منظومة الأخلاق المادية، ومآسيها.

بسم الله الرحمن الرحيم

  • منظومة الأخلاق وموقعها في النظام الرأسمالي
كان من جراء المادية الذي زخر به النظام الرأسمالي بروحها، أن أقصيت الأخلاق، ولم يبق لها وجود في ذلك النظام، أو بالأحرى تبدلت مفاهميها ومقاييسها، وأعلنت المصلحة الشخصية كهدف أعلى، والحريات جميعا كوسيلة لتحقيق تلك المصلحة. فنشأ عن ذلك أكثر ما ضج به العالم الحديث من محن وكوارث ومآسي ومصائب اجتماعية.

إن التصوير الذي يقوم به وليد وجاد عن المادية إنما هو تصوير وهمي ليس له أساس من الواقع، ليس هناك منظومة أخلاق في النظام المادي أصلا، ولا يوجد رؤية شاملة لنظام اجتماعي أزيد من مصلحة الفرد التي يجب الحفاظ عليها بشتى السبل لتعزيز هذا النظام والحفاظ عليه، ولكن المنظرين الاقتصاديين هم ليسوا علماء اجتماع ولا علماء نفس، ولذلك وقعوا في أخطاء تنظيرية جعلت المجتمع في خاليا فكريا من هذه الناحية مع شديد الأسف، وبالتالي تولدت المآسي التي يعاني منها المجتمع والتي يتم قمعها بأنظمة بوليسية تكاد تصل لمرحلة قمع الحريات أو الدكتاتورية تحت ظل شعار حفظ نظام الدولة.

يجعل وليد الإلحاد بحد ذاته منطلقا لخدمة المجتمع، ولكنه غفل عن الغرائز الإنسانية التي تؤثر على الإنسان وتحرفه عن سيره المفترض، إن الإلحاد ما هو إلا فكرة تجعل الإنسان يسير نحو تعزيز مكانته في المجتمع، ذلك جيد جدا، ولكن الخطأ لا يقع في المفهوم وهو حب الذات ومحاولة الوصول لكمالها، بل يقع الخطأ في تشخيص المصداق الذي ينطبق عليه ذلك المفهوم، فتتباين الأساليب التي يتخذها الناس لتعزيز تلك المكانة، ولذلك وجدت في ظل النظام الرأسمالي المادي البحت المافيا والجريمة المنظمة والتجارة بالمخدرات، والمنافسة الغير شريفة التي تعد من أكبر المشاكل في المجتمعات الغربية، بل بدأت الشركات تستخدم أساليب غير أخلاقية، في دعاياتها وتنافسها وعملها بحرية مطلقة في القضاء على المنافسين دون رادع من الدولة، لأن الدولة هي المحافظ والحامي لمصالح الشركات.

قد يدافع أنصار الديمقراطية الرأسمالية عن وجهة نظرها في الفرد ومصالحه الشخصية، قائلين: إن الهدف الشخصي بنفسه يحقق المصلحة الاجتماعية، وإن النتائج التي تحققها الأخلاق بقيمها الروحية موجودة في المجتمع الديمقراطي الرأسمالي، لكن لا عن طريق الأخلاق، بل عن طريق الدوافع الخاصة وخدمتها، فإن الإنسان حين يقوم بخدمة اجتماعية يحقق بذلك مصلحة شخصية أيضا، باعتباره جزءا من المجتمع الذي سعى في سبيله، وحين ينقذ حياة شخص تعرضت للخطر فقد أفاد نفسه أيضا، لأن حياة الشخص سوف تقوم بخدمة للهيئة الاجتماعية، فيعود عليه نصيب منها، وإذن، فالدافع الشخصي يكفي لتأمين المصالح الاجتماعية وضمانها، ما دامت ترجع بالتحليل إلى مصالح خاصة ومنافع فردية.

مثال على بعد هذا القول عن الواقع، أن أصحاب الأعمال يقومون بخطوات لا إنسانية في طرد موظفين لمجرد إنهم أصبحوا لا ينتجون بالقدر المفترض، فبعد خدمة دامت مثلا 20 عاما، يستغني صاحب العمل بصورة لا إنسانية عن العامل الأجير، بل وحتى إنهم لا يحملون حسا إنسانيا لتقدير ضروف مريض في يوم ما تأخر عن العمل أو تغيب.

إن هذا الدفاع هو أقرب إلى الخيال الواسع منه إلى الاستدلال. فتصور بنفسك أن المقياس العملي في الحياة لكل فرد في الأمة إذا كان هو تحقيق منافعه ومصالحه الخاصة، على أوسع نطاق وأبعد مدى، وكانت الدولة توفر للفرد حرياته وتقدسه بغير تحفظ ولا تحديد، فما هو وضع العمل الاجتماعي من قاموس هؤلاء الأفراد؟! وكيف يمكن أن يكون اتصال المصلحة الاجتماعية بالفرد كافيا لتوجيه الأفراد نحو الأعمال التي تدعو إليها القيم الخلقية؟! مع أن كثيرا من تلك الأعمال لا تعود على الفرد بشيء من النفع، وإذا اتفق أن كان فيها شيء من النفع باعتباره فردا من المجتمع، فكثيرا ما يزاحم هذا النفع الضئيل -الذي لا يدركه الإنسان إلا في نظرة تحليلية- بفوات منافع عاجلة أو مصالح فردية تجد في الحريات ضمانا لتحقيقها، فيضرب الفرد في سبيلها عرض الجدار كل القيم الخلقية والضمير.

فانظر إلى البعد الأخلاقي في تصرفات الأبناء حينما يصبح الأب كهلا ويشكل عبئا عليهم، ففي المجتمعات الرأسمالية المادية يصبح للأب مكان واحد وهو دار العجزة والمسنين! هل ترى أي بعد أخلاقي في هذا التصرف، حيث إنك لا تجد ابنا من دافع شخصي أخلاقي يستغني عن بعض مصالحه في سبيل تقديم نموذج للتكافل الإجتماعي، إلا أن يكون الدافع ذاتيا من منطلق العطف والرفق، أي إرضاء هذه المشاعر التي لا يستطيع التغاضي عنها والتي تدخل في نطاق حبه لذاته، وهي تعتبر مشاعر نابعة من التربية..

  • مآسي النظام الرأسمالي
إن عرض السلسلة الكامل لمآسي النظام الرأسمالي إنما هو يفوق استيعاب هذه المدونة، فنعرض لأهمها:

فأول تلك الحلقات: تحكم الأكثرية بالأقلية ومصالحها ومسائلها الحيوية، فإن الحرية السياسية تعني: أن وضع النظام والقوانين وتمشيتها من حق الأكثرية. ولنتصور أن الفئة التي تمثل الأكثرية في الأمة ملكت زمام الحكم والتشريع، وهي تحمل العقلية الديمقراطية الرأسمالية، وهي عقلية مادية خالصة في اتجاهها، ونزعاتها، وأهدافها، وأهوائها، فماذا يكون مصير الفئة الأخرى؟! أو ماذا ترتقب للأقلية من حياة في ظل قوانين تشرع لحساب الأكثرية ولحفظ مصالحها؟! وهل يكون من الغريب إذا شرعت الأكثرية القوانين على ضوء مصالحها خاصة، وأهملت مصالح الأقلية، واتجهت إلى تحقيق رغباتها اتجاها مجحفا بحقوق الآخرين؟!

كما يحصل الآن من لعب سياسي في العالم الرأسمالي المادي، حيث إن الأقلية من السياسيين يحصلون على منزلة فوق القانون ويقومون باستغلال ذلك، والقليل منهم من يعمل لمصلحة الشعب، حيث إن الشعب قد أقر له قانون الحرية منذ زمن، ولا يمكن له التأثير على أي تشريع معاصر، بل هو مُلهى بأزمات مفتعلة، أزمة اقتصادية تثقل كاهل الإنسان الكادح وتجعله يخسر كل شيء من منزل وأثاث وسيارة وعمل وإلخ، وأزمة سياسية تفبرك لتبرر أعمال الساسة في صناعة الموت لشعوب ليس لها دخل ولا ذنب كما حدث في أحداث 11-9.

من الذي يحفظ لهذه الأقلية كيانها، ويدافع عنها، ما دامت المصلحة الشخصية هي مسألة كل فرد، وما دامت الأكثرية لا تعرف للقيم الروحية والمعنوية مفهوما في عقليتها الاجتماعية؟! وبطبيعة الحال، التحكم سوف يبقى في ظل النظام كما كان في السابق، وأن مظاهر الانحلال والاستهتار بحقوق الآخرين ومصالحهم ستحفظ في الجو الاجتماعي لهذا النظام كحالها في الأجواء الاجتماعية القديمة. وغاية ما في الموضوع من فرق: أن الاستهتار بالكرامة الإنسانية كان من قبل أفراد، وأصبح في هذا النظام من الفئات التي تمثل الأكثريات بالنسبة إلى الأقليات التي تشكل بمجموعها عددا هائلا من البشر.

لنصل هنا إلى أكبر مأساة، وهي أن هؤلاء الذين هم في سدة الحكم، والذين وضع النظام الديمقراطي الرأسمالي في أيديهم كل نفوذ، وزودهم بكل قوة وطاقة، سوف يمدون أنظارهم إلى ما هو أبعد، ويشعرون بوحي من مصالحهم وأغراضهم أنهم في حاجة إلى مناطق نفوذ جديدة، وذلك لسببين ألخصهما:

الأول: نقص المواد الأولية.
الثاني: خلق أسواق جديدة لمنتجاتها.

وهكذا تدرس المسألة بفكرة مادية خالصة، فتشعر بدافع مادي بأنها تحتاج إلى أراض جديدة لتكون مناطق نفوذ لها، فتتحرك لاحتلالها، وهذا ما هو واقع بالفعل في العالم، فهل اتضح لنا السبب وراء كل هذه الحركات التي قامت بها الامبراطوريا المادية للسيطرة على المناطق التي تغذي العالم بالمادة الأولية لإنتاج الطاقة (النفط).

فانظر ماذا قاست الإنسانية من ويلات هذا النظام، باعتباره ماديا في روحه وصياغته، وأساليبه وأهدافه، وإن لم يكن مركّزا على فلسفة محددة تتفق مع تلك الروح والصياغة، وتنسجم مع هذه الأساليب والأهداف كما أشرنا إليه!! وقدر بنفسك نصيب المجتمع الذي يقوم على ركائز هذا النظام ومفاهيمه من السعادة والاستقرار، هذا المجتمع الذي ينعدم فيه الإيثار والثقة المتبادلة، والتراحم والتعاطف الحقيقي، وجميع الاتجاهات الروحية الخيرة، فيعيش الفرد فيه وهو يشعر بأنه المسؤول عن نفسه وحده، وأنه في خطر من قبل كل مصلحة من مصالح الآخرين التي قد تصطدم به. فكأنه يحيا في صراع دائم، لا سلاح له فيها إلا قواه الخاصة ولا هدف منها إلا مصالحه الخاصة. فإما النصر وإما "الانتحار"!!

مع التحيات
ليث


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق