الرسالة

بسم الله الرحمن الرحيم

الرسالة، وهي الإسلام دين اللّه الذي بعث به محمداً (ص) رحمة للعالمين.

وقد استهدف الإسلام قبل كل شيء ربط الإنسان بربه وبمعاده، فمن الناحية الأولى ربط الإنسان بالإله الواحد الحق الذي تشير إليه الفطرة، وأكد وحدة الإله الحق وشدد على ذلك لكي يقضي على كل ألوان التأله المصطنع، حتى جعل من كلمة التوحيد (لا اله إلا اللّه) شعاره الرئيسي.

ولما كانت النبوة هي الوسيط الوحيد المباشر بين الخلق والخالق، فشهادة هذه النبوة بوحدة الإله والخالق ارتباطها بالإله الواحد الحق تعتبر أساساً كافياً لإثبات التوحيد.

ومن الناحية الثانية ربط الإنسان بالمعاد لكي تكتمل بذلك الصيغة الوحيدة القادرة على علاج التناقض والتي تحقق العدل الإلهي في نفس الوقت كما مرّ بنا سابقاً.

وللرسالة الإسلامية خصائصها التي تميزها عن سائر رسالات السماء وسماتها التي جعلت منها حدثاً فريداً في التاريخ.

وفيما يلي نذكر عدداً من الخصائص والسمات بإيجاز:

أولاً: إن هذه الرسالة ظلت سليمة ضمن النص القرآني دون أن تتعرض لأي تحريف، بينما منيت الكتب السماوية السابقة بالتحريف وأفرغت من كثير من محتواها، قال اللّه سبحانه وتعالى (إنا نحن نزلنا الذكر وانا له لحافظون)، ولقد تنبأ القرآن بذلك وذلك ما حدث بالفعل.

واحتفاظ الرسالة بمحتواها العقائدي والتشريعي هو الذي يمكنها من مواصلة دورها التربوي وكل رسالة تفرغ من محتواها بالتحريف والضياع لا تصلح أداة ربط بين الإنسان وربه، لان هذا الربط لا يتحقق بمجرد الانتماء الاسمي، بل بالتفاعل مع محتوى الرسالة وتجسيدها فكراً وسلوكاً، ومن أجل ذلك كانت سلامة الرسالة الإسلامية بسلامة النص القرآني الشرط الضروري لقدرة هذه الرسالة على مواصلة أهدافها.

ثانياً: إن بقاء القرآن نصاً وروحاً يعني إن نبوة محمد (ص) لم تفقد أهم وسيلة من وسائل إثباتها لان القرآن وما يعبر عنه من مبادئ الرسالة والشريعة كان هو الدليل الاستقرائي وفقاً لما تقدم على نبوة محمد وكونه رسولاً، وهذا الدليل يستمر مادام القرآن باقياً.

وخلافاً لذلك النبوات التي يرتبط إثباتها بوقائع معينة تحدث في لحظة وتنتهي، كإبراء الأكمه والأبرص فان هذه الوقائع لا يشهدها عادة إلا المعاصرون لها وبمرور الزمن وتراكم القرون تفقد الواقعة شهودها الأوائل ويعجز الإنسان غالباً عن لحصول على أي تأكيد حاسم لها عن طريق البحث والتنقيب، وكل نبوة لا يمكن التأكد من دليلها لا يمكن أيضاً أن يكلف اللّه سبحانه وتعالى بالاعتقاد بها أو البحث عن وسيلة لإثباتها إذ لا يكلف اللّه نفساً إلا ما أتاها. ونحن اليوم نعتمد في إيماننا بالأنبياء السابقين صلوات اللّه عليهم وبمعاجزهم على أخبار القرآن الكريم بذلك.

ثالثاً: إن مرور الزمن كما عرفنا لا ينقص من قيمة الدليل الأساس على الرسالة الإسلامية، ولكن ليس هذا فقط بل أنه أيضاً يمنح هذا الدليل أبعاداً جديدة من خلال تطور المعرفة البشرية واتجاه الإنسان إلى دراسة الكون بأساليب العلم والتجربة، وليس ذلك فقط لان القرآن الكريم سبق إلى الاتجاه نفسه وربط الأدلة على الصانع الحكيم بدراسة الكون والتعمق في ظواهره ونبه الإنسان إلى ما في هذه الدراسة من أسرار ومكاسب، بل لأن الإنسان الحديث لو يتمعن اليوم في ذلك الكتاب الذي بشر به رجل أمي في بيئة جاهلة قبل مئات السنين، يجد إشارات واضحة إلى ما كشف عنه العلم الحديث، حتى لقد قال المستشرق الإنجليزي (أجيري) أستاذ اللغة العربية في جامعة اكسفورد عندما اكتشف العلم دور الرياح في التلقيح: إن أصحاب الإبل قد عرفوا إن الرياح تلقح الأشجار والثمار قبل أن يتوصل العلم في أوروبا إلى ذلك بعدة قرون، وذلك إشارة إلى الآية الكريمة (وأرسلنا الرياح لواقع).

رابعاً: إن هذه الرسالة جاءت شاملة لكل جوانب الحياة وعلى هذا الأساس استطاعت إن توازن بين تلك الجوانب المختلفة وتوحد أسسها وتجمع في إطار صيغة كاملة بين الجامع والجامعة والمعمل والحفل، ولم يعد الإنسان يعيش حالة الانشطار بين حياته الروحية وحياته الدنيوية.

خامساً: إن هذه الرسالة هي الرسالة السماوية الوحيدة التي طبقت على يد الرسول الذي جاء بها وسجلت في مجال التطبيق نجاحاٍ باهراً واستطاعت أن تحول الشعارات التي أعلنتها إلى حقائق في الحياة اليومية للناس.

سادساً: إن هذه الرسالة بنزولها إلى مرحلة التطبيق دخلت التاريخ وساهمت في صنعه، إذ كانت هي حجر الزواية في عملية بناء أمة حملت تلك الرسالة واستنارت بهداها ولما كانت هذه الرسالة ربانية وتمثل عطاء سماوياً للأرض فوق منطق العوامل والمؤثرات المحسوسة نتج عن ذلك ارتباط تاريخ هذه الأمة بعامل غيبي وأساس غير منظور لا يخضع للحسابات المادية للتاريخ.

ومن هنا كان من الخطأ أن نفهم تاريخنا ضمن إطار العوامل والمؤثرات الحسية فقط أو أن نعتبره حصيلة ظروف مادية أو تطور في قوى الإنتاج، فان هذا الفهم المادي للتاريخ لا ينطبق على أمة بني وجودها على أساس رسالة السماء وما لم ندخل هذه الرسالة في الحساب كحقيقة ربانية لا يمكن أن نفهم تاريخها.

سابعاً: إن هذه الرسالة لم يقتصر أثرها على بناء هذه الأمة بل امتد من خلالها ليكون قوة مؤثرة. وفاعلة في العالم كله على مسار التاريخ، ولا يزال المنصفون من الباحثين الأوروبيين يعترفون بأن الدفعة الحضارية للإسلام هي التي حركت شعوب أوروبا النائمة من نومها ونبهتها إلى الطريق.

ثامناً: إن النبي محمد (ص) الذي جاء بهذه الرسالة تميز عن جميع الأنبياء الذين سبقوه بتقديم رسالته بوصفها آخر أطروحة ربانية، وبهذا أعلن أن نبوته هي النبوة الخاتمة. وفكرة النبوة الخاتمة لها مدلولان أحدهما: سلبي وهو المدلول الذي ينفي ظهور نبوة أخرى على المسرح، والآخر: إيجابي وهو المدلول الذي يؤكد استمرار النبوة الخاتمة وامتدادها مع العصور.

وحينما نلاحظ المدلول السلبي للنبوة الخاتمة نجد أن هذا المدلول قد انطبق على الواقع تماماً خلال الأربعة عشر قرناً التي تلت ظهور الإسلام وسيظل منطبقاً على الواقع مهما امتد الزمن، غير إن عدم ظهور نبوة أخرى على مسرح التاريخ ليس لان النبوة تخلت عن دورها كأساس من أسس الحضارة الإنسانية، بل لان النبوة الخاتمة جاءت بالرسالة الوريثة لكل ما يعبر عنه تاريخ النبوات من رسالات والمشتملة على كل ما في تلك النبوات والرسالات من قيم ثابتة دون ما لابسها من قيم مرحلية وبهذا كانت هي الرسالة المهيمنة القادرة على الاستمرار مع الزمن وكل ما يحمل من عوامل التطور والتجديد.

[وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه] المائدة : 48.

تاسعاً: وقد اقتضت الحكمة الربانية التي ختمت النبوة بمحمد (ص) أن تعد له أوصياء يقومون بأعباء الإمامة والخلافة بعد اختتام النبوة وهم اثنى عشر إماماً قد جاء النص على عددهم من قبل رسول اللّه (ص) في أحاديث صحيحة اتفق المسلمون على روايتها أولهم: أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب وبعده الحسن ثم الحسين وبعد الحسين تسعة من آله على الترتيب التالي علي بن الحسين السجاد ثم محمد بن علي الباقر ثم جعفر ابن محمد الصادق ثم موسى بن جعفر الكاظم ثم علي بن موسى الرضا ثم محمد بن علي الجواد ثم علي بن محمد الهادي ثم الحسن بن علي العسكري ثم محمد ابن الحسن المهدي.

عاشراً: وفي حالة غيبة الإمام الثاني عشر عليه الصلاة والسلام أرجع الإسلام الناس إلى الفقهاء وفتح باب الاجتهاد بمعنى بذل الجهد في استنباط الأحكام الشرعية من الكتاب والسنة.

إليك سيدي يا أبا عبد الله أهدي ثواب جهدي، فبزخم دمك الطاهر حفظت كل هذه الصروح الفكرية الشامخة وبقدرة صوتك الثائر وصلت إلينا الرسالة سليمة معطرة بدم الشهداء بدمك ودماء بنيك الطاهرين على مر التاريخ. وما توفيقي الا بالله هو حسبنا وانا لله وانا اليه راجعون.

ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق