده خير وعدم هذا الوجود يعد شرا، وهذا من المصاديق الواضحة عند الإنسان.

لا شك أن هناك مجموعة من الأمور التي ترجع إلى بقاء هذه الذات وهذا الوجود، وإلى كمالات هذا الوجود الإنساني، كما أن هناك مجموعة من الأمور التي ترجع إلى نواقص هذا الوجود وعيوبه. في هذا الضوء يمكن الرسو على مفهوم واضح للخير والشر، يفيد أن الخير هو كل شيء مطلوب للإنسان، والشر هو ما ينفر عنه الإنسان.

لكن ثم تساؤل يثار على هذا الصعيد فحواه: كيف يصار إلى التمييز بين ما هو خير وشر حقيقي عما هو خير وشر غير حقيقي؟ فقد يكون الأمر مجرد وهم، كما يمكن أن يكون ما نتصوره خيرا أو شرا ليس خيرا أو شرا حقيقيا بالنسبة إلى الإنسان، خاصة وأن القرآن يومئ إلى مثل هذا الالتباس الذي ينجر إليه الإنسان في قوله سبحانه [وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون] البقرة : 216.

هذه من الحقائق القرآنية التي يصدقها واقع الحياة الإنسانية. فقد يتصور الإنسان أن شيئا ما هو خير بالنسبة إليه وهو في الواقع شر، وقد يتصور أن شيئا ما شر بالنسبة إليه بينما يكون في الواقع خيرا. يمكن الإجابة على هذا السؤال بنحو عام من خلال القول إن بعض مصاديق الخير والشر واضحة عند الإنسان وهي من الجلاء بحيث لا يشك فيها، إما عقلا وإما فطرة، كما هو الحال في أصل الحياة والوجود، والعلم والصحة والسلامة والأمان ونحوها. لكن توجد في المقابل أمور من الخير والشر لا يستطيع الإنسان تشخيصها ولا سبيل له إلى ذلك، من أمثلة ذلك القوانين الاجتماعية العامة التي تحدد أمورا معينة أو تقنن أمورا معينة في الحياة الاجتماعية، فإن الإنسان لا سبيل له لإيجاد هذه القوانين بنحو ناجح تماما، ولهذا نجد بأن الغرب ناقض الطبيعة في موازينها العامة وسن قوانين شاذة كزواج المثليين أو لم يمنع قانونيا من زواج المحارم وشخصه على إنه حرية شخصية، ولم يستطع التوصل إلى أن هذه ليست داخلة في نطاق الحرية الشخصية بل هي داخلة في نطاق هدم المجتمعات على المدى البعيد.

يتضح لنا قصور الإنسان عن بلوغ النظرة الدقيقة في مثل هذه الأمور، ولهذا فإن الإنسان محتاج إلى موجه يجعله يميز بين ما هو خير عما هو شر في مثل هذه المناطق المجهولة.

هنالك أسئلة تدون أيضا، في أنه لماذا خلق الله العالم بهذه الهيئة، فلماذا لم يخلقه بصورة كمال مطلق لا نقائص ولا مشاكل فيه؟ وسنعالجه عند بحث صفاة الله سبحانه وكيف أن الفعل مسانخ للفاعل، أي منسجم معه تمام الانسجام، وكذلك لماذا خلق الله الكون أصلا وهو غير محتاج إليه؟ وبحثه سيأتي في فلسفة الخلق إن شاء الله.

على هذا، ما يستطيع العقل والفطرة الإنسانية تمييزه على أنه خير، فهو مطلوب، وما يشخصانه أنه شر فهو مرفوض. أما في دائرة ما لا يستطيع الإنسان تمييزه عبر العقل والفطرة ومعايير العقلاء، فلابد من الرجوع فيه إلى الدين والشريعة لتشخّص كلمة الله ما هو خير له في هذا النطاق وما هو شرّ.

وهذه هي إحدى الدواعي لحاجة الإنسان إلى الدين والشريعة وإلى الارتباط بالله سبحانه.

لكن هذا النمط من الفهم لا يزال يواجه استفاما آخر كبير، فإذا كان الخير في نطاق هذه الرؤية ومقياسها، هو كل ما يرتبط بوجود الإنسان وبأصل بقائه ودوام وجوده وحياته وكمالات هذا الوجود، وكلما كان عكس ذلك فالإنسان يعده شرا، أفلا يجوز السؤال حينئذ بأن الإنسان بات هو المحور في الخير والشر؟ في الحقيقة ليس الأمر كذلك، كما ليس بمقدور هذه الرؤية أن تسقط وجود الخير في نفسه والشر في نفسه، ومن ثم لا سبيل لها لإلغاء الحقيقة الذاتية المتقلة لقيمتي الخير والشر.

فهناك أمور هي خير في نفسها وفي نطاق تكوينها الذاتي مثل العدل والصدق والأمانة وإعانة الآخرين، كما هناك أمور هي شر في نفسها وفي نطاق تكوينها الذاتي كالظلم والكذب والخيانة والغدر بالآخرين. وبذلك تثبت وجود حقيقة ذاتية للخير والشر في نفسيهما.

المقدمة الثانية: وتتمحور حول سؤال يكتسب الصيغ التالية: أتعد الظواهر التي اعتدنا التعبير عنها بأنها شرور ومصائب أمورا وجودية أم هي أمور عدمية؟ فهل هي من قبيل البصر الذي هو أمر وجودي، أم هي من قبيل العمى الذي هو عدم البصر، ومن ثم فهو أمر عدمي؟

عندما نتحدث عن الفقر والألم والأمراض والمصائب وضروب الكوارث والفواجع التي تحصل للإنسان في حياته، وكذلك عن وجود الشيطان والنفس الأمارة والوسواس الخناس، فهل نحن نتحدث عن أمور وجودية أم عدمية؟

تكمن فلسفة هذه المقدمة والأسئلة التي تحف بها بنقطة أساسية لها دورها الكبير في معالجة إشكالية الشرور. فلو كانت الشرور أمورا وجودية، فلا ريب أنها تحتاج إلى مبدأ فاعلي، وإلى خالق وإلى موجد، انسجاما مع قاعدة أن "كل حادث يحتاج إلى محدث" و"أن كل ممكن يحتاج إلى واجب وغني يوجد ذلك الممكن"، وبكلمة أخرى أوضح نحتاج إلى تطبيق مبدأ العلية القاضي بأن كل معلول وهو الظاهرة، يحتاج إلى علة تخرجه إلى حيز الوجود.

أما لو كا ما يستحق وصف الشر والمصيبة أمرا عدميا، فمن الواضح أنه لا يحتاج إلى مبدأ فاعلي يوجده، لأن العدم ليس بشيء فيحتاج إلى فاعل وإلى مبدأ.

على هذا الأساس، إذا ما آمنا أن الشرور أمور وجودية فتحتاج عندئذ إلى مبدأ يسانخها، وهذا ما يشكلة الملحدون بكثرة، بأن الشرور والنقائص ما دامت موجودة إذن فالله الخالق لم يخلق العالم بأفضل هيئة، بل يثبت نقص في الخلق وبالتالي فإنه ليس بخالق مبدع!، أما إذا قلنا بأنها أمور عدمية فمن الجلي أنها لا تحتاج إلى مبدأ.

على ذلك ليس من الصعب أن ندرك بأنه إذا ثبت أن الشرور المتنوعة والمصائب والنقائص أمور وجودية، فدفاعنا عن عدل الله يقودنا إلى وجود خالق آخر يعمل على خلق الشرور في العالم، وهذا مبدأ الثنوية (الذين يؤمنون بوجود إلهين في العالم، آله للخير وآله للشر)، حيث إن مبدأ السنخية، وهو المبدأ القائل بأن الفاعل لأمر ما لابد أن يكون مسانخا لعمله، فالبناء الدقيق والجميل لابد أن يقودنا إلى مهندس ماهر مبدع، ومبدأ السنخية يقره القرآن الكريم أيضا في قوله: [قل كل يعمل على شاكلته] الإسراء : 84.

نحن إن لاحظنا كل ما يطلق عليه شر، فإنه عدم بوجه، وليس المقصور بالعدم بأنه العدم المطلق في مقابل الوجود المطلق. بل هو عدم الملكة أو العدم المضاف. فهو من قبيل العمى بالنسبة إلى البصر، فمع أن العمى عدم لكنه عدم ملكة، أي عدم كمال لما من شأنه أن يتصف بذلك الكمال. على هذا لا يقال للجدار أنه أعمى، لأنه ليس من شأنه أن يكون له كمال البصر حتى إذا فقد هذا الكمال وصف بالعمى.

أجل يصح ذلك على الإنسان، فهو الذي يتصف بالعمى، لما له من قابلية واستعداد كمالي للبصر، فإذا ما فقد هذا الكمال، سمي أعمى، والعمى هنا هو عدم كمال أو عدم ملكة أو عدم مضاف، وليس عدما مطلقا أو عدما في مقابل الوجود.

هكذا حال الشرور، فليس المقصود من وصفها بالعدم هو العدم المطلق وإنما العدم المضاف الذي له أحكام تختلف عن أحكام العدم المطلق. إن العدم المضاف هو فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذي من شأنه أن يوجد له ويتصف به، كأنواع الفساد العارضة للأشياء والنواقص والعيوب والعاهات والأمراض والأسقام والآلام الطارئة عليها، وهكذا عرفوه.

أدلة عدمية الشرور

حيث تنتهي هذه المقدمة إلى نتيجة فحواها أن الشرور هي أمور عدمية لا وجودية، وأن هذا العدم عدم ملكة لا عدم مطلق، فإن هذه النتيجة تحتاج إلى دليل وبرهان. وفي الواقع قدمت معطيات البحث الفلسفي العقلي في المسألة عددا من الأدلة، اتسم بعضها بالتعقيد وبعضها بالسهولة واليسر. مما استدلوا به على إثبات عدمية الشر برهان الخُلف أي تخلف المفروض (وهو الشر) عن المطلوب (وهو عدمية الشر) - هذا الدليل مذكور في كتاب نهاية الحكمة للحكيم محمد حسين الطباطبائي.

ومضمونه: أن الشر لو كان أمرا وجوديا لكان إما 1- شر لنفسه أو 2- شرا لغيره.

والأول محال، إذ لو اقتضى الشيء عدم نفسه لم يوجد من الأساس، والشيء لا يقتضي عدم نفسه ولا عدم شيء من كمالاته الثانية، لما بينه وبينها من الرابطة الوجودية، والعناية الإلهية بدورها توجب إيصال كل شيء إلى كماله.

والثاني أيضا محال، لأن كون الشر -والمفروض أنه أمر وجودي- شرا لغيره، 1- إما بكونه عادما لذات ذلك الغير، أو 2- عادما لشيء من كمالاته، أو 3- غير عادم لا لذاته ولا لشيء من كمالاته.

الأول والثاني غير جائزين، فإن الشر يكون حينئذ هو عدم ذلك الشيء أو عدم شيء من كمالاته دون الشيء العادم المفروض. وهذا خلف، أي تخلف عن تحقيق المطلوب.

والثالث غير جائز، لأنه إذا لم يعدم شيئا لا ذاتا ولا كمال ذات فلا يجوز أصلا اعتباره شرا، لما هو حاصل من العلم الضروري بأن ما لا يوجب عدم شيء ولا عدم كماله، فإنه لا يكون شرا له لعدم إضراره. وهكذا تكون النتيجة أن الشر ليس بوجودي كيفما فرض، وهو المطلوب.

هذا الطريق العقلي في إثبات عدمية الشرور، هناك طريق آخر وهو طريق الاستقراء، هذا الطريق الذي يتبع المنهج العلمي لإثبات عدمية الشرور، حيث إننا عند استقراء الأمور التي تسمى شرا، يلحظ أنها تؤدي هذا الدور.

فهي إما تحاول أن تعدم وجود شيء ما، أو تعدم كمالا لشيء ما.

وفي هذا الضوء، إنتهينا إلى أن الوجود خير محض، والعدم شر محض، فكل ما يطلق عليها شرور هي في الحقيقة ليست شرورا في ذاتها، وإنما تستحق وصف الشر لأنها تؤدي إلى إعدام وجود أو إعدام كمال وجود. فليست الجراثيم أو الأفعى السامة مثلا شرا لنفسها، وإنما هي شر لمن تؤذيه ولمن تفقده حياته أو تضر بصحته وتفقده سلامته. هكذا الحال بالنسبة إلى الفقر وأنواع المصائب والكوارث كالفيضانات.

ما تفيده هذه الرؤية هو: أي وجود في نفسه فهو خير وحسن، كما عبر القرآن الكريم [الذي أحسن كل شيء خلقه]، فكل شيء من الموجودات هو في نفسه حسن وجميل وخير. أجل، عندما تتزاحم هذه الموجودات فيما بينها وتتضاد يقع بينها علاقات فعل وانفعال، فتؤدي بعضها إلى انعدام بعض أو إلى انعدام بعض كمالات وجود آخر. هذه الخاصية المتمثلة بالتضاد والتزاحم والصراع تأتي في طليعة خصائص عالم المادة. فعالم المادة ممتلئ بالتزاحم، فالماء يزاحم النار والنار تزاحم الماء، والحيات والعقارب الحشرات السامة تزاحم بسمومها الإنسان، والإنسان يزاحم بأفعاله وجود الحيوانات، ويضر بها عبر تصرفاته بالبيئة والطبيعة. ومعنى ذلك أن الشرور هي من لوازم وجود المادة، وعالم المادة هو المنطقة التي تتحرك في مداها ظاهرة الشرور.

هذا ما عبرت عنه اللغة الفلسفية بأن الشر ليس أمرا بنفسه، بل أمر نسبي أو قياسي. فعند قياس شيء إلى شيء آخر ينتج الأمر العدمي، وما دام عدميا فهو لا يحتاج إلى علة حتى يتطلب مبدأ فاعليا أي خالقا. وهذا هو معنى ما ذهب إليه الفلاسفة والحكماء من أن الشرور أعدام بالذات لا أنها أمور وجودية، فليس للشر مصداق بالذات ومطلق، بل إذا كان له مصداق فهو مصداق بالعرض. وحين يكون الشر أمرا عدميا وليس بوجودي، فمن الطبيعي أنه لا يحتاج إلى علة؛ لأن العدم لا يحتاج إلى علة أو خالق.

إعادة إنتاج الإشكالية

انطلق العقل البشري لإعادة صياغة الإشكال من زاوية جديدة، يمكن القول أنها ترتبط بالهندسة الوجودية للكون، وهذه لا دخل لها في فلسفة الإيجاد.

فالسؤال هو ليس: لماذا خلق الله العالم؟ أو ما الحاجة لخلق العالم. بل السؤال هو: لماذا جعل الله سبحانه نظام عالم المادة بنحو تتزاحم فيه هذه الوجودات بحيث ينتهي الحال إلى بروز هذه الشرور، وإن كانت هذه الأخيرة شرورا نسبية وقياسية وليست شرورا نفسية؟

ألم يكن بمقدور الله أن يصمم عالم الإمكان على نحو بحيث لا تقع فيه حتى هذه الشرور النسبية؟ فالشبهة إذن لم تنقطع بعد، وما تزال الإشكالية قادرة على إعادة إنتاج نفسها، بإثارة أسئلة جديدة وتوليد معان أخرى منبثقة من مقولة الشرور ذاتها.

ومثال على ذلك: لماذا لم يخلق الله الحياة الدائمة بدل الموت؟ والثروة والرفاء بديلا للفقر والعوز؟ والقوة بديلا للضعف؟ والصحة بديلا للمرض؟ والجمال بديلا للقبح؟ واللذائذ والأفراح بديلا للمصائب والآلام؟ وهكذا. أليس الله بقادر على كل شيء وهو الحكيم الذي يخلق الأشياء على أحسن وجه وأقوم وجه؟

في معرض معالجة هذا الإشكال:

  • التزاحم هو من اللوازم الذاتية لعالم المادة، فلا يمكن أن توجد مادة بدون تزاحم، حيث إن من خصائصها الأصيلة التكامل، أي التحرك من القوة إلى الفعل، وبالتالي فإنه من لوازم ذلك التزاحم، ظهور النقص والفقدان، حيث إن كل وجود يحاول أن يتكامل على حساب الوجودات الأخرى. ومن هنا يظهر علة من علل التشريع، فإحدى علل التشريع هو إيجاد نظام لحل هذه الإشكالات والتزاحمات بين الوجودات.
  • التزاحم وإن نتج عنه شر، فهو قليل بالمقارنة بكم الخيرات والطبيعة الجميلة. فلو نظرنا إلى ما نسميه بالشرور من وجات أخرى، لوجدنا فيه الكثير منا الخير، مثلا: النار، النار من حيث كونها تحرق الإنسان، هي شر، ولكن لكثرة الفائدة منها أصبحت من البديهيات الطبيعية التي يستفيد منها الإنسان. هناك أمور لا يلحظ وجه الخير منها إلا بالمتابعة والتدقيق العلمي.
سوف أقوم بعمل مستقل آخر إن شاء الله، مكمل لهذا العمل، لمعالجة الإشكال الوارد على هذه المسألة من الملحدين المعاصرين. أي أعتبر الكلام في هذه المسألة غير منته.

مع التحيات
ليث




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق