المقدمة الثانية - المشكلة الاجتماعية، ومعدلات الإنجاب

بسم الله الرحمن الرحيم

إن أهم مشكلة تعاني منها البشرية هي عدم وجود رؤية شاملة بإمكانها توفير الإجابات على التساؤلات التي يطرحها المجتمع للوصول لنظام اجتماعي نموذجي، ليس بالضرورة أن تكون التساؤلات بصيغة مقروءة، فلعلها تكون تساؤلات بصيغة تحركات اجتماعية متمردة تارة ومخالفة للنظام تارة أخرى. كل هذه التساؤلات تصب في صالح سؤال واحد هو: ما هو النظام الإجتماعي الأصلح للوصول لسعادة البشرية؟

لم تتوفر رؤية شاملة لنظام اجتماعي صالح للتطبيق بصورة تتماشى والطبائع البشرية الأساسية، بحيث تغذي نمط حياة الإنسان بشكل يجعله يكتفي مع عدم تعديه على أي من حقوق الآخرين وعدم تقصيره في واجباته اتجاه المجتمع.

نستطيع أن نتكم في الأنظمة الاجتماعية الموجودة في العالم بطريقتين، إما أن نتكلم عن الواقع ونعتبره منطلقا لنقد الأنظمة، أو نقوم بدراسة النظرية وراء ذلك النظام الاجتماعي ونقوم بنقدها ثم استخلاص العبر من الواقع المعاش حاليا. الطريق الثاني يحتاج إلى استقصاء خارج عن نطاق بحثنا وحجمه، ولذلك سأقتصر على ما آل إليه الواقع بعد تطبيق النظم الاجتماعية. وبعد ذلك محاولة بلورة المشكلة بقالب نقدي للنظرية الواقفة وراءه.

  • معدل الإنجاب
إذا ما قمنا بدراسة لمعدلات النمو السكاني في المناطق التي تتبنى الفكر المادي عمليا نجد أنها مرعبة، نعم بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى.

ففي أوروبا مثلا، معدل الإنجاب هو 1.3 (مولود لكل أسرة)، وفي أمريكا 1.8، وفي كندا 1.5، أما لو رجعنا قليلا وابتعدنا شرقا لليابان، فإن معدل الإنجاب لا يصبح الخطر الأكبر، بل متوسط الأعمار الذي يتجاوز الـ 41 بقليل هو المهدد الحقيقي لهم بالانقراض!

لكي نفهم ما تعنيه هذه الإحصاءات، لابد أن نعلم بأن المعدل الطبيعي الكفيل بنجاة أي تجمع سكاني هو 2.1 (مولود لكل أسرة)، بحيث إننا ننتج من الأيدي العاملة في كل جيل ما يساوي (أو يزيد بقليل عن) الأيدي العاملة التي يفقدها المجتمع، حيث إننا لا نأخذ بالحسبان الكهول كعامل إيجابي مؤثر في الاقتصاد، بل الكهول يعتبرون بنحو ما مؤثر سلبي في الاقتصاد.

ما معنى المعدل الطبيعي الكفيل بنجاة التجمع السكاني، معنى ذلك أن كل تجمع سكاني يقل معدل الإنجاب فيه عن 2.1 (مولود لكل أسرة)، يكون مهددا بانقراض، إذا قلّت النسبة حتى 2 فهي لا تزال قابلة للعكس في فترة زمنية يحتملها الاقتصاد، أما إذا نقصت القيمة عن 1.9 فإنها يستحيل عكسها وذلك التجمع السكاني هو آيل للانقراض لا محالة. حيث أثبتت الدراسات التاريخية بأن الأمم التي قل معدل الإنجاب فيها عن 1.9، يصبح متوسط عمرها 80 عاما، أي عمر المجتمع لا عمر الفرد، بالتالي فإنها في غضون 80 عاما سوف تزول عن وجه الأرض (أو بمعنى آخر، بأنها تحتاج إلى 80 عاما لكي تقوم باستعادة الأيدي العاملة المفقودة، وذلك إذا أخذنا بعين الاعتبار أنها أعادت معدلات الإنجاب لمستوى طبيعي، ولا يوجد نظام اقتصادي يستطيع أن يصمد كل هذه الفترة بدون أن ينهار في ظل النقص في الأيدي العاملة). والسبب يرجع إلى أن عدد الأيدي العاملة لا تفي باحتياجات المجتمع، والنظام الاقتصادي يحتم على المجتمع هذا التزايد لكي يستمر، ولا يوجد نظام اقتصادي يستطيع أن يصمد في ظل هذا التناقص في معدلات الإنجاب.

لنرجع للإحصاءات التي ذكرناها، لنجد بأن القارة الأوربية ستتحول إلى صحراء في غضون 80 عاما تقريبا، وكذلك أمريكا وكندا، بالرغم من كل الهجرات الخارجية!! ولكن ما السبب؟

  • سبب التناقص في معدلات الإنجاب
قبل أن نفهم سبب التناقص في معدلات الإنجاب، لنعرض لمشكلة حدثت قبل حوالي السبعين عاما، حدث في العالم حدث هائل وخاصة في أوروبا، وهو الحرب العالمية الثانية، هل تعلم الرقم التقريبي لضحايا الحرب في ذلك الحين من العسكريين والمدنيين، الرقم يقارب الـ 70 مليون إنسانا!!

ولكن ليس هذا هو السؤال، بل السؤال هو كيف استعادت الدول الأوروبية عافيتها بعد الحرب، لماذا لم تنقرض الشعوب، لماذا لم تتحول الدول إلى أراضي قاحلة على الرغم من الأمد الطويل حتى اليوم؟ الجواب هو أن معدل النمو السكاني كان قبل الحرب وبعدها بسنوات طويلة يزيد عن 2.1، وبذلك تم تعويض النقص الحاصل في الأيدي العاملة خلال 20 أو 30 عاما...

إذن هذا المعدل الطبيعي هو كفيل بإنقاذ الأمم حتى وإن أنهكتها الحرب بأخذ ملايين من الأيدي العاملة المنتجة من الرجال والنساء والعسكريين، فخذ على سبيل المثال الاتحاد السوفيتي في حينه، حيث إن خسائره البشرية كانت في حدود الـ 27 مليونا، ومع ذلك استطاع التعافي ولو بعد حين.

فالحرب مهما كانت طاحنة، من الممكن التعافي من نتائجها المنهكة بزيادة عدد المواليد!! ولكن كيف لنظام اقتصادي تحمل ذلك؟

هنا بيت القصيد، فبعد الحرب العالمية الثانية، وبعد مشروع مارشال تم تطبيق نظام اقتصادي رأسمالي اسمه نظام بريتون وودز الاقتصادي، وهو ما أتاح للدول المنتصرة في الحرب والأقل تضررا مثل الولايات المتحدة الأمريكية فرضه على أوروبا ليصبح الاقتصاد الأوروبي تابعا ذليلا للولايات المتحدة الأمريكية كما هو حتى الآن.

و كان الهدف من الإصلاحات الأمريكية بأوروبا هو كسب دعم الدول الأوربية للقطب الغربي ومساهمتها في منع انتشار الشيوعية بأوربا، خصوصا بعد ظهور مظاهر الحرب الباردة بزعامة الاتحاد السوفياتي -القطب الشرقي- والولايات المتحدة الأمريكية-القطب الغربي-ابتداء من سنة 1946.

ومنذ ذلك اليوم حتى يومك هذا أصبح النظامان الرأسمالي والشيوعي الاشتراكي هما الحاكمين كنظامين اجتماعيين أكثر منهما اقتصاديين، ولكنهما عجزا عن تقديم حلول شاملة لرؤية تقود الإنسان إلى طريقه الصحيح، وبالتالي أثرت على المجتمعات سلبا.

النتيجة الرئيسية وراء ذلك التأثير السلبي على المجتمعات هو نقص معدل الإنجاب، حيث إن العامل الاقتصادي هو أهم عامل يجعل المجتمع لا يرغب في أعباء التربية وتبعاتها المالية، والنظام الاقتصادي هو العامل الأهم ليجعل الشباب يعزفون عن الزواج كما هو الحال في ألمانيا التي فاقت فيها معدلات الطلاق معدلات الزواج والتي تعد الدولة الوحيدة التي اجتازت فيها معدلات الوفيات معدلات المواليد، كما وأن النظام الاجتماعي عامل مؤثر ومهم، حيث إن الزواج يعتبر مبدأ من مباديء المجتمع، فإذا كان المجتمع يرى بأن من الحرية الشخصية ممارسة الجنس بدون رادع، فإنه لا يرغب بالزواج لأنه قيد كما يعلم المتزوجون!...

إن النظام الاقتصادي هو مؤثر رئيسي على المجتمعات التي تبنت الفكر المادي، والآن يأتي السؤال التالي: إذا كان الإلحاد هو الحل الأنجح لعلاج مشاكل المجتمعات كما يصوره لنا السيد وليد في مدونته، فماذا نفعل بالمذاهب المادية المتصارعة فيما بينها كالرأسمالية والاشتراكية؟ وما هي منظومة الأخلاق الضابطة التي تكون قاعدة أخلاقية للمجتمعات المادية المتصارعة؟

  • الديمقراطية الرأسمالية
إن النظام الديمقراطي الرأسمالي أطاح بلون من الظلم في الحياة الاجتماعية، وبالحكم الدكتاتوري في الحياة السياسية، وبجمود الكنيسة، وهيأ مقاليد الحكم والنفوذ لفئة حاكمة جديدة حلت محل السابقين وقامت بنفس دورهم الاجتماعي في أسلوب جديد.

حيث آمنت الرأسمالية بالفرد إيمانا لا حدود له، وبأن مصالحه الخاصة تكفل -بصورة طبيعية- مصلحة المجتمع في مختلف الميادين.. وأن فكرة الدولة إنما تستهدف حماية الأفراد ومصالحهم الخاصة.

يتلخص النظام الديقراطي الرأسمالي في إعلان الحريات الأربع: السياسية، والاقتصادية، والفكرية، والشخصية.

فالحرية السياسية: تجعل لكل فرد كلاما مسموعا، ورأيا محترما في تقرير الحياة العامة، من حيث وضع خططها ورسم قوانينها، وتعيين السلطات القائمة لحمايتها، وذلك لأن النظام الاجتماعي للأمة، والجهاز الحاكم فيها، مسألة تتصل اتصالا مباشرا بحياة كل فرد من أفرادها، وبالتالي فله حق المشاركة في بناء النظام.

والحرية الاقتصادية: تركز على الإيمان بالاقتصاد الحر، وتقرر فتح جميع الأبواب، وتهيئة كل الميادين أمام المواطن في المجال الاقتصادي. فيباح التملك للاستهلاك وللانتاج معا، وتباح هذه الملكية الانتاجية التي يتكون منها رأس المال من غير حد وتقييد، وللجميع على حد سواء. فلكل فرد مطلق الحرية في انتهاج أي أسلوب وسلوك أي طريق لكسب الثروة وتضخيمها ومضاعفتها على ضوء مصالحه ومنافعه الشخصية.

وحسب زعم بعض المدافعين، أن قوانين الاقتصاد السياسي التي تجري على أصول عامة بصورة طبيعية كفيلة بسعادة المجتمع، وحفظ التوازن الاقتصادي فيه، وأن المصلحة الشخصية التي هي الحافز القوي والهدف الحقيقي للفرد في عمله ونشاطه، هي خير ضمان للمصلحة الاجتماعية العامة. وأن التنافس الذي يقوم في السوق الحرة نتيجة لتساوي المنتجين والمتجرين في حقهم من الحرية الاقتصادية، يكفي وحده لتحقيق روح العدل والانصاف في شتى الاتفاقات (أي العقود) والمعاملات.

والحرية الفكرية: تعني أن يعيش الناس أحرارا في عقائدهم وأفكارهم، يفكرون حسب ما يتراءى لهم ويحلو لعقولهم، ويعتقدون ما يصل إليه اجتهادهم، أو ما توحيه إليهم مشتهياتهم وأهواؤهم بدون عائق من السلطة. فالدولة لا تسلب هذه الحرية عن فرد، ولا تمنعه عن ممارسة حقه فيها، والاعلان عن أفكاره ومعتقداته، والدفاع عن وجهات نظره واجتهاده.

والحرية الشخصية: تعبر عن تحرر الإنسان في سلوكه الخاص من مختلف ألوان الضغط والتحديد. فهو يملك إرادته وتطويرها وفقا لرغباته الخاصة، مهما نجم عن استعماله لسيطرته هذه على سلوكه الخاص من مضاعفات ونتائج، ما لم تصطدم بسيطرة الآخرين على سلوكهم. فالحد النهائي الذي تتوقف عنده الحرية الشخصية لكل فرد هي حرية الآخرين.

نستخلص من هذا العرض أن الخط الفكري العريض لهذا النظام هو أن مصالح المجتمع بمصالح الأفراد. فالفرد هو القاعدة التي يجب أن يرتكز عليها النظام الاجتماعي، والدولة الصالحة هي الجهاز الذي يسخر لخدمة الفرد وحسابه، والأداة القوية لحفظ مصالحه وحمايتها.

هذه هي الديمقراطية الرأسمالية التي قامت لأجلها جملة من الثورات، وجاهد في سبيلها كثير من الشعوب والأمم، في ظل قادة كانوا حين يعبرون عن هذا النظام الجديد ويعدونهم بمحاسنه، يصفون الجنة في نعيمها وسعادتها، وما تحفل به من انطلاق وهناء وكرامة وثراء. وقد أجريت عليها بعد ذلك تعديلات لم تطل جوهرها.

  • الاتجاه المادي في الرأسمالية
من الواضح بأن هذا النظام الاجتماعي نظام مادي خالص، أخذ فيه الإنسان بعيدا عن مبدئه وآخرته، محدودا بالجانب النفعي من حياته المادية، وافترض على هذا الشكل. ولكن هذا النظام في نفس الوقت الذي كان مشبعا بالروح المادية الطاغية لم يبن على فلسفة مادية للحياة، وعلى دراسة مفصلة لها.

فالحياة في الجو الاجتماعي لهذا النظام، فُصلت عن كل علاقة خارجة عن حدود المادة والمنفعة، ولكن لم يُهَيّأ لإقامة هذا النظام فهم فلسفي كامل لعملية الفصل هذه. مع أن العالم فيه مدارس فلسفية ولهذه المدارس أنصار، كان فيه إقبال على النزعة المادية تأثرا بالعقلية التجريبية التي شاعت من بداية الثورة الصناعية، وبروح الشك الفكري الذي أحدثه انقلاب الرأي في طائفة من الأفكار كانت تعد من أوضح الحقائق وأكثرها صحة، وبروح التمرد والسخط على الدين المزعوم الذي كان يجمد الأفكار والعقول، ويتملق للظلم والجبروت، وينتصر للفساد الاجتماعي في كل معركة يخوضها مع الضعفاء والمظطهدين.

كل هذا صحيح، ولكن النظام الرأسمالي لم يركز على فهم فلسفي مادي للحياة، وهذا هو التناقض والعجز الذي أبداه هذا النظام كنظام فكري لا كنظام يلبي حاجات الناس المادية بوضع قانون اقتصادي يحكم كل جوانب الحياة. فإن المسألة الاجتماعية للحياة تتصل بواقع الحياة ولا تظهر في شكل صحيح إلا إذا أقيمت على قاعدة مركزية، تشرح الحياة وواقعها وحدودها، والنظام الرأسمالي يفقد هذه القاعدة، فهو ينطوي على خداع وتضليل، أو على عجلة وقلة أناة، حين تجمد المسألة الواقعية للحياة، وتدرس المسألة الاجتماعية منفصلة عنها، ويجعل الاقتصاد المحرك الأوحد لها، مع إن قوام الميزان الفكري للنظام بتحديد نظرته منذ البداية على واقع الحياة، التي تزود المجتمع بالمادة الاجتماعية وطريقة فهمه لها. فالإنسان في هذا الكوكب إن كان من صنع قوة مدبرة مهيمنة، عالمة باسراره وخفاياه، بظواهره ودقائقه، قائمة على تنظيمه وتوجيهه، فمن الطبيعي أن يخضع في توجيهه وتكييف حياته لتلك القوة الخالقة، لأنها أبصر بأمره، وأنزه وأشد اعتدالا منه.

وإن كانت هذه الحياة المحدودة بداية الشوط لحياة خالدة تتلوها، وتتلون بطابعها، بحيث إن عملك في هذه الحياة ينعكس بصورة مباشرة على حياتك التالية، وتتوقف موازين الحياة الأخرى على مدى اعتدال الحياة الأولى ونزاهتها، فمن الطبيعي أن تنظم الحياة الحاضرة بما هي بداية الشوط لحياة لا فناء فيها، وتقام على أسس القيم المعنوية والمادية معا.

بذلك نستنتج بأن مسألة الإيمان بالله وانبثاق الحياة عنه ليست مسألة فكرية خالصة لاعلاقة لها بالحياة، لتنفصل عن مجالات الحياة ويشرع لها طرائقها ودساتيرها مع إغفال تلك المسألة وفصلها، بل هي مسألة تتصل بالعقل والقلب والحياة جميعا.

إن النظام الرأسمالي مادي بكل ما للفظ من معنى، فهو إما أن يكون قد استبطن المادية، ولم يجرؤ على الإعلان عن ربطه بها وارتكازه عليها. وإما أن يكون جاهلا بمدى الربط الطبيعي بين المسألة الواقعية للحياة ومسألتها الاجتماعية. وعلى هذا فهو يفقد الفلسفة التي لابد لكل نظام اجتماعي أن يركز عليها. وهو بكلمة واحدة نظام مادي، وإن لم يكن مقاما على فلسفة مادية واضحة الخطوط.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق