نظرية "مادية الذهن والفكر" وإشكالاتها

بسم الله الرحمن الرحيم

عرضنا في البحث السابق للحركة في عالم الذهن والفكر، وكيفية نمو المعرفة، وتكلمنا عن التفسير المادي لهذا النمو، وقد أشرنا تعرضا لقضية كون الفكر ماهو إلا نتاج المادة وظاهرة من ظواهرها، ولكننا لم نعرض بالتفصيل لمسألة مادية الفكر.

الملحدون قاموا بتبني الفكر المادي وقرنوه بجميع تفاسيرهم للعالم، بل قدموا تفسيرا ماديا بحتا للعالم بجميع جوانبه، ومن أهم مباحثهم هي مسألة مادية الفكر كون الفكر عبارة عن نتاج لعالم المادة ولكنه نتاج أعلى وأرقى، ويعتبرونه نتيجة لتطور داروني، حيث ماهو إلا تطور كمي، ويعرض أحد الفلاسفة الملحدين بقوله: "إذا تجمع عندنا كم معين من خلايا عصبية، نتج عندنا بالطبيعة وعي وتفكير بدرجة معينة، وهذا يشير إلى أن التفكير هو عملية مادية بحت"، ولكن لم يبين هل أن هذه المسألة تم تجريبها مخبريا أم لا، ولم يفسر لنا معنى الوعي، ولم يفسر لنا طبيعة تحقق ذلك الوعي بالنسبة للكيان الذي يمثله، على الرغم من أنها طرحت أمام ريتشارد داوكنز، إلا أنه لم يعترض على كونها مدعى بلا دليل!

إن مبحث الإدراك أو عالم الذهن (سوف نعرض لمبحث الإدراك في آخر حلقة من سلسلة الرؤية الإسلامية للعالم)، من أهم المسائل التي حظيت بالاهتمام منذ القدم. وهناك آراء ووجهات نظر عديدة في هذا المجال. فالبعض سار في طريق الإفراط فحبس عالم الوجود بين أسوار عالم الذهن والإدراك. وعرف هؤلاء بالسوفسطائيين الذين يقف "غورجياس" على رأسهم والذي يعتبر الإنسان ميزان كل شيء.

الفيلسوف التجريبي الإنجليزي "باركلي"، الذي استوحى بعض أفكاره من فلسفة "لووك" وفلاسفة يؤمنون بمذهب الشك آخرين مثل "مالبرانش" و"بيربيل"، توصل إلى النتيجة التالية: لا وجود للمادة أو العالم المادي. كما أن وجود الأشياء عبارة عن مجرد إدراكها في الذهن ليس إلا.

الاختلاف بين فلسفة باركلي والسوفسطائيين يتمثل في أن الأخيرين ينكرون عالم الخارج بأي نحو من الأنحاء، ولا يعترفون بأيه حقيقة عدا الإدراك. أما باركلي فإنه وإن أنكر حقيقة المادة أو عالم المادة بشكل مستقل ومنفصل عن إدراك الإنسان، إلا إنه يعتقد بوجود الروح السرمدية الإلهية كمثال أعلى. وعليه يؤمن هذا الفيلسوف بنوعين من الوجود: (1) الأول هو التصورات، (2) والثاني هو الروح أو النفس التي توجد هذه التصورات.

وثمة سؤال يطرح نفسه على هذا الصعيد وهو: إذا لم يكن العالم المادي موجودا خارج ذهن الإنسان، وإذا كان كل شيء عبارة عن تصورات ذهنية فقط، إذن فمن أين تأتي هذه الأشياء التي يدركها الذهن والتي لا دخل له في صنعها وإيجادها؟

يجيب باركلي على هذا التساؤل بقوله أن الله هو الذي يلقي هذه التصورات في الذهن، وهو الذي ينقلها إلى الذهن وفق ترتيب أو نظام معين نطلق عليه إسم "القوانين الطبيعية".

إذن جميع الأشياء في العالم ذات جانبين وجوديين: (1) الأول في علم الله تعالى، (2) والثاني في ذهن الإنسان. ويطلق باركلي على الأول إسم "المثل الأعلى"، وعلى الثاني إسم "المثل الأدنى"، ولا أدري بماذا يفسر وجود نفسه وذهنه وكيفية تحققهما، وتحقق الناس من حوله الذين يتعامل معهم، فإذا كان يعتبر كل ذلك مجرد فيض إلهي أسماه المثال الأدنى، فإننا نتفق معه في الحقيقة أو المسمى ونختلف معه في التسمية ولا مشادة في التسمة.

وهكذا نرى أن هذا الفيلسوف ينكر العالم المادي خارج الذهن إلا إنه يؤمن إيمانا راسخا بوجود الله الخارجي والذي يدعوه بالمثل الأعلى.
  • الوجود في الفكر المادي
فريق آخر من المفكرين سار في طريق التفريط، لذلك يقول بأن جميع عالم الوجود ليس سوى مادة لا غير، أي إنه يقول بأصالة المادة ويقدمها على الذهن، ويرى أن ما يدعى بأسماء متنوعة ومتعددة كالذهن، والروح، والفكر، والشعور، ليس سوى فعالية المادة.

الفكر محصلة الدماغ، والدماغ عضو مادي. المادة موجودة بدون فكر، ولكن من المتعذر أن يوجد فكر بدون مادة. وعليه فالمادة هي الحقيقة العينية الوحيدة. والمادة مقولة فلسفية تخبر عن الواقع العيني. والواقع العيني لا يفهم سوى عن طريق الحواس، وسنبحث في مقال لاحق عن حقيقة ماهية المادة وعن مدى إمكان تفسيرها علميا (فيزيائيا) وكيفية تفسيرها فلسفيا بحيث تصبح مقولة فلسفية لا علمية.

ملاحظة: أجد من المهم جدا الالتفات إلى أن الثنائية التاريخية بين الروح والجسد، وهي ما أصبح في فترات طويلة معضلة فكرية لا تفسير لها، وهو كيفية ارتباط المجرد بالمادي ودور الجسد ودور الروح، غيرها من الأمور، قد تم حلها بعد أن طرح صدر الدين الشيرازي قاعدة الحركة الجوهرية في الفلسفة الإسلامية، فأصبح للجسد دور مهم في عملية تكامل الإنسان وليس دورا آليا فقط، فالجسد هو المرتبة المادية من النفس الإنسانية التي لها مراتب طولية كثيرة ومتعددة أعلاها ما سماه الفكر الديني بالروح، وهو ما يطلق عليه في اللغة الفلسفية بالعقل. وهكذا تنحل مشكلة ارتباط الروح بالجسد وفعالية الجسد، وينسد بالتالي الطريق على كل من يحاول أن يجعل النشاط الدماغي مبررا لإنكار وجود أي فعالية وراءه، فنحن أيضا نقول بأن الدماغ لابد أن يكون فعالا في عملية التفكير وغيرها، ولكن هذا لا يعني بأنه الحد النهائي للنفس الإنسانية لأسباب سيأتي ذكرها في المقال لاحقا.

خلاصة التبرير المادي للإدراك على أساس الرؤية المادية الرسمية هي أن نعتبر الإدراك خصوصية دماغية، والدماغ تركيبا ماديا دقيقا لا نظير له (ولكنه نتيجة طفرات عشوائية تسير لتكوين هذا العضو الدقيق في عمله)، فنعطي من خلال ذلك للإدراك صفة مادية صرفة. ولابد في مثل هذه الحالة أن نعتبر الإدراك ردة فعل فيزيوكيمياوية (أو بتعبير آخر منعكس شرطي) يبديها جهاز الإنسان العصبي تجاه عوامل المحيط والبيئة الفيزيوكيماوية!! مع أننا نرى أن للفكر دور الفاعلية لا فقط الانفعالية.
  • التناقض
إننا وعلى أساس المنطق المادي وبصرف النظر عما يذهب إليه الحكماء الإلهيون في هذا المضمار، وهو ما سنبحثه لاحقا كما قلنا، نواجه تضادا ماديا أساسيا. فإذا كان الإدراك نتاجا لبعض العوامل المحيطة الفيزيوكيماوية أو المنعكسات الشرطية، فسيكون الإدراك نتاجا متبادلا. فمثلما تؤثر البيئة الخارجية في ظهوره، تؤثر البيئة الداخلية في ظهوره أيضا. وفي مثل هذه الحالة لا نستطيع أن نقول بأن الصورة الحاصلة صورة عينية تماما أو غير ذهنية مطلقا أي أننا لا نستطع أن نجزم بأن ما نراه حال الصحة هو عين ما نراه حال المرض مثلا، أي أننا لا نأمن أن يكون الواقع الذي يراه كل شخص هو واقع ذاتي ولا تحقق له في الخارج، وبالتالي فإننا لا نستطيع بالتالي إثبات أي واقع موضوعي مطلقا، لأن التكوين المادي لكل إنسان مختلف بنحو عن الآخرين.

وعادة ما يجاب على هذا الإشكال بالشكل التالي: بما أن دماغ الإنسان والبيئة الخارجية كليهما مادي ونوع واحد، فمن الطبيعي أن لا تنطبق صور الإدراك مع أصلها، فالماديون يؤمنون بأن الإنسان يرى العالم بصورة ذاتية لا موضوعية! غير أن هذه الإجابة تخلق منذ البداية مشكلة غير قابلة للحل.

المشكلة هي أنه مع افتراض الثبوت الكامل للطبيعة وتماثل عواملها الفيزيوكيماوية، فالمنطق المادي يرفض أن تعطي هذه العوامل الفيزيوكيماوية الثابتة نتيجة واحدة خلال مجابهة العوامل الفيزيوكيماوية المتفاوتة. فلو صدقنا بأن تفاعل الحامض والقاعدة يؤدي إلى ظهور الملح دائما، فلابد أن نصدق أيضا بأن تفاعل قاعدة معينة مع حوامض مختلفة يؤدي إلى ظهور أملاح مختلفة. والنتيجة الحاصلة عن هذا الأصل هي:

بما أن الجهاز العصبي للإنسان والجهاز العصبي لصرصار صغير، ليس لديهما أواصر كيمياوية وخواص فيزيائية متماثلة، لذلك لا يمكن أن تتماثل صور الإدراك في ذهن الصرصار مع صور الإدراك في ذهن الإنسان.

فالصرصار والإنسان ليس بإمكانهما مشاهدة العالم بشكل واحد. وإذا كان الأمر كذلك: فمن منهما يرى العالم حقيقيا ومن منهما يراه غير حقيقي؟!

بمقدوركم أن تقولوا ببساطة: الإنسان. غير أن هذا التفكير ليس ماديا، لأنكم حينما تستطيعون إعطاء أصالة للإنسان أكبر من الصرصار، فيمكنكم أن تقولوا له برسالة خاصة من جانب الله تعالى أيضا، بمعنى آخر، عندما يصبح الإنسان هو مقياس وميزان التكامل فإننا أعطيناه رسالة خاصة مسؤول عن تحقيقها، وهذا شأن التفكير الإلهي لا المادي.

ومع ذلك، يتشبث الماديون في مثل هذا المأزق بموضوع التكامل ويقولون: بما أن الإنسان أحدث حلقة في سلسلة تطور الأنواع، فهو أكمل من الآخرين أيضا، ولابد أن يرى العالم في صورة أصح من رؤية الصرصار له!!

الإشكال المثار ضد هذه الفكرة هو أن الكمال أصل غير مادي، ومن أصول الفلسفة الأفلاطونية، ولا يمكن وضعه في الذهن بدون وجود مثال من الكمال أي أننا لا نستطيع وصف الإنسان بالكمال إلا بالقياس إلى شيء آخر فصفة الكمال من الصفات المضافة كالأكبر والأصغر وما شابهها، فنحن نقول "أكمل" وهي تطلق بالقياس إلى شيء آخر يعتبر مثالا للكمال. بل إن الكمال الذي يرسم معنى التكامل في الظاهر، لا ينسجم مع أصالة المادة، لأن الكمال في الحركة التكاملية لكل ظاهرة يمكن تبريره في صورتين:

(1) الأولى: أن تنطلق الظاهرة في كل حركة تكاملية ومستمرة بحيث توجب قيام هدف الإنسان على أساس الوعي والبصيرة.

(2) الثانية: رغم أن هدف الإنسان لا يلعب أي دور في الحركة التكاملية للظاهرة، لكن الظاهرة تتحرك نحو غاية ينتهي فيها هذا النوع من الحركة وتبدأ حركة جديدة. وسبب عدم لعب الإنسان دورا فيها هو أنه مسلوب الإرادة لكونه ريشة في مهب الريح، يحركه التطور بفعل الطفرات الجينية عشوائيا ويبقي الانتخاب الطبيعي الأصلح!! فالإنسان مسلوب الإرادة حقيقة، وقد نقلت كلاما فيما سبق للدكتور ويل برفاين وهو أستاذ التاريخ البايولوجي في جامعة كورنيل يقول: "لا إله، لا حياة بعد الموت، لا أساس عالي للأخلاق، لا معنى غائي في الحياة، لا يوجد إرادة حرة للإنسان" فالإنسان مسير من قبل الطفرات الجينية التي تقود تطوره، بلا تدخل منه.

الوصول إلى الغاية لا يفيد معنى الكمال إلا إذا كانت غاية الحركة محددة منذ البداية. ولا يتحقق تعيين معنى الغاية إلا في نوع من الإدراك. وبذلك نرى أن التكامل يفقد معناه بدون وجود هدف، أي أن الحياة يستحيل أن تنحى منحى التكامل بدون علة غائية.
  • التكمال بلا هدف
الماديون الذين يصرون على موضوع التكامل من خلال إنكار وجود الهدف في ميدان الوجود (ملاحظة: ولهذا نحن نجد المنظرين للإلحاد والمادية من أمثال داوكنز يحاولون بكل طريقة وضع قواعد أساسية لإعطاء قيمة لحياتهم، ونجد من ضمنها مثلا: هدف الوجود، أو أخلاق الملحد، وغيرها)، يواجهون إشكالا آخر يتمثل في تعذر حل مشكلة التكامل في وجود الإنسان، إذ لا يمكننا في مسار المادية أن نصل إلى موضع تنتهي فيه رسالة التاريخ بالإنسان. وإذا لم تنته رسالة التاريخ بالإنسان، فلابد أن نعترف بظهور موجود أكمل من الإنسان بعد الإنسان. ولابد للصور التي ترسم في دماغه أن تختلف عن صور إدراك الإنسان. وإذا كان الأمر كذلك، أي إذا كان الموجود الأكمل يرى الدنيا بشكل أصح من الموجود الأقل كمالا منه، فلابد من الاعتراف بأن رؤية الإنسان للعالم غير صحيحة كليا، أن العالم ليس كما نراه اليوم!

وفي مثل هذه الحال ينحدر أدعياء الواقع الموضوعي والواقعية وما شابه، إلى وادي السفسطة والشك المرعب. أي أن الرؤية القائلة بأصالة المادة، ستواجه مأزقا منطقيا حرجا في تفسير معنى التكامل وتبريره. ففي مثل هذا الافتراض سوف لن يبقى أي نموذج عقلاني ثابت يمكن أن يحدد به معنى الكمال، ولابد من اتخاذ التقدم أو التأخر الزماني في مسار الحركة المادية للتاريخ، معيارا لبلوغ الكمال أو عدمه. أي كلما تقدم الزمان، كلما اقتربت الحياة بأجيالها الجديدة من حقيقة الكمال، وهكذا نقع في فخ المادية التاريخة التي أقرتها الماركسية كفكر فلسفي، وهذا ما دعانا إلى التركيز عليها في أبحاثنا السابقة حتى هنا، وذلك لأننا نرى بأن المادية التاريخة لا تزال المحرك الحقيقي وراء حركات الإلحاد التي تدعوا لفكر مادي بحت، وهو نفسه الذي دعى الماركسة لاتخاذ جدلية التاريخ وتناقضاته مرتكزا أساسيا للفلسفة الماركسية.

وإذا كان باستطاعة أحد أن يكون لديه مثل هذا التصور فلابد له أن يعلم بأن الحركة التطورية على أساس المنطق المادي ليست على خط متسلسل واحد بحيث أن كل نوع عبارة عن فرد وحيد ظهر من النوع السابق. فهذه الولادة، أشبه بأوراق الشجرة التي تظهر من جهات مختلفة.

فلو أراد أحدهم أن يؤرخ لفترة تمتد إلى مليوني عام، فعليه أن يعلم بظهور ما لا يقل عن عشرات الأنواع الجديدة من الحيوانات والتي ينبغي أن تكون طبقا لهذا القياس أقرب إلى حقيقة الكمال من الإنسان. في مثل هذه الحال كيف يمكن للإنسان أن يدعي بأنه أقوى من هذه الحيوانات على إدراك حقيقة الأمور؟
  • تفسير الكمال في المادية
الماديون يقولون عادة في تفسير معنى التكامل: التكامل ليس سوى حركة دائمة نحو تعقيد الظاهرة، وهو بالتالي ضابط لتحديد النقص والكمال والبساطة والتعقيد في أنواع الظواهر. ولكن هل ستحل معضلة معنى "الكمال" من خلال تغيير الألفاظ وتبديل مفردة "الكمال" إلى مفردة "التعقيد" أو أية مفدرة أخرى مرادفة؟

الإجابة بالنفي قطعا، لأن مجرد تعقد شيء ما، لا يتضمن بالضرورة معنى كماله. فكم من نتاج فكري بسيط غلب نتاجا فكريا معقدا من حيث الكفاءة، وهذا لعله واضح جلي في الصناعات الحديثة. فإذا كان تعقيد الظاهرة يعني الغموض والتضارب في علاقاته وروابطه الداخلية والخارجية، فلا يصدق معنى الكمال في هذه الحالة قط. وإذا كان التعقيد بمعنى ظرافة التركيب وعمق الروابط لظاهرة ما في ظل نظام دقيق ومنسجم، فهذا هو الضابط العقلاني الذي يمكنه أن يفسر التكامل على أساس وجود العقل في ميدان الوجود.
  • الطريق المزدود
على أساس ما تم ذكره في مضمار أصالة المادة، فالطريق الوحيد الذي يبقى أمام الماديين هو الاعتراف بنسبية الحقائق، أي الاعتراف بأن حواس الكائنات الحية تخلق صورا متباينة على أساس نوعها وتركيبة خلقتها مع الاعتراف أيضا بواقعية جميع هذه الصور.

لا ريب في أن هذا الكلام لا يكون صحيحا إلا إذا أسمينا صور الإدراك باسم "الواقعية" طبقا لعقد عام. ولكننا لا ندري هل وقّع جميع أهل الإدراك على مثل هذا العقد أم لا؟

ولو فرضنا إطلاق اسم الواقعية على صور الإدراك لدى كل موجود صاحب شعور، فهل يمكن الادعاء بتساوي إدراك الواقعية عند كائنين حيين أو حتى عند فردين من أفراد النوع الإنساني؟

الإجابة على هذا التساؤل هي النفي قطعا طبقا للمنطق المادي، لأننا حينما لا نستطيع أن نفترض تساوي بيئة انسانين في ظل أية ظروف، فلابد لنا من الاعتراف بأن جميع الناس وإن كانوا أصحاب واقعية متساوية بالفطرة، ولكن لا يوجد من الناحية العلمية انسانان متماثلان بالواقعية. وفي مثل هذه الحال ينبغي أن تختلف التلقيات الحسية عند إنسان ما -والتي هي نتاج مشترك للتعاون المتبادل بين الطبيعة والذهن- عن التلقيات الحسية عند إنسان آخر.

الواقعية عند كل فرد من أفراد الإنسان ليست سوى ذلك الشيء الذي يفكر به. وهذا عين ما يسعى لإثباته بصراحة السوفسطائيون اليونانيون القدماء والمثاليون الجدد. وكذلك عين ما يحاول الماديون الابتعاد عنه بحسب ادعائهم.

على ضوء هذا الأمر يتضح بما لا يقبل الشك أن اؤلئك الذين يعتبرون المادة أصلا ويستندون إلى الأصول المنطقية المادية، يسقطون في نهاية المطاف في فخ السفسطة، وينحدرون إلى وادي المثالية رغم شوقهم الشديد للواقعية.

مثلما ذكرنا في بادئ الأمر، سلك البعض طريق الإفراط فأخذوا يعتبرون العالم ليس سوى عالم الذهن والفكر، وسلك آخرون طريق التفريط فاعتبروا الذهن والفكر شكلا من أشكال المادة. غير أن الدراسة الدقيقة لأصول المنطق المادي تكشف عن انتهاء هذا الفريق الثاني إلى الموضع الذي بدأ منه الفريق الأول، ووقوع الإثنين في خندق السفسطة والريبية أو مذهب الشك، ومجابهتهما معا للفلسفة التي قامت أساسا على المذهب الواقعي.

إذن الفلسفة الواقعية تنتهي إلى مواجهة مع كل من مذهبي الذهنية (المثالية والسفسطة) والمادية الذين يؤولون في نهاية الأمر إلى الذهنية.
  • طريقتنا في تفسير الظواهر الفكرية
وحان الوقت للتحدث عن طريق لا ينتهي لا إلى وادي الذهنية المحير ولا إلى مضيق المادية المظلم. ويتمثل في طريق الواقعية. فالمثاليون يقولون بأن ما يدعى بعالم الخارج ليس سوى امتداد لعالم الذهن. والماديون يقولون بأن ما يدعى بالذهن ليس سوى امتداد لعالم المادة. بينما يقول الواقعيون بأن عالم الذهن عالم الذهن، وعالم الخارج عالم الخارج. أي أن عالم الذهن وعالم الخارج عالمان مستقلان عن بعضهما البعض بالرغم من اتحادهما بنحو من الأنحاء.

لو قال المثاليون بأن هناك شكا في وجود عالم الخارج في مقابل عالم الذهن، وأن ادعاء إثباته عبارة عن مصادرة على المطلوب، فالرد عليهم هو: إذا ثبت عالم الذهن والإدراك عند شخص المدرك، فالبداهة الملاحظة في الإدراك والإحساس سوف تلقي خارجية الأشياء -التي هي في عالم الخارج- في الذهن أيضا.

إذن لا يوجد مجوز عقلي يدفعنا للأخذ بصحة الإحساس نفسه، بينما يرفض خارجية متعلقاته. ولهذا نقول بأن الإدراك لا يحول بين الذهن ومتعلقاته كما يتصور المثاليون، وإنما هو مرآة لعالم الخارج وكاشف عنه فقط.. وعليه لا يعد إثبات عالم الخارج في مقابل عالم الذهن مصادرة على المطلوب، وإنما هو من البديهيات الأولية.

إذن فالسؤال المهم الذي يمكن إثارته في هذا السياق هو: كيف يتم الارتباط بين الموجود الذهني والموجود الخارجي؟

سوف نبحث في إجابة هذا السؤال بحثا مستفيضا في نظرية المعرفة بإذن الله تعالى لاحقا، ولكن لا يمنع ذلك أن أجيب عن هذا السؤال على نحو الإجمال، فهناك العديد من الإجابات عن هذا التساؤل منها:

أولا: أنه لا توجد أية رابطة بين الموجود الذهني والموجود الخارجي. غير أن هذه الإجابة تعبر عن الجهل المطلق، لأن العلم في مثل هذه الحالة يفقد هويته التي هي تسليط الضوء على عالم الخارج، والذي له دور الكاشفية.

ثانيا: إنه توجد رابطة لازمة بين الموجود الذهني والموجود الخارجي. وفي مثل هذه الحالة لابد من التساؤل: هل هذه الرابطة من سنخ الوجود ونوعه أم أنها شيء آخر؟ فإذا قيل أنها من سنخ الوجود ونوعه، فلابد أن يسأل: هل هي من سنخ الوجود الخارجي أم من سنخ الوجود الذهني وما الفرق بينهما؟

ولا ريب في أن الإجابة على أي شق من هذا السؤال، ستواجه إشكالا خاصا بها، إذ لو كانت الرابطة بين الموجود الذهني والموجود الخارجي من سنخ الوجود الخارجي، لاستلزم ذلك انقالب عالم الخارج إلى عالم الذهن. وإذا كانت هذه الرابطة من سنخ الوجود الذهني لاستلزم ذلك انقلاب عالم الذهن إلى عالم الخارج. وهذان الافتراضان كلاهما محال، لأن عالم الخارج عين منشئية الآثار، بمعنى أن عالم الخارج أو الوجود الخارجي هو الذي تترتب عليه الآثار، فالوجود الخارجي للنار هو الذي يترتب عليه الإحراق، بينما عالم الذهن عالم عدم ترتب الآثار الخارجية، فصورة النار في الذهن لا يترتب عليها إحراق ولا شيء من ذلك القبيل، وقد تكلمنا بالتفصيل في المقال السابق عن هذه المسألة.

إذن فالرابطة بين الوجود الخارجي والوجود الذهني، شيء غير الوجود، أو ليس من نوع الوجود، والتي يمكن التعبير عنها بالماهية. فالماهية من حيث هي ليست إلا هي، وليس لها تحقق حقيقي في الخارج، ولكن الذهن يخلقها لتمييز الموجودات بعضها عن البعض الآخر، بمعنى آخر، أن الماهية ليست في الحقيقة إلا مجموعة حدود الوجود التي يتميز بها عن الوجود الآخر، فالحجر يتميز عن الصرصار من خلال مجموعة من الحدود التي تميزه، فعندما ترى الصرصار تقول عليه إنه صرصار بينما عندما ترى الحجر لا تقول عنه إلا أنه حجر ولا تقول عنه بأنه صرصار، وهذه الحدود التي بواسطتها تميز وجودا عن وجود آخر تسمى بالماهية.

إذن فالفاصل بين عالم الخارج وعالم الذهن والذي يقف برزخا غير قابل للعبور، لا يمكن إزالته إلا بواسطة الماهيات فقط، أي أن الماهيات هي التي تمهد للعبور من عالم الخارج إلى عالم الذهن.

على ضوء ما أشرنا إليه يتضح أن الماهيات ذات نمطين من الوجود:
  1. وجود خارجي.
  2. وجود ذهني.
بتعبير آخر: الماهية شيء موجود في الخارج بوجود خارجي، وموجود في الذهن بوجود ذهني، كما أنها موجودة في عالم الخارج وفي عالم الذهن رغم أنها في حد ذاتها غير مقيدة لا بعالم الخارج ولا بعالم الذهن، فهي كما قلنا لا تمثل إلى حدود الوجود الخارجي التي تؤطر صورته في الوجود الذهني.

يمكن القول بعبارة أخرى: الماهية من حيث هي ماهية لا موجودة ولا معدومة، لا خارجية ولا ذهنية، ولا يصدق عليها عموما أي مفهوم وعنوان سوى المقام الماهوي. وعليه يجوز ارتفاع النقيضين في مقام ذات الأشياء.

ورغم أن الماهية في مقام ذاتها ليست مصداقا لأي عنوان خارج عنها، لديها في ميدان الوجود ظهورات وبروزات مختلفة. فهي تظهر في كل عالم بما ينسجم مع الكيفية الوجودية لذلك العالم.

الماهية لا تظهر في عالم الخارج إلا بوجود خارجي، ولا تظهر في عالم الذهن إلا بوجود ذهني. كما تظهر في سائر العوالم العالية والنشآت المتعالية بما ينسجم مع النحو الوجودي لتلك العوالم. فكما قلنا هي ليست شيئا وراء حدود الوجود في مرتبة من مراتبه، وكمثال على ذلك، فإننا لو أخذنا السرعة، فالسرعة في حد ذاتها ليس لها لا وجود ولا عدم، وليس لها تحقق إلا بتحقق وجود متحرك، وكل وجود متحرك له سرعة معينة، وليس التفاوت في السرعات إلا بتبع التفاوت بين المقامات والمراتب الوجودية للوجودات المتحركة كالسيارة والطائرة مثلا، فنقول بأن السيارة تسير بسرعة 100 بينما الطائرة تسير بسرعة 1000، فليس الاختلاف في السرعة أمر عائد لشيء غير السرعة. كذلك لو طبقت نفس المثال على الضوء ومراتب شدته وضعفه.

يبدو من الضروري الاشارة إلى الأمر التالي، وهو أن الماهية وإن كانت ذات ظهور مختلف باختلاف العوالم، إلا أنها ذات واحدة وحقيقة واحدة. فرغم ظهور الاستعداد في ميدانها الحياتي بصور مختلفة وفعليات متفاوتة خلال مسارها التطوري، لكنها ليست سوى حقيقة واحدة في عالم الوجود، فالاستعداد بحد ذاته مفهوم واحد، يصدق على كل وجود بما يتناسب وذلك الوجود، فالاستعداد كمفهوم يصدق على الفحم في استعداده للاشتعال، وعلى الماء في استعداده للتبخر وهكذا.

مما سبق يتضح أن العلم والإدراك عبارة عن نمط خاص من الوجود يدعى بالوجود الذهني. كذلك الوجود في الخارج نمطا آخر من الوجود يدعى بالوجود الخارجي.

إذن الاختلاف بين الموجود الخارجي وصورته في الذهن يكمن في نمط الوجود، غير أن ماهية الموجود في الذهن هي ذات ماهية الموجود في الخارج. وهذه هي ذات النظرية الدقيقة التي ابتدعها صدر المتألهين الشيرازي الفيلسوف الإسلامي الكبير، والتي يعتبر فيها الاختلاف بين الموجود الخارجي والموجود الذهني من نوع الاختلاف في الحمل.

يقول صدر الدين الشيرازي: الموجود الذهني هو عين الموجود الخارجي بالحمل الأولي الذاتي، لكنه يختلف عنه بالحمل الشائع الصناعي. وهذا الكلام هو نص ما شرحناه قبل قليل ولكن بلغة فلسفية.

ولربما لا يبتعد عن الحقيقة القول التالي: الوجود الذهني هو إشراق النفس الناطقة التي تتوزع تشعشعاتها على الماهيات. أي مثلما يمتد الوجود المنبسط والفيض المقدس الرحماني على جميع الماهيات ويتحد معها في الخارج، يمتد إشراق النفس الناطقة على الماهيات وتحد معها في الذهن أيضا. وقد قيل: "الحكمة صيرورة النفس الإنسانية عالما عقليا مضاهيا للعالم العيني".

على ضوء ما أشرنا إليه يتضح ما يلي:

(1) أولا: أن تقسيم الوجود إلى قسمين خارجي وذهني، تقسيم أولي يعرض على الوجود بدون أية واسطة. أي أن الوجود يقبل هذا التقسيم بدون أن يتعين قبل ذلك بتعيين طبيعي أو رياضي. إذن تقسيم الوجود إلى قسمين ذهني وخارجي، من التقيسمات الأولية، على غرار تقسيمه إلى حادث وقديم، وعلة ومعلول ومجرد ومادي.

(2) ثانيا: إن الإدراك عبارة عن نمط من الوجود. وبما أنه متحد مع الماهيات في الذهن ومحيط بها، لابد من الاعتراف باتحاد العالم والمعلوم.

الاتفات إلى الأمر التالي ضروري: ما طرحه الحكيم فرفوريوس على صعيد اتحاد العالم والمعلوم، هو أن الذي يتحد مع العالم دائما معلوم بالذات وليس معلوما بالعرض، لأن المعلوم بالعرض من مراتب الخارج ومنشأ الآثار. وسبق أن عرفنا بأن عالم الخارج ليس باستطاعته أن يكون عالم الذهن.

إذن فالوجود الخارجي لا يتعلق به العلم والإدراك قط. فالوجود الذهني هو الذي يعلم للإنسان بدون واسطة. لكن بما أن ماهية الموجود في الذهن هي عين ماهية الموجود في الخارج، سيكون الموجود الخارجي معلوما بالعرض بواسطة الاتحاد مع الماهية.

إذن عالم الذهن طبقا لفكرة الواقعيين نحو من الوجود، بحيث يتيسر للإنسان بلوغ واقعية وحقيقة الموجودات الخارجية إذا لم يحصل انحراف في الإدراك، عن طريق انتزاع صورة للماهيات الخارجية. وحينذات يصبح ملاك الصواب والخطأ، أو الواقعي والموهوم، عبارة عن انطباق الإدراك أو عدم انطباقه مع نفس الأمر أو الوجود الخارجي للأشياء.

معظم الفلاسفة المسلمين -لا سيما صدر المتألهين الشيرازي (أو صدر الدين الشيرازي)- أقاموا فلسفتهم على أساس الواقعية، وطرحوا مسألة الوجود الذهني في باب الإدراك أو مبحث قيمة المعلومات أو قيمة المعرفة كما سنبحثها لاحقا في نظرية المعرفة.

قلما نواجه تعبير "الوجود الذهني" في سائر المذاهب الفكرية والفلسفية خلال تحدثها عن الإدراكات أو تناولها لمبحث قيمة المعرفة. فمعظم المذاهب الفلسفية قلما تعطي قيمة وجودية للإدراكات بحيث تحجم عن استخدام مفردة "الوجود" في موضوع العلم والإدراك. ويبدو أن مفردة "الوجود" عندهم تساوق "المادية" أو "الخارجية".

في آثار صدر المتألهين وأتباعه الكثير من البراهين التي تثبت الوجود الذهني والتي لا يسعها هذا الموجز، والواقع الخارجي أو الواقع الموضوعي أيضا له براهين كثيرة تدرس في مبحث نظرية المعرفة سواء على المذهب العقلي أو التجريبي أو الذاتي.
  • النتيجة
وهكذا نعلم بأن مسألة مادية الفكر، أمر عويص ليس من السهل التملص والتهرب منه من قبل الماديين (الملحدين)، وكان لزاما عليهم حل كل هذه الإشكاليات بدل البحث عن التجربة وراء النشاط الإلكتروكيميائي للدماغ، فالقضية العلمية التي تتعلق بالدماغ لا شأن لها بالإدراك، فلو نظرنا إلى نشاط الدماغ عندما يحاول شخص ما تحريك يده للكتابة أو تحريك نفس اليد للضرب، لن نلاحظ تغيرا في نشاط الدماغ الإلكتروكيميائي، فمسألة الفكر والإدراك أمر وراء المادة، وما الدماغ إلى المرتبة المادية للنفس الإنسانية كما ألمحنا سابقا.

ما أريد قوله ختاما هو: التأكيد مرة أخرى على أن الثنائية التي تفهم بسذاجة وبساطة وغباء أحيانا من قبل الملحدين، ثنائية الروح والجسد، مع الأسف ينظر لها بسطحية وتفهم بسطحية كبيرة من قبلهم، فهم يتصورون بأن الروح حالة في الجسد أو أن الجسد هو آلة الروح للتصرف، وما فهموا بأن الجسد هو المرتبة المادية للنفس الإنسانية، فسيرها المادي طبيعي وليس هناك سلب لأصالته أو أصالة المراتب المجردة من النفس الإنسانية، بحثها يأتي في مبحث الإدراك في مقالات قادمة إن شاء الله.

نقلا عن مقدمة الدكتور حسين الإبراهيمي على كتابه القواعد الفلسفية العامة في لفلسفة الإسلامية بتصرف كثير.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق