الميتافيزيقية في صميم فكر الملحدين ولا ينفك عنهم أبدا!

بسم الله الرحمن الرحيم

نعم، قد تستغرب العنوان، ولكن!!، هذا الموضوع هو خاطرة أكثر منه بحثا، ولذلك لن يكون ممنهجا علميا كثيرا، بل سيكون موجها للصميم.

أود أن أضع بعض الملاحظات أولا، حيث إن تحديد نطاق البحث التجريبي هو أمر أساسي يحدد بدوره إمكانية الملحد ونطاق قدرته على الحكم.

  • نطاق البحث التجريبي
بعد نقاشات طويلة مع الملحدين وجدت بأنهم يجعلون التجربة والعلم التجريبي هو الأساس، بل يتجاوزون إلى أكثر من ذلك بجعلهم البحث التجريبي هو الرافد الوحيد للمعارف البشري، وهم بالتالي ينكرون أي معرفة غير خاضعة للتجربة، وهم لا ينكرون قيمتها بل معناها من الأساس، بكلمة أخرى، هم لا يقولون بأن البحث في وجود الله هو أمر لا قيمة له، بل يقولون بأن البحث في وجود الله أمر لا معنى له.

والسبب في كون البحث عن وجود الله أمر لا معنى له في نظرهم هو: لما كان البحث عن الله أمر غير واقع في نطاق التجربة، وهم يعتبرون التجربة الرافد الوحيد للمعارف البشرية، فلا معنى أن نبحث عن أمر هو غير واقع في نطاق التجربة.

التجربة بحد ذاتها أمر لا خلاف على أهميته لرفد الفكر البشري بالمعارف المختلفة، بل هي الأساس في الثورة العلمية التي حصلت في القرن الماضي ولها الفضل الكبير، ولكن التجربة لها مميزات وعيوب. فمن مميزاتها أنها تكتشف أمورا لا يمكن اكتشافها إلا بالتجربة، كالمسائل الطبيعية (الفيزيائية والكيميائية والبايولوجية) وعلوم الحياة بصورة عامة، وهي بدورها كاشفة عن الكثير من الأمور المتعلقة بالعالم المادي، ولكن لها عيب كبير في نفس الوقت، فهي محدودة بعالم المادة، وليس لها دور الكاشفية عن أي شيء وراء عالم المادة لا نفيا ولا إثباتا!

إن التجربة بحد ذاتها، والمنهج التجريبي بصورة عامة، محدود بعالم المادة، حتى الفلسفات القائمة على هذا المنهج هي فلسفات مادية تنكر أي شيء وراء المادة (أي ميتافيزيقي، وهي كلمة مأخوذة من اللاتينية Meta-Physics).

وهنا يرد سؤال: هل معنى التزامنا بالتجربة وإنكار كل قيمة لأي معرفة لا تخضع للتجربة هو أمر ثابت مبرهن أم لا؟

والجواب بصورة واضحة هو كلا، والسبب واضح على ما أعتقد، حيث إن التجربة لا تستطيع وضع برهان لأي شيء وراء المادة لا سلبا ولا إيجابا! يعني هي لا تستطيع إثبات قيمة لمعرفة وراء المادة، ولا تستطيع إنكار معرفة وراء المادة، وبالتالي فإنها على الحياد، وتحتاج إلى عامل خارجي لكي يثبت ذلك لها أو أن تغير طريقتها كلها من الأساس.

ويرد سؤال ثاني: إذا كان المنهج التجريبي لا يستطيع التدخل لا إيجابا ولا سلبا في أي أمر ميتافيزيقي، فكيف له أن ينكر وجود موضوعات تتعلق بوجود ليس بمادي؟

والجواب هو أنها تتجاوز حدودها حين تشعر بالعجز!

  • المنهج التجريبي والبحث عن الله
من خلال ملاحظاتي لطريقة الملحدين واعتمادهم على العلوم الحديثة، وجدت بأنهم يرتكزون على ثلاثة نظريات أساسية، النظرية الأولى هي نظرية الخلية الأولى، والنظرية الثانية هي نظرية التطور، والنظرية الثالثة هي نظرية الإنفجار الكبير.

لقد حاول الملحدون الإجابة عن ثلاثة أسئلة مطروحة بشكل طبيعي منذ فجر التأريخ، وقد حاول الإنسان الإجابة عنها بشتى الطرق، وتأتي محاولة الملحدين في نفس السياق.

تحاول نظرية الإنفجار الكبير (Big-Bang) أن تجيب عن السؤال: كيف خلق الكون، أو كيف وجد؟ وهي تستنكر السؤال إن كان بالصيغة التالية: من خلق الكون، أو من أوجده؟ فهي لا تؤمن أصلا بقوة حكيمة وراء المادة مؤثرة في عالم المادة لكي توجده، فلا معنى أن نسأل عنها بـ "من".

وتحاول من خلال نظرية الخلية الأولى الإجابة عن السؤال: كيف ظهرت الحياة العضوية على الأرض؟

ومن خلال نظرية التطور - وهي تأتي على هرم النظريات، بل هي الأساس الأقوى الذي يرتكزون عليه - يحاولون أن يجيبوا عن السؤال: كيف ظهرت الكائنات الحية على الأرض مع كل التنوع الحاصل فيها؟

لي وقفة مع كل نظرية من هذه النظريات في وقت لاحق، ولكن أود أن أشير إلى أن نظرية التطور هي أكبر نظرية يرتكزون عليها، ولذا نراهم يدافعون عنها دفاعا مستميتا حتى لا يسقط أي جزء منها أو تسقط كلها، فبسقوطها يسقط إلحادهم.

وهم من خلال هذه النظريات الثلاث يحاولون أن يضعوا حجر الاساس لنفي وجود الله، أقول نفي وليس إنكار، فهم ينفون بصورة قاطعة وجود الله من خلال اعتمادهم على هذه النظريات الثلاث. وبالتالي فإنهم يجدون أنفسهم واقعون في الميتافيزيقية من حيث لا يشعرون!

عندما يحاول المنهج التجريبي، المرتكز على المادية والذي يعتمده الملحدون المعاصرون، عندما يحاول أن ينفي وجود الله، وهو يعترف بأنه موجود ميتافيزيقي أي ليس ماديا ولا خاضعا للمادة، فهم يدخلون بحثا فلسفيا على أساس منهج ميتافيزيقي، وهذا خلط واضح، فليس من حقهم انتهاج منهج ما، ثم بحث قضايا لا تبحث إلا بمنهج مغاير. عندما يحاولون أن ينفوا وجود الله من خلال اعتمادهم على التجربة والنظريات التجريبية فإنهم يضعون أنفسهم أمام تحدي، مضمونه أنهم لابد أن يجدوا دليلا على عدم وجود الله أو عدم وجود الخالق، وهذا ما يدعونه.

ليس كافيا مطالبتهم المؤمنين بالله بالدليل، فهم يجزمون أن الله غير موجود، والمؤمنون يجزمون أن الله موجود، وكلاهما مفتقر إلى دليل! فكما أن المؤمنين لابد أن يضعوا دليلا على وجود الله، فكذلك الملحدين لابد أن يضعوا دليلا على عدم وجود الله!

نعم إن اعترفوا بأنهم ليسوا ملحدين، بل لا أدريين (اللا أدري هو الشخص الذي يقول لا أعلم لا أعلم لا أعلم على كل شيء!!)، في حينها هم في موضع الشك لا اليقين، وهم بالتالي معفون من الإتيان بدليل، إذا أنهم لا ينفون وجود خالق، بل يشكون في وجوده، وبالتالي فإننا مطالبون بالإتيان بالدليل.

  • المنهج المادي والمادة!
إن من أوضح عيوب الملحدين، هو عدم تمكنهم من وضع أساس مقنع لمنهجهم، فهم يفشلون في تفسير أبسط الظواهر. فظاهرة التفكير مثلا، لا يجدون لها تفسيرا مقنعا، سوى أنهم يعتمدون على ما هو متوفر من أبحاث تثبت أن الفكير ظاهرة من ظواهر الدماغ (العضو الموجود في الرأس)، ولكن الغريب في الأمر هو أن الأبحاث لم تتقدم لتعطي دليلا كافيا أو جازما، بل لا تزال تفتقر إلى الكثير، ولكن الملحدين يتجاوزن ما هو قائم إلى ما سيكون، بمعنى أنهم يعتمدون على المستقبل، ويراهنون على مستقبل هذه الأبحاث، وحتى لو سلمنا أنها سوف تعطي تفسيرا مقنعا، تبقى مفتقرة لتفيسر الكيفية كما سيتضح من أن المادية حتى تعطي تفسيرا لابد أن تقرن ذلك بصيغة منطقية، ولكن التجربة نفسها تعطينا الدليل على عجز التجربة في الوقت الحالي! كيف؟ التجربة نفسها أثبتت لنا كثيرا في الماضي بأن الأبحاث المتعلقة ببعض الأمور الجزئية لا يكشف فيها أمر حتى يظهر أضعاف هذا الأمر من التساؤلات والمحاور العلمية.

عندما اكتشف أنشتاين الذرة في بداية هذا القرن، ظن العلماء أنهم وصلوا إلى مبلغ العلم، ولكن ما لبثوا حتى اكتشفت أجزاء أدق من الذرة، تتكون الذرة منها وهي الإلكترون والنيوترون والبروتون، وبعدها اكتشفوا الكوارك والبويزترون والإشعاعات المنبعثة من الذرة وما إلى ذلك، وهكذا حتى يومك هذا لم يكتشفوا العنصر الاساسي للمادة، وكل حين يظهر لنا جزء أدق من المكتشف!

هذا يعطينا نظرة على مدى 200 عام ماضية، أن التجربة لم تكن كافية مطلقا لكي نكوّن حكما على المادة نفسها، فكيف ستكون الآن دليلا جازما على عدم وجود خالق للكون؟

على كل حال، أعود لظاهرة التفكير، فنحن بجزم نستطيع أن نقول بأنها ليست عملية مادية أو لا تمت للمادة بصلة، والدماغ يلعب دور المنفعل في عملية التفكير وليس منشأ لها.

فالتفكير إما يكون ماديا، وإما يكون من ظواهر المادة، ومن المحال أن يكون ماديا حيث إننا نرى دماغا لا تفكيرا في الدراسة التشريحية، ومن المحال أيضا أن يكون من ظواهر المادة، حيث إن الحقيقة المادية الواحدة لا يمكن أن تعدد أو تتناقض ظواهرها!

فالأشرح قليلا معنى أن الحقيقة المادية لا يمكن أن تتعد أن تتناقض ظواهرها: إن العلوم التجريبية أقيمت على أساس أن الحقيقة المادية لا تتناقض ولا تتعدد ظواهرها، حيث إن التجربة عندما تكون فكرة عن مادة معينة مثلا الذهب، وتدرس خصائصه فهي تعلم جيدا بأن هذه الخصائص ثابتة، حتى لو أجرينا التجربة بعد 100 عام مثلا.

والتفكير فيه الكثير من التناقضات والاختلافات، فلا يمكن أن يكون نتاج الدماغ، لأن الدماغ حقيقة مادية واحدة ولا يمكن أن تتناقض ظواهر هذه الحقيقة، نعم بتدخل مؤثرات خارجية من الممكن ذلك، فمن الممكن أن تتعدد الظواهر لمادة معينة بتدخل عوامل خارجية مؤثرة عليها، مثلا الماء، نعلم أن أهم ظاهرة له هي السيولة، ويخضع بالتالي لخصائص السوائل بصورة عامة، ولكن بدخول عوامل مؤثرة خارجية مثل الحرارة فإنه يتحول إلى غاز، أو بخار، وبخفض الحرارة يتحول إلى جليد وهكذا باقي المواد.

  • النتيجة
باختصار شديد، إما أن يقبل الملحدون الدخول في بحث ميتافيزيقي وبالتالي ترك التجربة جانبا لنفي أو إثبات وجود الله، وإما أن لا تقبل ذلك ويكون ليس من حقها في حينه إعطاؤها رأيا في وجود أو عدم وجود خالق للكون!!

بكلمة أخرى وفي نقطتين:
  1. إما أن يترك الملحدون البحث في وجود الخالق، والاعتراف بعجز علمهم عن وضع أساس مقنع يعطي دليلا لذلك الموضوع، وبالتالي يقفون على الحياد ولا يتبجحون بإلحادهم.
  2. وإما أن يقبلوها ويدخلون البحث الميتافيزيقي، وهم لم يتمكنوا من بناء منطقهم الخاص لذلك الغرض حتى الآن فهم يقفون وقفة العاجز عن الحيلة.

تحياتي
ليث

هناك 3 تعليقات:

  1. طرح سلس وجميل

    لقد اخترت النقطة الأولى في النتيجة..ودون أن أتبجح بإلحادي..أو لادينيتي إن أردت الدقة
    :)

    التفكير والإدراك والوعي كلها نتاج للدماغ، ولستَ بحاجة لأثبت لك ذلك، أما (من الممكن) فهي رائعة ولكن لا مكان لها في العلم ولا الاستدلال المنطقي.

    وبالمناسبة..العلم لا يقول أنه لا يوجد خالق للكون..بل يقول لم يثبت علمياً أن هناك خالق للكون، والفرق واضح.

    وعلى أي حال..إن أي بحث ميتافيزيقي على حد تعبيرك هو منطلق خاطيء، لأنه لا يمكن أن يكون بحثاً بالمعنى العلمي للكلمة

    تحياتي لك

    ردحذف
  2. أشكرك على مدحك لطريقة الطرح.

    أنت لا تستطيع أن تثبت أن الدماغ هو المصدر للتفكير، فكما أوضحت آنفا في المقال، بأن الدماغ حقيقة مادية واحدة، وهو من غير الممكن أن تتعدد ظواهره، هذا من جهة، ومن جهة أخرى ليس الدماغ مكانا لتكون الفكرة، لأن الفكرة لا تعدو كونها إما مادية وإما من ظواهر المادة.

    ونقطة مهمة جدا تتعلق بتكون الفكرة في الدماغ: هي أن المفهوم الكلي لا يمكن أن يكون ماديا، لأن المفهوم الكلي لا تستوعبه المادة، وليس له شاهد في المادة، مثل مفهوم الإنسان، أو الحيوان، فهذه المفاهيم الكلية لا يمكن أن تشتمل عليها المادة، نعم نحن نجد مصاديقها في المادة وليس نفس المفاهيم، فكيف إذن يصبح ظاهرة من ظواهر الدماغ؟

    وأما محاولة تهربك من إثبات ذلك، فلن تنفعك، فكل ادعاء بأمر ما يحتوي على جزم هو في حد ذاته مفتقر إلى دليل، فأنت لابد أن تأتي بإثبات على أن الدماغ هو المولد للفكرة وهو مصدرها الذاتي. وأنت أمام خيارين لا ثالث لهما، إما بحث فيزيائي أو بايولوجي، وإما بحث فلسفي، والأول والثاني يعجزان حتى اللحظة على تقديم دليل كافي لتوليد اليقين، فأنت أمام الخيار الثالث لا محالة.

    أما عن مسألة الإمكان، فأنا أفترض بأنك غفلت فاعتبرتها لا مكان لها في العلم ولا الاستدلال المنطقي. لأن الإمكان هو أساس البحث العلمي التجريبي، فالتجربة قائمة على منطق الاحتمالات وهو منطق قائم على الإمكان! فالتجربة التي يقرها العلم إما ممكنة الحدوث أو غير ممكنة الحدوث، والتجربة الممكنة لابد من تقرير شروطها لتحدث، وهذا يسري على جميع مجالات العلم التجريبي. فكيف اعتبرت أن لا مكان لها في البحث العلمي أو المنطقي؟

    تعريف الإمكان: هو تساوي احتمال حدوث الشيء مع عدم حدوثه، أي أن الشيء الممكن هو ما لا مرجح لحدوثه.

    والفقرة ما قبل الأخيرة هي الإقرار الذي أريده من كل ملحد، وهي هدف طرحي للبحث من الأساس، فأنت تقول بأن العلم يقول لا يمكن إثبات وجود الله علميا، ولكني قد آتيك بدليل علمي مشترك مع جميع العلوم الطبيعية، ويعتمد على نفس المنطق العلمي الذي تسجله العلوم وتعتمده أساسا لها، ويمكنك مراجعة قسم المذهب الذاتي في نظرية المعرفة لتتطلع على ملخص البحث، وسوف أقوم بنشر دراسة شاملة ونقدية عما قريب بإذن الله تعالى.

    أما بالنسبة للبحث الميتافيزيقي القائم على المنطق العقلي، فمن الخطأ جدا أن تنعته بالخاطي حتى تقوم بدراسة تقييمية شاملة له، فالبحث العقلي والبرهان القائم عليه لا ينطوي على ثغرات منطقية كما ينطوي البحث التجريبي عليها، وليس بإمكانك علاج الثغرات إلا بالخضوع للمذهب الذاتي في المعرفة وهو ما يجعلك أمام كابوس الاعتراف بالخالق، وهكذا فأنت مجبر على أحد أمرين: إما دخول البحث الميتافيزيقي إما نفيا وإما إثباتا، ولكن دخولك سيكون ضعيفا لعدم قيامه على منطق سليم. وإما تقبلك للعلم التجريبي تحت طائلة المذهب الذاتي في المعرفة وتجد نفسك أمام برهان علمي على إثبات الخالق ينسجم مع الأساس المنطقي للعلوم التجريبية.

    تحياتي

    ردحذف
  3. تعليق أخير على هذا الكلام:

    "وبالمناسبة..العلم لا يقول أنه لا يوجد خالق للكون..بل يقول لم يثبت علمياً أن هناك خالق للكون، والفرق واضح."

    أنا أقول غريب هذا الكلام جدا، فالجهل بوجود الخالق أو العجز عن الإتيان بدليل عليه لا يعني أنه غير موجود، فالسؤال المهم هو: كيف أصبحت ملحدا؟ ما هو الأمر الذي كون قناعتك بأن الله غير موجود؟

    هل هو العلم؟ إذن فأنت تناقض كلامك أعلاه، فما هو الشيء الذي جعل فكرة الإلحاد تتكون عندك؟

    هل هو الجهل؟ إذن فهنيئا لك بجهلك!!

    ردحذف