الإدراك

بسم الله الرحمن الرحيم

الإدراك - هل الإدراك مادي أم مجرد؟
  • الجوانب العلميّة في دراسة الإدراك
المسألة الفلسفية الكبرى في الإدراك هي محاولة صياغته في مفهوم فلسفي يكشف عن حقيقته وكنهه، ويوضّح ما إذا كان الإدراك ظاهرة مادّية، توجد في المادّة حين بلوغها مرحلة خاصّة من التطوّر والتكامل، كما تزعم المادّية، أو ظاهرة مجرّدة عن المادّة، ولوناً من الوجود وراءها ووراء ظواهرها، كما هو معنى الإدراك في مفهومه الفلسفي لدى الإلهية. بمعنى هل باستطاعة المادية إعطاء صياغة مقنعة للقفزة من القضية الأولى وهي القضية العلمية التي تدرس الدماغ عضويا، إلى القضية الثانية وهي مفهوم الإدراك؟ هل من الممكن إيجاد ربط وتفسير فلسفي مادي يشمل العمل العضوي ويربطه بنجاح وظيفيا بمفهوم الإدراك؟

والمادية تؤكّد بطبيعة الحال على المفهوم المادّي للفكر والإدراك، كما يتّضح من النصوص الماركسية التالية:

قال ماركس:

"لا يمكن فصل الفكر عن المادّة المفكّرة؛ فإنّ هذه المادّة هي جوهر كلّ التغيّرات".

وقال أنجلز:

"إنّ شعورنا وفكرنا -مهما ظهرا لنا متعاليين- ليسا سوى نتاج عضو مادّي جسدي، هو: الدماغ".

"إنّ كلّ ما يدفع الناس إلى الحركة يمرّ في أدمغتهم بالضرورة، حتّى الطعام والشراب، اللذان يبدآن بإحساس الجوع أو العطش، وهو إحساس يشعر به المخّ أيضاً. إنّ ردود فعل العالم الخارجي على الإنسان تعبّر عن نفسها في مخّه، وتنعكس فيه على صورة إحساسات، وأفكار، ودوافع، وإرادات".

وقال جورج بوليتزير:

"تُبيّن العلوم الطبيعية أنّ نقص تطوّر مخّ أحد الأفراد هو أكبر عائق أمام تطوّر شعوره وفكره، وهذه هي حالة البله. فالفكر نتاج تأريخي لتطوّر الطبيعة في درجة عالية من الكمال، تتمثّل لدى الأنواع الحية في أعضاء الحسّ والجهاز العصبي، وعلى الخصوص في الجزء الأرقى المركزي الذي يحكم الكائن العضوي كلّه، ألا وهو المخ".

وقال روجيه غارودي:

"إنّ التكوّن المادّي للفكر يعرض علينا -كما سوف نرى- حججاً هي أجدر بالتصديق والاقتناع بها".

وليس المفهوم الفلسفي هو المفهوم الوحيد للإدراك الذي يمكن تقديمه على صعيد البحث والدرس؛ لأنّ الإدراك ملتقىً لكثير من البحوث والدراسات.

ولكلّ دراسة من تلك الدراسات العلمية مفهومها الخاصّ الذي يعالج إحدى مشاكل الإدراك المتنوّعة، وجانباً من أسرار الحياة العقلية المثيرة بغموضها وتعقيدها. ووراء تلك المفاهيم العلمية جميعاً المفهوم الفلسفي الذي يقوم فيه الصراع بين المادّية والإلهية، كما سبق. فموضوعنا -إذن- مثار لألوان شتّى من البحوث الفلسفية والعلمية.

التمييز بين البحث الفلسفي والعلمي
وقد وقع كثير من الكتّاب والباحثين في الخطأ، وعدم التمييز بين النواحي التي ينبغي للدراسات العلمية أن تتوافر على تمحيصها وتحليلها، وبين الناحية التي من حقّ البحث الفلسفي أن يعطي كلمة فيها. وعلى أساس هذا الخطأ قام الزعم المادّي القائل بأنّ الإدراك في مفهومه الفلسفي لدى الإلهية يتعارض مع الإدراك في مفاهيمه العلمية. فقد رأينا كيف يحاول (جورج بوليتزير) أن يبرهن على مادّية الإدراك من ناحية فلسفية بدلائل العلوم الطبيعية، وقد قام غيره بنفس محاولته أيضاً.

ولذلك نجد لزاماً علينا أن نحدّد الموقف الفلسفي في المسألة؛ لنقضي على المحاولات الرامية إلى الخلط بين المجال الفلسفي والمجال العلمي، وإلى اتّهام التفسير الميتافيزي للإدراك بمجافاة العلم ومنافاته لحقائقه ومقرّراته.

وعلى هذا سنقوم بتصفية للموقف العام تجاه الإدراك، ونلقي على ألوان البحث العلمي شيئاً من الضوء، يحدّد لنا نقاط اختلافنا مع المادّية عامة، ومع الماركسية على وجه الخصوص، كما يحدّد لنا النواحي التي يمكن للدراسات العلمية أن تمسّها وتبحثها؛ حتّى يصبح من الواضح أنّ هذه الدراسات لا يمكن اعتبارها مستمسكاً للمادّية في معتركها الفكري الذي تخوضه مع الميتافيزية في سبيل وضع المفهوم الفلسفي الأكمل للإدراك.

وقد ألمعنا فيما سبق إلى تعدّد تلك النواحي التي مسّتها تلك البحوث العلمية أو عالجتها من الإدراك؛ لتعدّد ما يتّصل بجوانبه المختلفة من علوم، بل لتعدّد المدارس العلمية من العلم الواحد، التي عالجت كلّ واحدة منها الإدراك بمنظارها الخاصّ. فهناك بحوث الفيزياء والكيمياء تدرس جانباً من جوانب الإدراك، وهناك الفيزيولوجيا تأخذ بحظّها من الدراسة، وهناك -أيضاً- السيكولوجيا بمختلف مدارسها: من المدرسة الاستبطانية، والسلوكية، والوظيفية، وغيرها من مدارس علم النفس، تتوفّر جميعاً على درس جوانب عديدة من الإدراك. ويجيء بعد ذلك كلّه دور علم النفس الفلسفي؛ ليتناول الإدراك من ناحيته الخاصّة، ويبحث عمّـا إذا كان الإدراك في حقيقته حالة مادّية قائمة بالجهاز العصبي، أو حالة روحية مجرّدة؟

وفيما يلي نضع النقاط على الحروف في تلك النواحي المتشعّبة بالمقدار الذي ينير لنا طريقنا في البحث، ويوضّح موقفنا من المادّية.

الإدراك في مستوى الفيزياء والكيمياء:

تعالج بحوث الفيزياء والكيمياء في مستواها الخاصّ الأحداث الفيزيائية الكيميائية التي تواكب عمليات الإدراك في كثير من الأحايين، كانعكاس الأشعّة الضوئية من المرئيات، واستجابة العين السليمة لتلك الانعكاسات، والتغيّرات الكيميائية التي تحدث بسبب ذلك، والموجات الصوتية، والذرّات الكيميائية الصادرة عن الأشياء ذات الرائحة، والأشياء ذات الطعم، وما إلى ذلك من منبّهات فيزيائية، وتغيّرات كيميائية. فكلّ هذه الأحداث تقع في حدود اختصاص الفيزياء والكيمياء وفي مستوى نشاطهما العلمي.

الإدراك في مستوى الفيسيولوجيا:

في ضوء التجارب الفيسيولوجية استكشفت عدّة أحداث وعمليات تقع في أعضاء الحسّ، وفي الجهاز العصبي وعلى رأسه الدماغ، وهي وإن كانت ذات طبيعة فيزيائية كيميائية، كالعمليات السابقة، ولكنّها في نفس الوقت تمتاز على تلك العمليات بكونها أحداثاً تجري في جسم حيّ، فهي ذات صلة بطبيعة الأجسام الحيّة.

وقد استطاعت الفيسيولوجيا بكشوفها تلك أن تحدّد الوظائف الحيوية للجهاز العصبي، وما لأجزائه المختلفة من خطوط في عمليات الإدراك. فالمخّ -مثلا- ينقسم بموجبها إلى أربعة فصوص، هي: الفصّ الجبهي، والفصّ الجداري، والفصّ الصدغي، والفصّ المؤخّري، ولكلّ فصّ وظائفه الفيسيولوجية، مع تفاصيل كثيرة ليس البحث هنا محلها. فالمراكز الحركية تقع في الفصّ الجبهي، والمراكز الحسّية التي تتلقّى الرسائل من الجسم تقع في الفصّ الجداري. وكذلك حواسّ اللمس والضغط. أمّا مراكز الذوق، والشمّ، والسمع الخاصّة، فتقوم في الفصّ الصدغي، في حين تقوم المراكز البصرية في الفصّ المؤخّري، إلى غير ذلك من التفاصيل.

ويستعمل عادة للتوصّل إلى الحقائق الفيسيولوجية في الجهاز العصبي أحدُ المنهجين الرئيسيين في الفيسيولوجيا: الاستئصال، والتنبيه. ففي المنهج الأوّل تستأصل أجزاء مختلفة من الجهاز العصبي، ثمّ تُدرس تغييرات السلوك الناجمة عن ذلك. وفي المنهج الثاني تُنبّه مراكز محدودة في لحاء المخّ بوسائل كهربائية، ثمّ تسجّل التغيّرات الحسّية أو الحركية التي تنجم عن ذلك.

ومن الواضح جدّاً: أنّ الفيزياء والكيمياء والفيسيولوجيا لا تستطيع بوسائلها العلمية، وأساليبها التجريبية إلاّ أن تكشف عن أحداث الجهاز العصبي، ومحتواه من عمليات وتغيّرات. وأمّا تفسير الإدراك في حقيقته وكنهه فلسفياً، فليس من حقّ تلك العلوم؛ إذ لا يمكن لها أن تثبت أنّ تلك الأحداث المعيّنة هي نفسها الإدراكات التي نحسّها من تجاربنا الخاصّة. وإنّما الحقيقة التي لا يرقى إليها شكّ ولا جدال هي: أنّ هذه الأحداث والعمليات الفيزيائية، والكيميائية، والفيزيولوجية، ذات صلة بالإدراك، وبالحياة السيكولوجية للإنسان، فهي تلعب دوراً فعّالا في هذا المضمار، إلاّ أنّ هذا لا يعني صحّة الزعم المادّي القائل بمادّية الإدراك؛ فإنّ فرقاً واضحاً يبدو بين كون الإدراك شيئاً تسبقه أو تقارنه عمليات تمهيدية في مستويات مادّية، وبين كون الإدراك بالذات ظاهرة مادّية، ونتاجاً للمادّة في درجة خاصّة من النموّ والتطوّر، كما تزعم الفلسفة المادّية.

فالعلوم الطبيعية -إذن- لا تمتدّ في دراستها إلى المجال الفلسفي -مجال بحث الإدراك في حقيقته وكنهه- بل هي سلبية من هذه الناحية، بالرغم من قيام المدرسة السلوكية في علم النفس بمحاولة تفسير حقيقة الإدراك والفكر في ضوء الكشوف الفيزيولوجية، وخاصّة الفعل المنعكس الشرطي الذي يؤدّي تطبيقه على الحياة السيكولوجية إلى نظرة آلية خالصة تجاه الإنسان، وسيأتي الحديث عن ذلك.

الإدراك في البحوث النفسية:

تنقسم البحوث السيكولوجية التي تعالج مشاكل النفس وقضاياها إلى قسمين:

(1) أحدهما البحوث العلمية التي يتكوّن منها علم النفس التجريبي.
(2) والآخر البحوث الفلسفية التي يتحمّل مسؤوليتها علم النفس الفلسفي، أو فلسفة علم النفس. ولكلّ من علم النفس وفلسفته طرائفه وأساليبه الخاصّة في الدرس والبحث.

أمّا علم النفس، فهو يبدأ من النقطة التي تنتهي عندها الفيزيولوجيا، فيتناول الحياة العقلية وما تزخر به من عمليات نفسية بالدرس والتمحيص.

وله في دراساته العملية منهجان رئيسيان:

(1) أحدهما الاستبطان الذي يستعمله كثير من السيكولوجيين، ويميّز بصورة خاصّة المدرسة الاستبطانية في علم النفس؛ إذ اتّخذت التجربة الذاتية أداة لبحثها العلمي، ونادت بالشعور موضوعاً لعلم النفس.

(2) والمنهج الآخر التجربة الموضوعية، وهو المنهج الذي احتلّ أخيراً المركز الرئيسي في علم النفس التجريبي، وأكّدت على أهمّيته -بصورة خاصّة- السلوكية التي اعتبرت التجربة الموضوعية مقوّماً أساسياً للعلم، وزعمت لأجل ذلك: أنّ موضوع علم النفس هو السلوك الخارجي؛ لأنّه وحده الذي يمكن أن تقع عليه التجربة الخارجية، والملاحظة الموضوعية... والحقائق التي يتناولها علم النفس هي الحقائق التي يتاح الكشف عنها بالاستبطان، أو التجربة الخارجية.

وأمّا ما يقع خارج الحدود التجريبية من الحقائق، فليس في إمكانات السيكولوجيا التجريبية أن تصدر حكمها في شيء من ذلك، أي: إنّها تمتدّ ما امتدّ الحقل التجريبي، وتنتهي بنهايته. وتبدأ -حينئذ- فلسفة علم النفس (أو علم النفس الفلسفي) من النقطة التي انتهى إليها العلم التجريبي، كما بدأت السيكولوجيا شوطها العلمي من حيث انتهت الفيزيولوجيا. والوظيفة الأساسية للفلسفة النفسية هي محاولة الكشف عن تلك الحقائق التي تقع خارج الحقل العلمي والتجريبي؛ وذلك بأن تأخذ الفلسفة المسلّمات السيكولوجية التي يموّنها بها العلم التجريبي، وتدرسها في ضوء القوانين الفلسفية العامة، وعلى هدي تلك القوانين تُعطى للنتائج العلمية مفهومها الفلسفي، ويُوضع للحياة العقلية تفسيرها الأعمق.

فالصلة بين علم النفس وفلسفته كالصلة بين العلوم الطبيعية التجريبية وفلسفتها؛ إذ تدرس علوم الطبيعة ظواهر الكهرباء المتنوّعة، من تيارات ومجالات، وجهد وحثّ كهربائيين، وما إلى ذلك من قوانين الكهرباء الفيزيائية. وتدرس على هذا النحو -أيضاً- مختلف ظواهر المادّة والطاقة. وأمّا حقيقة الكهرباء، وحقيقة المادّة أو الطاقة، فهي من حقّ البحث الفلسفي. وكذلك الأمر في الحياة العقلية؛ فإنّ البحث العلمي يتناول الظواهر النفسية التي تدخل في نطاق التجربة الذاتية أو الموضوعية، ويوكل الحديث عن طبيعة الإدراك، وحقيقة المحتوى الداخلي للعمليات العقلية، إلى فلسفة النفس، أو علم النفس الفلسفي.

وفي ضوء هذا نستطيع أن نميّز -دائماً- بين الجانب العلمي من المسألة، والجانب الفلسفي. وفيما يلي مثالان لذلك من مواضيع البحث السيكولوجي:

المثال الأوّل: الملكات العقلية التي يلتقي فيها الجانبان معاً. فالجانب الفلسفي يتمثّل في نظرية الملكات القائلة بتقسيم العقل الإنساني إلى قوى وملكات عديدة لألوان من النشاط، كالانتباه، والخيال، والذاكرة، والتفكير، والإرادة، وما إليها من سمات. فهذه الفكرة تدخل في النطاق الفلسفي لعلم النفس، وليست فكرة علمية بالمعنى التجريبي للعلم؛ لأنّ التجربة -سواء كانت ذاتية كالاستبطان، أم موضوعية كالملاحظة العلمية لسلوك الغير الخارجي- ليس في إمكاناتها علمياً أن تكشف عن تعدّد الملكات أو وحدتها؛ فإنّ كثرة القوى العقلية أو وحدتها لا تقعان في ضوء التجربة مهما كان لونها.

وأمّا الجانب العلمي من مسألة الملكات، فيعني نظرية التدريب الشكلي في التربية التي تنصّ على أنّ الملكات العقلية يمكن تنميتها -ككلّ وبلا استثناء- بالتدريب في مادّة واحدة، وفي نوع واحد من الحقائق. وقد أقرّ هذه النظرية عدّة من علماء النفس التربوي، المؤمنين بنظرية الملكات التي كانت تسيطر على التفكير السيكولوجي إلى القرن التاسع عشر، افتراضاً منهم أنّ الملكة إذا كانت قوية أو ضعيفة عند شخص، كانت قويّة أو ضعيفة في كلّ شيء.

ومن الواضح: أنّ هذه النظرية داخلة في النطاق التجريبي لعلم النفس، فهي نظرية علمية؛ لأنّها تخضع للمقاييس العلمية، فيمكن أن يجرّب مدى تأثّر الذاكرة بصورة عامة بالتدريب على استذكار مادّة معيّنة، ويتاح للعلم -حينئذ- أن يعطي كلمته في ضوء تجارب من هذا القبيل، وتقدّم -حينذاك- النتيجة العلمية للتجربة إلى فلسفة العلم السيكولوجي؛ ليدرس مدلولها الفلسفي، وما تعنيه من تعدّد الملكات أو وحدتها في ضوء القوانين الفلسفية.

المثال الثاني: نأخذه من صلب الموضوع الذي نعالجه، وهو عملية الإدراك البصري؛ فإنّها من مواضيع البحث الرئيسية في الحقل العلمي والفلسفي على السواء.

ففي البحث العلمي يثور نقاش حادّ حول تفسير عملية الإدراك بين الارتباطيين من ناحية، وأنصار مدرسة الشكل والصيغة (الجشطالت) من ناحية اُخرى. والارتباطيون هم الذين يعتبرون التجربة الحسّية هي الأصل الوحيد للمعرفة. فكما يحلّل علماء الكيمياء المركّبات الكيميائية إلى عناصرها البدائية، يحلّل هؤلاء مختلف الخبرات العقلية إلى إحساسات أوّلية، ترتبط وتتركّب بعمليات آلية ميكانيكية، طبقاً لقوانين التداعي.
وفي هذه النظرية الارتباطية ناحيتان:

الاُولى: أنّ مردّ التركيب في الخبرات العقلية إلى إحساسات أوّلية (معان بسيطة اُدرِكت بالحسّ).
والثانية: أنّ هذا التركيب يوجد بطريقة آلية، وطبقاً لقوانين التداعي.

أمّا الناحية الاُولى، فسندرسها في نظرية المعرفة عند الحديث عن المصدر الأساسي للتصوّر البشري، والنظرية الحسّية لجون لوك الذي يعتبر المؤسس الأوّل للمدرسة الارتباطية، وسوف نرى من دراستنا إلى أنّ بعض مفردات التصوّر والمعاني العقلية لا ترجع إلى الحسّ، بل هي من النشاط الفعّال الإيجابي للنفس.

وأمّا الناحية الثانية، فهي التي قامت بمعالجتها مدرسة (الجشطالت) فرفضت الدراسة التحليلية للحالات الشعورية، وردّت على التفسير الارتباطي الآلي لعمليات الإدراك، مؤكّدة على ضرورة دراسة كلّ واحدة من الخبرات ككلّ، وأنّ الكلّية ليست مجرّد صهر الخبرات الحسّية والتركيب بينها، بل لها طبيعة التنظيم العقلي الدينامي السائر طبق قوانين معيّنة.

ولنرَ الآن بعد إيضاح الاتّجاهين السابقين تفسيرهما العلمي لعمليات الإدراك البصري:

ففي ضوء الاتّجاه الارتباطي يقال: إنّ الصورة التي تنشأ على شبكية العين تنتقل جزءاً جزءاً إلى الدماغ؛ حيث توجد في جزء محدّد منه صورة مماثلة للصورة الحادثة على شبكية العين. وينشط العقل، فيضفي على هذه الصورة في الدماغ من خبرته السابقة المعاني التي ترتبط في أذهاننا بالبيت، طبقاً لقوانين التداعي الآلية، وينتج عن ذلك الإدراك العقلي لصورة البيت.

وأمّا في ضوء الاتّجاه الشكلي أو الكلّي، فالإدراك يتعلّق بالأشياء بجملتها وهيئاتها العامّة منذ الوهلة الاُولى؛ لأنّ هناك صيغاً وأشكالا أوّلية في العالم الخارجي، تناسب صيغ العقل وأشكاله، فيمكننا أن نفسّر تنظيم الحياة العقلية بتنظيم قوانين العالم الخارجي نفسها، لا بالتركيب والتداعي. فالجزء في الصيغة أو الكلّ إنّما يدرك تبعاً للكلّ، ويتغيّر تبعاً لتغيّر الصيغة.

وإنّما نطلق على تفسير الإدراك البصري بهذا: اسم التفسير العلمي؛ لأنّه يدخل في المجال التجريبي، أو الملاحظة المنظّمة؛ فإنّ إدراك الصيغة، وتغيّر الجزء تبعاً لتغيّرها تجريبي، ولذلك برهنت مدرسة (الجشطالت) على نظريتها بالتجربة التي توضّح أنّ الإنسان لا يدرك الأجزاء فحسب، بل يدرك شيئاً آخر كالشكل أو النغم، ولذلك قد تجتمع الأجزاء جميعاً، ومع ذلك لا يدرك ذلك الشكل أو النغم. فهناك -إذن- الصيغة التي تكشف الأجزاء جميعاً.

ولا نريد الآن أن نتوسّع في شرح التفسيرات العلمية لعملية الإدراك البصري ودراستها، وإنّما نرمي -من وراء ما قدّمناه- إلى تحديد موضع التفسير الفلسفي الذي نحاوله منها. فنقول بهذا الصدد:

إنّ الإدراك العقلي للصورة المبصرة يثير -بعد تلك الدراسات العلمية كلّها- سؤالا، يواجهه الشكليون والارتباطيون على السواء، وهو: السؤال عن هذه الصورة التي أدركها العقل، وتكوّنت طبقاً لقوانين التداعي الآلي، أو طبقاً لقوانين الصيغة والشكل، فما هو كنهها؟ وهل هي صورة مادّية أو صورة مجرّدة عن المادّة؟ وهذا السؤال الأساسي هو الذي يصوغ المشكلة الفلسفية التي يجب على علم النفس الفلسفي دراستها ومعالجتها، وهو الذي تردّ عليه المادّية والإلهية بجوابين متناقضين.

ويبدو الآن من الواضح جدّاً: أنّ السيكولوجيا العلمية -أي: علم النفس التجريبي- لا تستطيع في هذا المجال أن تؤكّد على التفسير المادّي للإدراك، وتنفي وجود شيء في الحياة العقلية خارج المادّة، كما تزعم الفلسفة المادّية؛ لأنّ التجارب السيكولوجية -سواءٌ منها الذاتية والموضوعية- لا تمتدّ إلى ذلك المجال.
  • الإدراك في مفهومه الفلسفي.
لنبدأ الآن بدراستنا الفلسفية للإدراك -بعد أن أوضحنا مغزاها وصلاتها بمختلف الدراسات العلمية- طبقاً للمنهج الفلسفي في الدراسات النفسية، والذي يتلخّص -كما ألمعنا إليه سابقاً- في أخذ الحقائق العلمية والمسلّمات التجريبية، وبحثها على ضوء القوانين والاُصول المقرّرة في الفلسفة؛ لاستنتاج حقيقة جديدة وراء ما كشفت عنه التجارب من حقائق.

ولنأخذ الإدراك العقلي للصورة المبصرة، نموذجاً حياً للحياة العقلية العامة التي تتصارع حول تفسيرها الفلسفتان: الإلهية، والمادّية، فمفهومنا الفلسفي للإدراك يرتكز:

أوّلا: على الخصائص الهندسية للصورة المدرَكة.
ثانياً: على ظاهرة الثبات في عمليات الإدراك البصري.

أمّا الأوّل، فنبدأ فيه من حقيقة بدهية نأخذها من حياتنا اليومية ومختلف تجاربنا الاعتيادية، وهي: أنّ الصورة التي تتحفنا بها العملية العقلية للإدراك البصري تحتوي على الخصائص الهندسية: من الطول، والعرض، والعمق، وتبدو بمختلف الأشكال والحجوم. فلنفرض أننا زرنا حديقة تمتدّ آلاف الأمتار، وألقينا عليها نظرة واحدة، استطعنا فيها أن ندرك الحديقة كلا متماسكاً، تبدو فيه النخيل، والأشجار، وبركة الماء الكبيرة، وألوان الحياة المتدفّقة في الأزهار والأوراد، والكراسي الموضوعة بانتظام حول بركة الماء، والبلابل، والطيور التي تشدو على الأغصان.

والسؤال الذي يعترضنا حول هذه الصورة الرائعة التي أدركناها بنظرة مستوعبة هو: ما هي هذه الصورة التي ندركها؟ وهل هي نفس الحديقة وواقعها الموضوعي بالذات، أو صورة مادّية تقوم بعضو مادّي خاصّ في جهازنا العصبي، أو لا هذا ولا ذاك، بل صورة مجرّدة عن المادّة، تماثل الواقع الموضوعي وتحكي عنه؟

أمّا أنّ الحديقة بواقعها الخارجي هي الصورة المتمثّلة في إدراكنا العقلي، فقد كانت تنادي بذلك نظرية قديمة في الرؤية، تفترض أنّ الإنسان يدرك الواقع الموضوعي للأشياء نفسه، بسبب خروج شعاع خاص من العين، ووقوعه على المرئي، ولكن هذه النظرية سقطت -أوّلا- من الحساب الفلسفي؛ لأنّ خداع الحواسّ الذي يجعلنا ندرك صوراً معيّنة على أشكال خاصّة لا واقع لها، يبرهن على أنّ الصورة المدرَكة ليست هي الواقع الموضوعي، وإلاّ فما هو الواقع الموضوعي المدرَك في الإدراكات الحسّية الخادعة؟! وسقطت -ثانياً- من الحساب العلمي؛ إذ أثبت العلم أنّ الأشعّة الضوئية تنعكس من المرئيات على العين لا من العين عليها، وأنا لا نملك من الأشياء المرئية إلاّ الأشعّة المنعكسة منها على الشبكية.

حتّى لقد أثبت العلم أنّ رؤيتنا للشيء قد تحدث بعد انعدام ذلك الشيء بسنين. فنحن لا نرى الدب القطبي في السماء -مثلا- إلاّ حين تصل الموجات الضوئية الصادرة عن الدب القطبي إلى الإرض بعد عدّة سنين من انطلاقها عن مصدرها، فتقع على شبكية العين، فنقول: نحن نرى الدب القطبي، غير أنّ هذه الموجات الضوئية التي تؤدّي بنا إلى رؤية الدب القطبي إنّما تنبئنا عنها كما كانت قبل عدّة سنين. ومن الجائز أن يكون الدب القطبي قد انعدم من السماء قبل رؤيتنا له بأمد طويل، وهذا يبرهن علمياً على أنّ الصورة التي نحسّ بها الآن ليست هي الدب القطبي المحلّق في السماء، أي: الواقع الموضوعي للنجم.

ويبقى في حسابنا بعد ذلك الافتراضان الأخيران: فالافتراض الثاني -القائل: إنّ الصورة المدرَكة نتاج مادّي قائم بعضو الإدراك في الجهاز العصبي- هو الذي يحدّد المذهب الفلسفي للمادّية. والافتراض الثالث -القائل: إنّ الصورة المدرَكة أو المحتوى العقلي لعملية الإدراك لا توجد في المادّة، وإنّما هي لون من الوجود المجرد، خارج العالم المادّي- هو الذي يمثّل المذهب الفلسفي للإلهية.

وفي هذه المرحلة من البحث يمكننا أن نستبعد الافتراض المادّي استبعاداً نهائياً؛ وذلك لأنّ الصورة المدرَكة بحجمها وخصائصها الهندسية، وامتدادها طولا وعرضاً، لا يمكن أن توجد في عضو مادّي صغير في الجهاز العصبي. فنحن وإن كنّا نعتقد أنّ الأشعّة الضوئية تنعكس على الشبكية، وتتصوّر في صورة خاصّة، ثمّ تنتقل في أعصاب الحسّ إلى الدماغ، فتنشأ في موضع محدّد منه صورة مماثلة للصورة التي حدثت على الشبكية... ولكن هذه الصورة المادّية غير الصورة المدرَكة في عقلنا؛ لأنّها لا تملك ما تملكه الصورة المدرَكة من خصائص هندسية. فكما أنّ الحديقة التي أدركناها في نظرة واحدة لا يمكن أن نأخذ عنها صورة فوتوغرافية موازية لها في السعة والشكل والامتداد على ورقة مسطّحة صغيرة، كذلك لا يمكن أن نأخذ عنها صورة عقلية أو إدراكية -تحاكيها في سعتها، وشكلها، وخصائصها الهندسية- على جزء ضئيل من المخّ؛ لأنّ انطباع الكبير في الصغير مستحيل.

وإذن فيصبح من الضروري أن نأخذ بالافتراض الثالث، وهو: أنّ الصورة المدرَكة -التي هي المحتوى الحقيقي للعملية العقلية- صورة مجردة، موجودة وجوداً مجرّداً عن المادّة، وهذا هو كلّ ما يعنيه المفهوم الفلسفي الإلهي للإدراك.

وقد يخطر هنا على بعض الأذهان أنّ مسألة إدراك الصورة في أشكالها، وحجومها، وأبعادها، ومسافاتها، قد أجاب عليها العلم، وعالجتها البحوث السيكولوجية؛ إذ أوضحت أنّ هناك عدّة عوامل بصرية وعضلية تساعدنا على إدراك تلك الخصائص الهندسية.

فحاسّة البصر لا تدرك سوى الضوء واللون، وأمّا إدراك الخصائص الهندسية للأشياء، فهو يتوقّف على ارتباط اللمس بحركات وأحاسيس خاصّة. فلو جرّدنا الإحساس البصري عن كلّ إحساس آخر، لبدت لنا نقاط من الضوء واللون فحسب، ولما اُتيح لنا إدراك الأشكال والحجوم، حتّى إنّا كنّا نعجز عن التمييز بين كرة ومكعّب؛ وذلك لأنّ الكيفيات الأوّلية والأشكال من مدركات اللمس، وبتكرار التجربة اللمسية ينشأ تقارن بين مدركات اللمس من تلك الكيفيات، وبين عدّة من الإحساسات البصرية كاختلافات خاصّة في الأضواء والألوان المبصرة، وعدّة من الحركات العضلية كحركة تكييف العين لرؤية الأشياء القريبة والبعيدة، وحركة التلاقي في حالة الإبصار بالعينين. وبعد أن ينشأ هذا التقارن يمكننا أن نستغني في إدراك الحجوم والأشكال عن الإحساسات اللمسية بما اقترن بها من إحساسات وحركات عضلية. فإذا أبصرنا كرة بعد هذا، استطعنا أن نحدّد شكلها وحجمها دون أن نلمسها، اعتماداً على الإحساسات والحركات العضلية التي اقترنت بمدركات اللمس.

وهكذا ندرك أخيراً الأشياء بخصائصها الهندسية، لا بالإحساس البصري فحسب، بل بالإبصار مع ألوان اُخرى من حركات حسّية، أصبحت ذات مدلول هندسي بسبب اقترانها بمدركات اللمس، غير أنّ العادة لا تجعلنا نشعر بذلك.

ونحن لا نريد أن ندرس نظرية العوامل العضلية والبصرية من ناحية علمية؛ لأنّ ذلك لا يهمّ البحث الفلسفي، فلنأخذ بها كمسلّمة علمية، ولنفترض أنها صحيحة؛ فإنّ هذا الافتراض لا يغيّر من موقفنا الفلسفي شيئاً، كما يظهر ذلك في ضوء ما قدّمناه من تحديدات للدراسة الفلسفية في بحوث النفس؛ إذ أنّ مؤدّى النظرية هو: أنّ الصورة العقلية المدرَكة بخصائصها الهندسية، وطولها وعرضها وعمقها، لم توجد بسبب الإحساس البصري البسيط فحسب، بل بالتعاون مع إحساسات بصرية، وحركات عضلية اُخرى، اكتسبت مدلولا هندسياً بارتباطها باللمس واقترانها معه في التجارب المتكرّرة، وسوف نواجه بعد التسليم بهذا نفس السؤال الفلسفي الأوّل، وهو السؤال عن هذه الصورة العقلية التي كوّنها الإحساس البصري بالاشتراك مع أحاسيس وحركات اُخرى، أين توجد؟ وهل هي صورة مادّية قائمة في عضو مادّي، أو صورة ميتافيزيقية مجرّدة عن المادّة؟ ومرّة اُخرى نجد أنفسنا مضطرّين إلى الأخذ بوجهة النظر الميتافيزيقي؛ لأنّ هذه الصورة بخصائصها وامتدادها آلاف الأمتار لا يمكن أن توجد في عضو مادّي صغير، كما لا يمكن أن توجد على ورقة صغيرة، فيجب -إذن- أن تكون صورة مجرّدة عن المادّة.

هذا ما يتّصل بظاهرة الخصائص الهندسية للصورة العقلية المدرَكة.

وأمّا الظاهرة الثانية التي يتاح لمفهومنا الفلسفي أن يرتكز عليها، فهي ظاهرة الثبات، ونعني بها: إنّ الصورة العقلية المدرَكة تميل إلى الثبات، ولا تتغيّر طبقاً لتغيّرات الصورة المنعكسة على الجهاز العصبي. فهذا قلم إذا وضعناه على بعد متر واحد منّا، انعكست عنه صورة ضوئية خاصّة، وإذا ضاعفنا المسافة التي تفصلنا عنه، ونظرنا إليه على بعد مترين، فإنّ الصورة التي يعكسها سوف تقلّ إلى نصف ما كانت عليه في حالتها الاُولى، مع أنّ إدراكنا لحجم القلم لن يتغيّر تغيّراً يذكر، أي: أنّ الصورة العقلية للقلم التي نبصرها تبقى ثابتة بالرغم من تغيّر الصورة المادّية المنعكسة. وهذا يبرهن بوضوح على أنّ العقل والإدراك ليس مادّياً، وأنّ الصورة المدرَكة مجردة.

ومن الواضح: أنّ هذا التفسير الفلسفي لظاهرة الثبات لا يتعارض مع أيّ تفسير علمي لها يمكن أن يقدّم في هذا المضمار. فيمكنك أن تفسّر الظاهرة بأنّ ثبات الموضوعات المدرَكة -في مظاهرها المختلفة- يرجع إلى الخبرة والتعلّم، كما يمكنك إن شئت أن تقول -في ضوء التجارب العلمية- إنّ هناك علاقات محدّدة بين الثبات في مختلف مظاهره، والتنظيم المكاني للموضوعات الخارجية التي ندركها؛ فإنّ هذا لا يعني حلّ المشكلة من ناحية فلسفية؛ إذ أنّ الصورة المبصرة التي لم تتغيّر طبقاً للصورة المادّية، بل ظلّت ثابتة بفضل خبرة سابقة، أو بحكم تنظيمات مكانية خاصّة لا يمكن أن تكون هي الصورة المنعكسة عن الواقع الموضوعي على مادّة الجهاز العصبي؛ لأنّ هذه الصورة المنعكسة تتغيّر تبعاً لزيادة البعد بين العين والواقع، وتلك الصورة المبصرة ثابتة.

والنتيجة الفلسفية التي نخرج بها من هذا البحث هي: أنّ الإدراك ليس مادّياً، كما تزعم الفلسفة المادّية؛ لأنّ مادّية الشيء تعني أحد أمرين: إمّا إنّه بالذات مادّة، وإمّا إنّه ظاهرة قائمة بالمادّة. والإدراك ليس بذاته مادّة، ولا هو ظاهرة قائمة بعضو مادّي كالدماغ، أو منعكسة عليه؛ لأنّه يختلف في القوانين التي تسيطر عليه عن الصورة المادّية المنعكسة على العضو المادّي، فهو يملك من الخصائص الهندسية أوّلا، ومن الثبات ثانياً، ما لا تملكه أيّ صورة مادّية منعكسة على الدماغ. وعلى هذا الأساس تؤمن الميتافيزيقية بأنّ الحياة العقلية -بما تزخر به من إدراكات وصور- أثرى ألوان الحياة وأرقاها؛ لأنّها حياة ترتفع عن مستوى المادّة وخصائصها.

ولكن المسألة الفلسفية الاُخرى التي تنبثق ممّـا سبق، هي: أنّ الإدراكات والصور التي تتشكّل منها حياتنا العقلية إذا لم تكن صوراً قائمة بعضو مادّي، فأين هي قائمة إذن؟ وهذا السؤال هو الذي دعا إلى استكشاف حقيقة فلسفية جديدة، وهي: أنّ تلك الصور والإدراكات تجتمع أو تتتابع كلّها على صعيد واحد، هو: صعيد الإنسانية المفكّرة، وليست هذه الإنسانية المفكّرة شيئاً من المادّة، كالدماغ أو المخّ، بل هي درجة من الوجود مجرّدة عن المادّة، يصلها الكائن الحيّ في تطوّره وتكامله. فالمدرِك والمفكّر هو هذه الإنسانية اللامادّية.

ولكي يتّضح الدليل على ذلك بكلّ جلاء يجب أن نعلم أنا بين ثلاثة فروض:

إحداها: أنّ إدراكنا لهذه الحديقة أو لذلك النجم صورة مادّية قائمة بجهازنا العصبي، وهذا ما نبذناه، ودلّلنا على رفضه.

وثانيها: أنّ إدراكاتنا ليست صوراً مادّية، بل هي صور مجرّدة عن المادّة، وموجودة بصورة مستقلّة عن وجودنا. وهذا افتراض غير معقول أيضاً؛ لأنّها إذا كانت موجودة بصورة مستقلّة عنّا، فما هي صلتنا بها؟! وكيف أصبحت إدراكات لنا؟!

وإذا نفضنا يدينا من هذا وذاك، ولم يبقَ لدينا إلاّ التفسير الثالث للموقف، وهو: أنّ تلك الإدراكات والصور العقلية ليست مستقلّة في وجودها عن الإنسان، كما أنها ليست حالة أو منعكسة في عضو مادّي، وإنّما هي ظواهر مجرّدة عن المادّة، تقوم بالجانب اللامادّي من الإنسان. فهذه الإنسانية اللامادّية (الروحية) هي التي تدرك وتفكّر، لا العضو المادّي، وإن كان العضو المادّي يهيّئ لها شروط الإدراك؛ للصلة الوثيقة بين الجانب الروحي والجانب المادّي من الإنسان.
  • الجانب الروحي من الإنسان
علاقة المادي بغير المادي
ونصل هنا إلى نتيجة خطيرة، وهي: أنّ للإنسان جانبين: أحدهما مادّي يتمثّل في تركيبه العضوي، والآخر روحي لامادّي، وهو مسرح النشاط الفكري والعقلي، فليس الإنسان مجرّد مادّة معقّدة، وإنّما هو مزدوج الشخصية من عنصر مادّي، وآخر لامادّي.

وهذا الازدواج يجعلنا نجابه موقفاً عسيراً في سبيل استكشاف نوعية العلاقة والصلة بين الجانبين المادّي والروحي من الإنسان، ونحن نعلم قبل كلّ شيء: أنّ العلاقة بينهما وثيقة حتّى إنّ أحدهما يؤثّر في الآخر باستمرار: فإذا خُيّل إلى شخص أنه يرى شبحاً في الظلام، اعترته قشعريرة، وإذا كتب على شخص أن يخطب في حفل عام، أخذ العرق يتصبّب منه، وإذا بدأ أحدنا يفكّر، حدث نشاط خاصّ في جهازه العصبي، فهذا أثر العقل أو الروح في الجسم، كما أنّ للجسم أثره في العقل، فإذا دبّت الشيخوخة في الجسد، وهن النشاط العقلي، وإذا أفرط شارب الخمر في السكر قد يرى الشيء شيئين.

فكيف يتاح للجسم والعقل أن يؤثّر أحدهما في الآخر إذا كانا مختلفين لا يشتركان في صفة من الصفات؟ فالجسم قطعة من المادّة له خصائصها من ثقل وكتلة وشكل وحجم، وهو يخضع لقوانين الفيزياء. وأمّا العقل -أو الروح- فهو موجود غير مادّي ينتسب إلى عالم وراء عالم المادّة، ومع هذه الهوّة الفاصلة يصعب تفسير التأثير المتبادل بينهما. فقطعة من الحجارة يمكن أن تسحق نبتة في الأرض؛ لأنّهما معاً مادّيان، وقطعتان من الحجر يمكن أن تصطكّا وتتفاعلا. وأمّا أن يحدث الاصطكاك والتفاعل بين موجودين من عالمين فهذا ما يحتاج إلى شيء من التفسير. وهو الذي عاق التفكير الاُوروبي الحديث -على الأغلب- عن الأخذ بفكرة الازدواج بعد أن رفض التفسير الأفلاطوني القديم للعلاقة بين الروح والجسم بوصفها علاقة بين قائد وعربة يسوقها، فقد كان أفلاطون يتصوّر أنّ الروح جوهر قديم مجرّد عن المادّة يعيش في عالم وراء دنيا المادّة، ثمّ يهبط إلى البدن ليدبّره كما يهبط السائق من منزله ويدخل العربة ليسوقها ويدبّر أمرها.

وواضح: أنّ هذه الثنائية الصريحة والهوّة الفاصلة بين الروح والجسم في تفسير أفلاطون لا تصلح لتفسير العلاقة الوثيقة بينهما التي تجعل كلّ إنسان يشعر بأنه كيان موحّد، وليس شيئين من عالَمين مستقلّين التقيا على ميعاد.

وقد ظلّ التفسير الأفلاطوني قاصراً عن حلّ المشكلة بالرغم من التعديلات التي اُجريت على التفسير الأفلاطوني من قِبل أرسطو بإدخال فكرة الصورة والمادّة، ومن قِبل ديكارت الذي جاء بنظرية الموازنة بين العقل والجسم القائلة: بأنّ العقل والجسم -الروح والجسد- يسيران على خطّين متوازيين، وكلّ حادث يقع في أحدهما يصاحبه حادث يقابله يقع في الآخر، وهذا التلازم بين الأحداث العقلية والجسمية لا يعني أنّ أحدهما سبب للآخر؛ إذ لا معنى للتأثير المتبادل بين شيء مادّي وآخر غير مادّي، بل إنّ هذا التلازم بين النوعين من الأحداث مردّه إلى العناية الإلهية التي شاءت أن يصاحب الإحساس بالجوع -دائماً- حركة اليد لتناول الطعام دون أن يكون الإحساس سبباً للحركة.

ومن الواضح: أنّ نظرية الموازنة هذه تعبير جديد عن ثنائية أفلاطون، وهوّته الفاصلة بين العقل والجسم.

وقد أدّت المشاكل التي تنجم عن تفسير الإنسان على أساس الروح والجسد معاً إلى بلورة اتّجاه حديث في التفكير الاُوروبي إلى تفسير الإنسان بعنصر واحد، فنشأت المادّية في علم النفس الفلسفي القائلة: إنّ الإنسان مجرّد مادّة وليس غير، كما تولّدت النزعة المثالية التي تجنح إلى تفسير الإنسان كلّه تفسيراً روحياً.

وأخيراً، وَجَدَ تفسير الإنسان على أساس العنصرين الروحي والمادّي تصميمه الأفضل على يد الفيلسوف الإسلامي (صدر المتألّهين الشيرازي)، فقد استكشف هذا الفيلسوف الكبير حركة جوهرية في صميم الطبيعة، هي الرصيد الأعمق لكلّ الحركات الطارئة المحسوسة التي تزخر بها الطبيعة، وهذه الحركة الجوهرية هي الجسر الذي كشفه الشيرازي بين المادّة والروح؛ فإنّ المادّة في حركتها الجوهرية تتكامل في وجودها، وتستمرّ في تكاملها حتّى تتجرّد عن مادّيتها ضمن شروط معيّنة، وتصبح كائناً غير مادّي، أي: كائناً روحياً، فليس بين المادّي والروحي حدود فاصلة، بل هما درجتان من درجات الوجود والروح بالرغم من أنها ليست مادّية ذات نسب مادّي؛ لأنّها المرحلة العليا لتكامل المادّة في حركتها الجوهرية (للتفصيل يراجع شرح الهداية الأثيريّة لصدر الدين الشيرازي: 214-218).

وفي هذا الضوء نستطيع أن نفهم العلاقة بين الروح والجسم، ويبدو من المألوف أن يتبادل العقل والجسم -الروح والمادّة- تأثيراتهما؛ لأنّ العقل ليس شيئاً مفصولا عن المادّة بهوّة سحيقة كما كان يُخيّل لديكارت حين اضطرّ إلى إنكار التأثير المتبادل والقول بمجرّد الموازنة، بل إنّ العقل نفسه ليس إلاّ صورة مادّية عند تصعيدها إلى أعلى من خلال الحركة الجوهرية، والفرق بين المادّية والروحية فرق درجة فقط، كالفرق بين الحرارة الشديدة والحرارة الأقلّ منها درجة.

ولكن هذا لا يعني أنّ الروح نتاج للمادّة وأثر من آثارها، بل هي نتاج للحركة الجوهرية، والحركة الجوهرية لا تنبع من نفس المادّة؛ لأنّ الحركة -كلّ حركة- خروج للشيء من القوّة إلى الفعل تدريجياً -كما عرفنا في مناقشتنا للتطوّر عند الديالكتيك ومفهوم الحركة الفلسفي في مقال سابق- والقوّة لا تصنع الفعل، والإمكان لا يصنع الوجود، فللحركة الجوهرية سببها خارج نطاق المادّة المتحرّكة. والروح التي هي الجانب غير المادّي من الإنسان نتيجة لهذه الحركة. والحركة نفسها هي الجسر بين المادّية والروحية.

المنعكس الشرطي والإدراك

ليس اختلافنا مع المادية في حدود مفهومها المادّي للإدراك فحسب؛ لأنّ المفهوم الفلسفي للحياة العقلية وإن كان هو النقطة الرئيسية في معتركنا الفكري معها، ولكنّنا نختلف -أيضاً- في مدى علاقة الإدراك والشعور بالظروف الاجتماعية، والأحوال المادّية الخارجية. فالمادية تؤمن بأنّ الحياة الاجتماعية للإنسان هي التي تحدّد له مشاعره، وأنّ هذه المشاعر أو الأفكار تتطوّر تبعاً لتطوّر الظروف الاجتماعية والمادّية، ولمّا كانت هذه الظروف تتطوّر تبعاً للعامل الاقتصادي، فالعامل الاقتصادي -إذن- هو العامل الرئيسي في التطوّر الفكري.

وقد حاول (جورج بوليتزير) أن يشيّد هذه النظرية على قاعدة علمية، فأقامها على أساس الفعل المنعكس الشرطي. ولكي نفهم ذلك جيّداً يجب أن نقول كلمة عن الفعل المنعكس الشرطي الذي اكتشفه (بافلوف) إذ حاول مرّة أن يجمع لعاب الكلب من إحدى الغدد اللعابية، فأعدّ جهازاً لذلك، وأعطى الحيوان طعاماً لإثارة مجرى اللعاب، فلاحظ أنّ اللعاب بدأ يسيل من كلب متمرّن قبل أن يوضع الطعام في فمه بالفعل؛ لمجرّد رؤية الطبق الذي فيه الطعام، أو الإحساس باقتراب الخادم الذي تعوّد إحضاره.

ومن الواضح: أنّ رؤية الشخص أو خطواته لا يمكن اعتبارها منبّهاً طبيعياً لهذه الاستجابة، كما ينبّهها وضع الطعام في الفم، بل لا بدّ أن تكون هذه الأشياء قد ارتبطت بالاستجابة الطبيعية في مجرى التجربة الطويل حتّى استخدمت كعلامة مبدئية على المنبّه الفعلي.

وعلى هذا يكون إفراز اللعاب عند وضع الطعام في الفم فعلا منعكساً طبيعياً، يثيره منبّه طبيعي. وأمّا إفراز اللعاب عند اقتراب الخادم أو رؤيته، فهو فعل منعكس شرطي، اُثير بسبب منبّه مشروط، يستعمل كعلامة على المنبّه الطبيعي، ولولا اقترانه بالمنبّه الطبيعي، لما وجدت استجابة بسببه.

وبسبب عمليات الاقتران كهذه وجد أوّل نظام إشاري لدى الكائن الحي، تلعب فيه المنبّهات المشروطة دوراً في الإشارة إلى المنبّه الطبيعي، واستثارة الاستجابة التي يستحقّها. وبعد ذلك وجد النظام الإشاري الثاني الذي عوّض فيه عن المنبّهات الشرطية في النظام الأوّل، بإشارات ثانوية إلى تلك المنبّهات الشرطية التي اُشرطت هذه الإشارات الثانوية بها في تجارب متكرّرة، وأصبح من الممكن الحصول على الاستجابة، أو الفعل المنعكس بالإشارة الثانوية بسبب إشراطها بالإشارة الأوّلية، كما أتاح النظام الإشاري الأوّل الحصول عليها بالإشارة الأوّلية بسبب إشراطها بالمنبّه الطبيعي، وتعتبر اللغة هي الإشارات الثانوية في النظام الإشاري الثاني.

هذه هي نظرية العالم الفسيولوجي (بافلوف). وقد استغلّته السلوكية، فزعمت أنّ الحياة العقلية لا تعدو أن تكون عبارة عن أفعال منعكسة. فالتفكير يتركّب من استجابات كلامية باطنة، يثيرها منبّه خارجي. وهكذا فسّرت الفكر كما تفسّر عملية إفراز الكلب لعابه عند سماعه خطوات الخادم، فكما أنّ الإفراز ردّ الفعل الفسيولوجي لمنبّه شرطي، وهو خطى الخادم، كذلك الفكر هو ردّ الفعل الفسيولوجي لمنبّه شرطي، كاللغة التي اُشرطت بالمنبّه الطبيعي مثلا.

ولكن من الواضح: أنّ التجارب الفسيولوجية على الفعل المنعكس الشرطي لا يمكنها أن تبرهن على أنّ الفعل المنعكس هو حقيقة الإدراك، والمحتوى الحقيقي للعمليات، ما دام من الجائز أن يكون للإدراك حقيقة وراء حدود التجربة.

أضف إلى ذلك أنّ السلوكية في رأيها هذا -القائل بأنّ الأفكار استجابات شرطية- تقضي على نفسها وتنزع القدرة على الكشف عن الواقع والقيمة الموضوعية، لا من سائر الأفكار فحسب، بل من السلوكية ذاتها -أيضاً- بوصفها فكرة تخضع للتفسير السلوكي؛ لأنّ تفسير السلوكية للفكر الإنساني له أثره الخطير في نظرية المعرفة، وتقدير قيمتها، ومدى قدرتها على استكشاف الواقع. فالمعرفة -كلّ معرفة- لا تعدو وفقاً للتفسير السلوكي أن تكون استجابة حتمية لمنبّه شرطي كسيلان اللعاب من فم الكلب في تجارب بافلوف، وليست نتيجة للاستدلال والبرهان، وبالتالي تصبح كلّ معرفة تعبيراً عن وجود منبّه شرطي لها لا عن وجود مضمونها في الواقع الخارجي، والفكرة السلوكية نفسها لا تشذّ عن هذه القاعدة العامّة، ولا تختلف عن كلّ الأفكار الاُخرى في تأثّرها بالتفسير السلوكي، وسقوط قيمتها، وعدم إمكان دراستها بأيّ لون من الألوان.

والواقع: هو عكس ما رامته السلوكية تماماً، فليس الإدراك والفكر فعلا فسيولوجياً ينعكس عن منبّه شرطي نظير إفراز اللعاب، كما يزعم السلوكيون، بل نفس إفراز اللعاب هذا يعني شيئاً غير مجرّد ردّ الفعل المنعكس، يعني إدراكاً، وهذا الإدراك هو السبب في إثارة المنبّه الشرطي للاستجابة المنعكسة. فالإدراك هو الحقيقة التي نتبيّنها وراء ردود فعل المنبّه الشرطي، وليس لوناً من ألوان تلك الردود، ونعني بهذا: أنّ إفراز الكلب لعابه عند حدوث المنبّه الشرطي لم يكن مجرّد فعل آلي بحت، كما تعتقد السلوكية، بل كان نتيجة إدراك الكلب مدلول المنبّه الشرطي. فخطوات الخادم باقترانها مع مجيء الطعام في تجارب متكرّرة أصبحت تدلّ على مجيئه، وأصبح الكلب يدرك مجيء الطعام عند سماعها، فيفرز لعابه استعداداً للموقف الذي يبشّر به المنبّه الشرطي. وكذلك الطفل إذ يبدو عليه شيء من الارتياح عند تهيّؤ مرضعته لإرضاعه، بل عند إخباره بمجيئها إذا كان يملك فهماً لغوياً؛ فإنّ هذا الارتياح ليس مجرّد فعل فسيولوجي منعكس عن شيء خارجي ارتبط بالمثير الطبيعي، بل هو منبثق عن إدراك الطفل مدلول المنبّه الشرطي، إذ يستعدّ -حينئذ- للارتضاع، ويشعر بارتياح، ولذا نجد فرقاً في درجات الارتياح بين الارتياح الذي يثيره نفس المنبّه الطبيعي، وبين الارتياح الذي تثيره المنبّهات الشرطية؛ لأجل أنّ ذاك ارتياح أصيل، وهذا ارتياح الأمل والترقّب.

ويمكننا أن نبرهن علمياً على عدم كفاية التفسير السلوكي للتفكير عن طريق التجارب التي قام على أساسها مذهب (الجشطالت) في علم النفس؛ إذ برهنت هذه التجارب على أنّ من المستحيل أن نفسّر حقائق الإدراك على أساس سلوكي بحت، وبوصفها مجرّد استجابات للمنبّهات المادّية التي يتلقّى الدماغ رسائلها في صورة عدد من الدوافع العصبية المتفرّقة، بل يجب -لكي نفسّر حقائق الإدراك تفسيراً كاملا- أن نؤمن بالعقل ودوره الإيجابي الفعّال وراء الانفعالات والاستجابات العصبية التي تثيرها المنبّهات.

ولنأخذ الإدراك الحسّي مثلا، فقد أثبتت تجارب الجشطالت أنّ رؤيتنا لألوان الأشياء وخصائصها تعتمد إلى حدّ بعيد على الموقف العام الذي نجابهه في إبصارنا، وعلى الأرضية التي تحيط بتلك الأشياء، فقد نرى الخطّين متوازيين أو متساويين ضمن مجموعة من الخطوط، نواجهها كموقف وكلّ مترابط الأجزاء، ثمّ نراهما ضمن مجموعة اُخرى غير متوازيين أو متساويين؛ لأنّ الموقف العام الذي يواجهه إدراكنا البصري اختلف عن الموقف السابق، وهذا يوضح: أنّ إدراكنا ينصبّ أوّلا على الكلّ، وندرك الأجزاء بأبصارنا ضمن إدراكنا للكلّ، ولذا يختلف إدراكنا الحسّي للجزء باختلاف الكلّ أو المجموع الذي يندرج فيه.

فهناك -إذن- نظام للعلاقات بين الأشياء يفرزها إلى مجاميع، ويحدّد لكلّ شيء موضعه من مجموعته الخاصّة، ويطوّر نظرتنا إليه تبعاً للمجموعة التي ينتمي إليها، وإدراكنا للأشياء ضمن هذا النظام لا يقبل التفسير السلوكي، ولا يمكن القول: بأنه استجابة مادّية وحالة جسمية ناشئة من منبّه خاصّ؛ إذ لو كان حالة جسمية وظاهرة مادّية منبثقة عن الدماغ، لما اُتيح لنا أن ندرك الأشياء بأبصارنا ككلّ منظّم ترتبط أجزاؤه ارتباطاً خاصّاً -حتّى إنّ إدراكنا لها يختلف إذا أبصرناها ضمن علاقات اُخرى- لأنّ جميع ما يصل إلى الدماغ في الإدراك يتألّف من مجموعة من الرسائل ترد إلى المخّ من مختلف أعضاء الجسم مجزّأة ضمن عدد من الدوافع العصبية المتفرّقة، فكيف اُتيح لنا أن ندرك نظام العلاقات بين الأشياء؟ وكيف اُتيح للإدراك أن ينصبّ أوّلا على الكلّ، فلا ندرك الأشياء إلاّ ضمن كلّ مترابط بدلا عن إدراك الأشياء متفرّقة كما تنتقل إلى الدماغ؟ كيف أمكن ذلك كلّه لو لم يكن هناك دور إيجابي فعّال للعقل وراء الانفعالات والحالات الجسمية المجزّأة؟

وبكلمة اُخرى: أنّ الأشياء الخارجية قد تقذف إلى الدماغ برسائل متفرّقة، وهي: استجاباتنا للمنبّهات الخارجية في عرف السلوكية، وقد يحلو للسلوكية أن تقول: إنّ هذه الاستجابات والرسائل المادّية التي تمرّ في الأعصاب إلى المخّ هي وحدها المحتوى الحقيقي لإدراكنا، ولكن ماذا تقول عن إدراكنا لنظام من العلاقات بين الأشياء يجعلنا نحسّ أوّلا بالكلّ الموحّد وفقاً لتلك العلاقات؟ مع أنّ نظام العلاقات هذا ليس شيئاً مادّياً ليثير انفعالا مادّياً في جسم المفكّر واستجابة أو حالة جسمية معيّنة، فلا يمكننا أن نفسّر إدراكنا لهذا النظام، وبالتالي إدراكنا للأشياء ضمنه على أساس سلوكي بحت.

وأمّا الماركسية فقد أخذت بنظريات (بافلوف) ورتّبت عليه:

أوّلا: أنّ الشعور البشري يتطوّر طبقاً للظروف الخارجية؛ وذلك لأنّه حصيلة الأعمال المنعكسة الشرطية التي تثيرها المنبّهات الخارجية.

قال جورج بوليتزير:

"وبهذه الطريقة أثبت (بافلوف) أنّ ما يُحدّد أساساً شعور الإنسان ليس جهازه العضوي... بل يحدّده على عكس ذلك المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، والمعرفة التي يحصل عليها منه. فالظروف الاجتماعية للحياة هي المنظّم الحقيقي للحياة العضوية الذهنية".

ثانياً: أنّ ولادة اللغة كانت هي الحدث الأساسي الذي نقل البشر إلى مرحلة الفكر؛ لأنّ فكرة الشيء في الذهن إنّما تنجم عن منبّه خارجي شرطي، فلم يكن من الممكن أن توجد للإنسان فكرة عن شيء ما لم تقم أداة كاللغة بدور المنبّه الشرطي.

قال ستالين:

"يقال: إنّ الأفكار تأتي في روح الإنسان قبل أن تعبّر عن نفسها في الحديث، وإنّها تولد دون أدوات اللغة. إلاّ أنّ هذا خطأ تماماً، فمهما كانت الأفكار التي تأتي في روح الإنسان، فلا يمكن أن تولد أو توجّه إلاّ على أساس أدوات اللغة... فاللغة هي الواقع المباشر للفكر".

ونحن نختلف عن الماركسية في كلا الرأيين، ولا نقرّ الآلية في الإدراك البشري، فليست الأفكار والإدراكات مجرّد ردود فعل منعكسة عن المحيط الخارجي، كما تدّعي السلوكية، وليست -أيضاً- حصيلة تلك الردود المحدّدة من قبلها، والمتطوّرة بتبعها، كما تعتقد الماركسية.

ولنوضّح المسألة في المثال التالي: يلتقي زيد وعمرو يوم السبت، فيأخذان بالحديث مدّة، ثمّ يحاولان الافتراق، فيقول زيد لعمرو: انتظرني في صباح الجمعة الآتية في بيتك. ويفترقان بعد ذلك. وينصرف كلّ منهما إلى حياته الاعتيادية، وتمرّ الأيام حتّى يحين الموعد المحدّد للزيارة، فيستذكر كلّ من الشخصين موعده، ويدرك موقفه بصورة مختلفة عن إدراك الآخر، فيبقى عمرو في بيته ينتظر، ويخرج زيد من بيته متوجّهاً إلى زيارته. فما هو المنبّه الشرطي الخارجي الذي أثار فيهما الإدراكين المختلفين بعد مرور عدّة أيام على الميعاد السابق، وفي هذه الساعة بالذات؟! وإذا كان الكلام السابق كافياً للتنبيه الآن، فلماذا لا يتذكّران الآن جميع أحاديثهما التي تبادلاها؟! ولماذا لا تقوم تلك الأحاديث بدور التنبيه والاستثارة؟!

ومثال آخر: تخرج من البيت وقد وضعت رسالة في حقيبتك، عازماً على وضعها في صندوق البريد، وأنت تتّجه نحو المدرسة، فتصادف في طريقك صندوقاً للبريد، فتدرك فوراً أنّ الكتاب لا بدّ من وضعه فيه، فتضعه فيه. ثمّ قد تمرّ بعد ذلك على عدّة صناديق للبريد فلا تسترعي انتباهك مطلقاً، فما هو المنبّه المثير لإدراكك عند رؤية أوّل صندوق للبريد؟! وقد تقول: إنّ المثير هو رؤية الصندوق نفسه، باعتبار أنك أشرطته بالمنبّه الطبيعي، فهو منبّه شرطي. ولكن كيف نفسّر غفلتنا عن الصناديق الاُخرى؟! ولماذا زال الإشراط فوراً بمجرّد قضاء حاجتنا؟!

ففي ضوء الأمثلة تعرف أنّ الفكر نشاط إيجابي فعّال للنفس، وليس رهن ردود الفعل الفسيولوجية، كما أنه ليس هو الواقع المباشر للّغة، كما زعمت الماركسية، بل اللغة أداة لتبادل الأفكار، وليست هي المكوّنة لتلك الأفكار، ولذا قد نفكّر في شيء، ونفتّش طويلا عن اللفظ المناسب له؛ للتعبير به عنه، وقد نفكّر في موضوع، في نفس الوقت الذي نتكلّم فيه عن موضوع آخر.

فالحياة الاجتماعية والظروف المادّية -إذن- لا تحدّد أفكار الناس ومشاعرهم -بصورة آلية- عن طريق المنبّهات الخارجية.

نعم إنّ الإنسان قد يكيّف أفكاره تكييفاً اختيارياً بالبيئة والمحيط، كما نادت بذلك المدرسة الوظيفية في علم النفس تأثّراً بنظرية التطوّر عند (لامارك) في البيولوجيا، فكما أنّ الكائن الحيّ يتكيّف عضوياً تبعاً لمحيطه، كذلك الأمر في حياته الفكرية.

ولكنّا يجب أن نعلم:
أوّلا: أنّ هذا التكيّف يوجد في الأفكار العملية التي وظيفتها تنظيم الحياة الخارجية، ولا يمكن أن يوجد في الأفكار التأمّلية التي وظيفتها الكشف عن الواقع. فالمبادئ المنطقية، أو الرياضية، وغيرهما من الأفكار التأمّلية، تنبع من العقل، ولا تتكيّف بمقتضيات البيئة الاجتماعية، وإلاّ لكان مصير ذلك إلى الشكّ الفلسفي المطلق في كلّ حقيقة؛ إذ لو كانت الأفكار التأمّلية جميعاً تتكيّف بعوامل المحيط، وتتغيّر تبعاً لها، لم يؤمن على أيّ فكرة أو حقيقة من التغيّر والتبدّل.

ثانياً: أنّ تكيّف الأفكار العملية بمقتضيات البيئة وظروفها ليس آلياً، بل هو تكيّف اختياري، ينشأ من دوافع إرادية في الإنسان، تسوقه إلى جعل النظام المنسجم مع محيطه وبيئته، وبذلك يزول التعارض -تماماً- بين المدرسة الوظيفية، والمدرسة الغرضية في علم النفس.

تمثل هذه المقالة آخر حلقة في سلسلة "الرؤية الإسلامية للعالم"، والحمد لله رب العالمين..


مع أطيب التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق