الحلقة الثامنة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بالله في ضوء المذهـب العـقلي

عرفنا في الحلقة السابقة أن الاتجاه المادي والاتجاه العقلي وإن اتفقا على أن المعرفة تمر بمرحلتين هما مرحلة تجميع معطيات الحس والتجربة ومرحلة تفسيرها نظريا وعقليا غير أنهما اختلفا على نوع التفسير الذي يستنتج عقليا في المرحلة الثانية وهنا نحاول الوقوف على نموذج من الدليل الفلسفي لإثبات الصانع وموقف الاتجاه المادي منه:

  • الدليل الفلسفي
ويعتمد هذا الدليل على القضايا الثلاث التالية:

أولا: على البديهة القائلة أن كل حادثة لها سبب تستمد منه وجودها وهذه قضية يدركها الإنسان بشعوره الفطري ويؤكدها الاستقراء العلمي باستمرار (مبدأ السببية الذي يتذرع به الماديون في إشكالهم على استحالة عدم وجود سبب لله سبحانه وتعالى).

ثانيا: على القضية القائلة كلما وجدت درجات متفاوتة من شيء بعضها أقوى وأكمل من بعض فليس بالإمكان أن تكون الدرجة الأقل كمالا والأدنى محتوى هي السبب في وجود الدرجة الأعلى فالحرارة لها درجات والمعرفة لها درجات بعضها اشد وأكمل من بعض فلا يمكن أن تنبثق درجة أعلى من الحرارة عن درجة أدنى منها ولا يمكن أن يكتسب الإنسان معرفة كاملة باللغة الانجليزية من شخص لا يعرف منها إلا قدرا محدودا أو يجهلها تماما.

ثالثا: إن المادة في تطورها المستمر تتخذ أشكالا مختلفة في درجة تطورها ومدى التركيز فيها فالجزيء من الماء الذي لا حياة فيه ولا إحساس يمثل شكلا من أشكال الوجود للمادة ونطفة الحياة التي تساهم في تكوين النبات والحيوان البروتوبلازم تمثل شكلا ارفع لوجود المادة والاميبا التي تعتبر حيوانا مجهريا ذا خلية واحدة تمثل شكلا من وجود المادة أكثر تطورا والإنسان هذا الكائن الحي الحساس المفكر يعتبر الشكل الأعلى من أشكال الوجود في هذا الكون وحول هذه الأشكال المختلفة من الوجود يبرز السؤال التالي هل الفارق بين هذه الأشكال مرده فارق كمي في عدد الجزيئات والعناصر وفي العلاقات الميكانيكية بينها أو هو فارق نوعي وكيفي يعبر عن درجات متفاوتة من الوجود ومراحل من التطور والتكامل؟ وبكلمة أخرى هل الفارق بين التراب (لمن يشكل على أن الإنسان أصله ليس التراب ويقول بأنه مخلوق من المني، أقول له سيدي غابت عنك أشياء كثيرة، فمرد كل شيء لو نظرت بنظرة واحد إلى التراب، فكل كائن حي يعيش سواء كان عاشبا أو لاحما هو مرده إلى التراب الذي ينبت منه كل عشب، ومرد تلك الحياة الإرتباط الغير نقطع بينه وبين الماء، فبدون ماء لا حياة مطلقا، وبالتالي فإن ذكر بدء الخلقة من التراب والماء لا يتنافى وكونه تخلّق من المني والبويضة، فمردها جميعا في الأصل الأول إلى التراب والماء)، هل الفارق بين التراب والإنسان الذي تكون منه عددي فقط أو هو الفارق بين درجتين من الوجود ومرحلتين من التطور والتكامل كالفارق بين الضوء الضعيف والضوء الشديد؟

وقد آمن الإنسان بفطرته مند طرح على نفسه هذا السؤال بأن هذه الأشكال درجات من الوجود ومراحل من التكامل فالحياة درجة أعلى من الوجود للمادة وهذه الدرجة نفسها ليست حدية وإنما هي أيضا درجات وكلما اكتسبت الحياة مضمونا جديدا عبرت عن درجة أكبر ومن هناك كانت حياة الكائن الحساس المفكر أغنى وأكبر درجة من الحياة والنبات وهكذا.

غير أن الفكر المادي قبل أكثر من قرن من الزمن خالف في ذلك إيمانا منه بوجهة النظر الميكانيكية في تفسير الكون القائلة بان العالم الخارجي يتكون من جسيمات صغيرة متماثلة تؤثر عليها قوى بسيطة متشابهة جاذبة وطاردة (أي المادة والطاقة) ضمن قوانين عامة أي أن عملها يقتصر على التأثير بتحريك بعضها للبعض من مكان إلى مكان وبهذا الجذب والطرد تتجمع أجزاء وتتفرق وتتنوع أشكال المادة وعلى هذا الأساس حصرت المادية الميكانيكية التطور والحركة بحركة الأجسام والجسيمات في الفضاء من مكان إلى مكان وفسرت جميع أشكال المادة المختلفة بأنها طرق شتى لتجمع تلك الجسيمات وتوزعها دون أن يحدث من خلال تطور المادة شيء جديد فالمادة لا تنمو في وجودها ولا تترقى في تطورها وإنما تتجمع وتتوزع بطرق مختلفة كالعجينة في يدك حين تشكلها بأشكال مختلفة وتظل دائما هي العجينة نفسها دون جديد.

هذه الفرضية أوحى بها تطور علم الميكانيك الذي كان أول العلوم الطبيعية تحررا وانطلاقا في أساليب البحث العلمي وشجع عليها ما أحرزه هذا العلم من نجاح في اكتشاف قوانين الحركة الميكانيكية وتفسير الحركات المألوفة للأجسام الاعتيادية على أساسها بما فيها حركات الكواكب في الفضاء، ولكن استمرار تطور العلم وامتداد أساليب البحث العلمي إلى مجالات متنوعة أخرى اثبت بطلان تلك الفرضية وعجزها من ناحية عن تفسير كل الحركات المكانية تفسيرا ميكانيكيا وقصورها من ناحية أخرى عن استيعاب كل أشكال المادة ضمن الحركة الميكانيكية للأجسام والجسيمات من مكان إلى مكان وأكد العلم ما أدركه الإنسان بفطرته من أن تنوع أشكال المادة لا يعود إلى مجرد نقلة مكانية من مكان إلى مكان بل إلى ألوان من التطور النوعي والكيفي وثبت من خلال التجارب العلمية إن أي تركيب عددي للجسيمات لا يمثل حياة أو إحساسا أو فكرا وهذا ما يجعلنا أمام تصور يختلف كل الاختلاف عن التصور الذي تقدمه المادية الميكانيكية إذ نواجه في الحياة والإحساس والفكر عملية نمو حقيقية في المادة وتطورا نوعيا في درجات وجودها سواء كان محتوى هذا التطور النوعي شيئا ماديا من درجة أعلى أو شيئا لا ماديا.

ثلاث قضايا منطقية :

  1. كل حادثة لها سبب.
  2. الأدنى لا يكون سببا لما هو أعلى منه درجة.
  3. اختلاف درجات الوجود في هذا الكون وتنوع أشكاله كيفيا.

وفي ضوء هذه القضايا الثلاث نعرف أنا نواجه في الأشكال النوعية المتطورة نموا حقا أي تكاملا في وجود المادة وزيادة نوعية فيه فمن حقنا أن نتساءل من أين جاءت هذه الزيادة؟ وكيف ظهرت هذه الإضافة الجديدة مع أن لكل حادثة سببا كما تقدم؟ وتوجد بهذا الصدد إجابتان:

الإجابة الأولى: إنها جاءت من المادة نفسها فالمادة التي لا حياة فيها ولا إحساس ولا فكر أبدعت من خلال تطورها الحياة والإحساس والفكر أي أن الشكل الأدنى من وجود المادة كان هو السبب في وجود الشكل الأعلى درجة والأغنى محتوى.

وهذه الإجابة تتعارض مع القضية الثانية المتقدمة التي تقرر أن الشكل الأدنى درجة لا يمكن أن يكون سببا لما هو اكبر منه درجة وأغنى منه محتوى من أشكال الوجود فافتراض أن المادة الميتة التي لا تنبض بالحياة تمنح لنفسها أو لمادة أخرى الحياة والإحساس والتفكير يشابه افتراض أن الإنسان الذي يجهل اللغة الانجليزية يمارس تدريسها وان الفقير الذي لا يملك رصيدا يمول المشاريع.

الإجابة الثانية: إن هذه الزيادة التي تعبر عنها المادة من خلال تطورها جاءت من مصدر يتمتع بكل ما تحتويه تلك الزيادة الجديدة من حياة وإحساس وفكر وهو الخالق سبحانه وتعالى هذه هي الإجابة الوحيدة التي تنسجم مع القضايا الثلاث المتقدمة وتستطيع أن تعطي تفسيرا معقولا لعملية النمو والتكامل في أشكال الوجود على ساحة هذا الكون الرحيب.

موقف المادية من هذا الدليل:

إن المادية الميكانيكية غير محرجة في مواجهة هذا الدليل لأنها كما عرفنا تفسر الحياة والإحساس والفكر بأنها أشكال من التجميع والتوزيع للأجسام والجسيمات لا أكثر فلا يحدث من خلالها شيء جديد سوى حركة الأجزاء وفقا لقوى ميكانيكية فيزيائية- وأما المادية الحديثة فهي لإيمانها بالتطور النوعي والكيفي للمادة من خلال هذه الأشكال تواجه إحراجا في هذا الدليل غير أنها اختارت أسلوبا أخر في تفسير هذا التطور الكيفي توفق فيه بين القضية الثانية المتقدمة ورغبتها في الاكتفاء بالمادة وحدها كتفسير لكل تطوراتها وهذا الأسلوب هو أن المادة هي مصدر العطاء وهي التي تمول عملية التطور الكيفي ولكن لا كما يمول الفقير المشاريع لكي يتعارض مع القضية الثانية المتقدمة بل إن ذلك يتم على أساس أن كل أشكال التطور ومحتوياته موجودة في المادة مند البدء فالدجاجة موجودة في البيضة والغاز موجود في الماء وهكذا، أي باستخدام قانون حفظ الطاقة.

أما كيف تكون المادة في وقت واحد بيضة ودجاجة أو ماء وغاز؟ فتجيب المادية الجدلية على ذلك بأن هذا تناقض والتناقض هو قانون الطبيعية العام فكل شيء يحتوي على نقيضه في أحشائه وهو في صراع مستمر مع هذا النقيض وبهذا الصراع بين النقيضين ينمو النقيض الداخلي حتى يبرز ويحقق تحولا في المادة كالبيضة تنفجر في لحظة معينة ويبرز فرخ الدجاجة من داخلها وعن هذا الطريق تتكامل المادة باستمرار لان النقيض الذي يبرز من خلال الصراع يمثل المستقبل أي خطوة إلى الأمام.

مناقشة الموقف:

الاحتمال الأول: أن يراد بذلك أن البيضة وفرخ الدجاجة نقيضان أو ضدان وان البيضة تصنع الفرخ وتسبغ عليه صفات الحياة أي إن الميت يلد الحي ويصنع الحياة وهذا تماما كالفقير الذي يمول المشاريع الكبيرة يتعارض مع البديهية المتقدمة.

الاحتمال الثاني: أن يراد بذلك أن البيضة لا تصنع الفرخ بل تبرزه بعد أن كان كامنا فيها لأن كل شيء يكمن فيه نقيضه فالبيضة حينما كانت بيضة هي في الوقت نفسه فرخ دجاجة كالصورة التي تبدو من جانب بشكل ومن جانب آخر بشكل مختلف ومن الواضح أن البيضة إذا كانت في الوقت نفسه فرخ دجاجة فلا توجد هناك أي عملية نمو أو تكامل عندما تصبح البيضة دجاجة لأن كل ما وجد الآن كان موجودا منذ البدء تماما كالشخص يخرج نقوده من جيبه فلا يزداد بذلك ثراء لأن كل ما بيده الآن من نقود كان في جيبه.

الاحتمال الثالث: أن يراد أن البيضة نفسها تعبر عن ضدين أو نقيضين مستقلين لكل منهما وجوده الخاص أحدهما يتمثل في النطفة التي سببها في داخل البيضة اللقاح والأخر سائر ما تحتويه البيضة من مواد وهذان الضدان وحدتهما معركة في داخل قشر البيضة ومن خلال هذا الصراع برز احد الضدين وانتصرت النطفة فتحولت البيضة إلى دجاجة. ولكن لماذا نسمي هذا التفاعل بين النطفة والمواد الطبيعية المكونة للبيضة تناقضا؟ إنها مجرد تسمية وليست بأفضل من أن يقال إن احدهما يندمج في الأخر أو يتوحد فيه هب أنا سمينا ذلك تناقضا فلن تحل المشكلة بذلك ما دمنا نسلم بان هذا التفاعل الخاص بين الضدين يؤدي إلى نتيجة اكبر إلى عملية نمو إلى شيء جديد يزيد على المجموع العددي لهما فمن أين جاءت هذه الزيادة؟ هل جاءت من الضدين المتصارعين الفاقدين معا لها مع أن فاقد الشيء لا يعطيه بحكم القضية الثانية من القضايا الثلاث المتقدمة؟.

نفس هذا المثال المنطبق على البيضة، نحاول نطبيقه على الخلية الأولى. وهي الخلية التي نشأت من الصدفة المحضة، ويأتي تبرير لبعض الماديين أو المدونين من أن ما أسميناه صدفة محضة هو عبارة عن بيئة ملائمة بعد أن كان الأوكسين له صيغة تختلف عن صيغته الحالية، ومن ثم اتحدت بعض الأحماض الأمينية وكونت البروتينات التي بطفرات نوعية غير مسبوقة استطاعت أن تكون الخلية الأم، وبعدها حدث الانقسام وحدثت الطفرات النوعية التي أنشأت أنواع الحياة الكثيرة. وما تواجهه هذه النظرية من إشكالات إنما يدخل في نفس إطار الإشكالات التي ترد على إشكال البيضة والدجاجة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق