التطور في الفكر - إشكالات وحلول

بسم الله الرحمن الرحيم

محاولات المادية للاستدلال على ديالكتيك الفكر


(1) المحاولة الاُولى: أنّ الفكر أو الإدراك انعكاس للواقع الموضوعي، ولأجل أن يكون مطابقاً له يجب أن يعكس قوانينه وتطوّره وحركته. فالطبيعة تتطوّر وتتغيّر باستمرار طبقاً لقانون الحركة، ولا يمكن للحقيقة أن تصوِّرها في الذهن البشري إذا كانت مجمّدة ساكنة، وإنّما توجد الحقيقة في أفكارنا إذا اُخذت هذه الأفكار على اعتبار أنها تنمو وتتطوّر ديالكتيكياً؛ لتكون مفاهيمنا عن الأشياء مواكبة للأشياء ذاتها، فهذه المحاولة تهدف إلى جعل الذهن ديناميكيا بالتزامن مع ديناميكية الواقع الموضوعي.

ويحسن أن نلاحظ في هذا المجال النصوص الآتية:

"إنّ الواقع ينمو، والمعرفة التي تنشأ من هذا الواقع تعكسه وتنمو مثله، وتصبح عنصراً فعّالا من عناصر نموّه. إنّ الفكر لا يُحدِث موضوعه، وإنّما الفكر يعكس الواقع الموضوعي ويطوِّره باكتشاف قوانين نموّه" عن كتاب ما هي المادية لروجيه كارودي.

"إنّ الفرق بين المنطق الشكلي -يقصد به المنطق الأرسطي- والمنطق الديالكتي، ينحصر في واقع: أنهما يواجهان بصورة مختلفة المسألة الأساسية للمنطق، وهي: مسألة (الحقيقة). فمن وجهة نظر المنطق الديالكتي ليست (الحقيقة) شيئاً معطى مرّة واحدة لا غير، ليست شيئاً مكتملا محدّداً مجمّداً ساكناً، بل الأمر خلاف ذلك. فـ (الحقيقة) هي: عملية نموّ معرفة الإنسان للعالم الموضوعي" عن كتاب المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي لكيدروف.

"يتناول المنطق الديالكتي الماركسي الشيء الذي يدرسه من وجهة نظر تأريخية، من حيث هو عملية نموّ تطوّرية، إنّه يطابق التأريخ العامّ للمعرفة، يطابق تأريخ العلوم" عن كتاب المنطق الشكلي والمنطق الديالكتيكي لكيدروف.

ولا ريب أنّ الفكر والإدراك يصوّر الواقع الموضوعي لوناً من ألوان التصوير، ولكن هذا لا يعني أن تنعكس فيه حركة الواقع الموضوعي، فينمو ويتحرّك تبعاً له، فهو يصور الواقع الموضوعي ولكن ذلك لا يلازم أن الفكر يعكس حركة الواقع الموضوعي؛ وذلك:

أوّلا: أنّ عالم الطبيعة -عالم التغيّر، والتجدّد، والحركة- يحتوي حتماً على قوانين عامّة ثابتة. وهذا ما لا يمكن لأيّ منطق إنكاره، إلاّ إذا أنكر نفسه؛ لأنّ المنطق لا يمكن أن يكون منطقاً إلاّ إذا أقام طريقته في التفكير، وفهم العالم على قوانين معيّنة ثابتة، وحتّى الديالكتيك يعتبر عدّة قوانين تسيطر على الطبيعة وتتحكّم فيها بصورة دائمة، ومنها قانون الحركة. فعالم الطبيعة إذن سواءٌ صحّ عليه المنطق البشري العامّ، أم منطق الديالكتيك والجدل، توجد فيه قوانين ثابتة تعكس حقائق ثابتة في دنيا الفكر وحقل المعرفة البشرية. فنحن نقول: بأنه بالرغم من أن عالم الطبيعة هو عالم التبدل والتغير إلا أنه هناك قوانين عامة ثابتة.

والديالكتيكيون إزاء هذا الاعتراض بين أمرين: إمّا أن يعتبروا قانون الحركة ثابتاً ودائماً، فقد وجدت الحقيقة الدائمة الثابتة إذن. وإمّا أن يكون نفس هذا القانون متغيّراً، فمعنى هذا: أنّ الحركة ليست دائمة، وأنها قد تتبدّل إلى ثبات، وتعود الحقائق ثابتة بعد أن كانت متحرّكة. وعلى كلا الحالين يكون الديالكتيك مرغماً على الاعتراف بوجود حقيقة ثابتة.

ثانياً: أنّ الفكر أو الإدراك أو الحقيقة لا تعكس الخصائص الواقعية للطبيعة، فقد سبق أن أوضحنا أنّ الذهن البشري يدرِك الأشياء الموضوعية مفاهيمها وماهياتها، والمفهوم الذي ينعكس فيه عن تلك الأشياء يختلف عن الواقع الخارجي في الوجود والخصائص، فهناك اختلاف نوعي بين الوجودين الذهني والواقعي الموضوعي، ولكن هناك أيضا اتحاد مفهومي وماهوي بينهما، فنحن ندرك الواقع الموضوعي من خلال ماهيات ذلك الواقع، وليتضح معنى ذلك نأتي بأمثلة:

العالِم يمكنه أن يكوّن فكرة علمية دقيقة عن الميكروب وتركيبه، ونشاطه الخاصّ وتفاعلاته مع جسم الإنسان، ولكنّ الفكرة مهما كانت دقيقة ومفصّلة، لا توجد فيها خواصّ الميكروب الخارجي، ولا يمكنها أن تؤدّي نفس الدور الذي يؤدّيه واقعها الموضوعي. والفيزيائي قد يكتسب مفهوماً علمياً دقيقاً عن ذرّة الراديوم، ويحدّد وزنها الذرّي، وعدد ما تحويه من شحنات سالبة وموجبة، وكمّية الإشعاع الذي ينبعث عنها، ونسبته العلمية الدقيقة إلى الإشعاع الذي ترسله ذرّات اليورانيوم، إلى غير ذلك من المعلومات والتفاصيل... غير أنّ هذا المفهوم مهما تعمّقنا فيه، أو تعمّق في الكشف عن أسرار عنصر الراديوم، لن يكتسب خواصّ الواقع الموضوعي، أي: خواصّ الراديوم، ولن يشعَّ الإشعاع الذي تولده ذرّات هذا العنصر، وبالتالي لن يتطوّر مفهومنا عن الذرّة إلى إشعاع، كما تتطوّر بعض الذرّات في المجال الخارجي.

وهكذا يتّضح: أنّ قوانين الواقع الموضوعي وخواصّه، لا توجد في الفكرة ذاتها، فالوجود الخارجي للشيء لا يكون بنفس النحو في الذهن. ومن تلك القوانين والخواصّ: الحركة، فهي وإن كانت من الخواصّ العامّة للمادّة، ومن قوانينها الثابتة، ولكنّ الحقيقة في ذهننا، أو الفكرة التي تعكس الطبيعة، لا توجد فيها تلك الخاصّية، فلا يجب في الفكرة الصحيحة أن تعكس الواقع الموضوعي بخصائصه وألوان نشاطه المختلفة، وإلاّ لم نكن نملك فكرة حقيقية في جميع أفكارنا، والفكرة الثابتة عن الحقيقة المتحركة خير دليل على أن قانون الديالكتيك لا يسري على الفكر، ففكرتنا عن الأرض المتحركة ثابتة في حد ذاتها، وفكرتنا عن الراديوم الذي ينبعث منه الإشعاع أيضا ثابتة في حد ذاتها، وغيرها.

فالإلهية، مع إيمانها بأنّ الطبيعة هي عالم الحركة والتطوّر الدائم، تختلف عن الديالكتيك، وترفض عموم قانون الحركة للمفاهيم الذهنية؛ لأنّها لا يمكن أن تتوفّر فيها جميع خصائص الواقع الموضوعي. وليس معنى هذا: أنّ الإلهيين إذا كوّنوا مفهوماً عن الطبيعة في مرحلة من مراحلها جمّدوا أفكارهم، وأوقفوا بحوثهم، واعتبروا ذلك المفهوم كافياً لاستكناه أسرار الطبيعة في شتّى مراحلها، فإنّا لا نعرف عاقلا يكتفي مثلا بالمفهوم العلمي الذي يكوّنه عن البويضة، فلا يتابع سير الكائن الحيّ في المرحلة التالية، ويكتفي بما كوّنه من المفهوم العلمي عنه في تلك المرحلة المعيّنة!

فنحن إذن نؤمن بتطوّر الطبيعة، ونرى من الضروري دراستها في كلّ دور من أدوار نموّها وحركتها، وتكوين مفهوم عنه، وليس هذا من مختصّات الديالكتيك. وإنّما الذي يرفضه الفكر الإلهي هو: وجود حركة ديناميكية طبيعية في كلّ مفهوم ذهني. فالإلهية تطالب بالتمييز بين البويضة، ومفهومنا العلمي عنها: فالبويضة تتطوّر وينمو طبيعياً، فتغدو نطفة ثمّ جنيناً. وأمّا مفهومنا الذهني عنها، فهو مفهوم ثابت لا يمكن أن ينمو ويصير نطفة في حال من الأحوال، وإنّما يجب لأجل معرفة (ما هي النطفة؟) أن نكوّن مفهوماً آخر على ضوء مراقبة البويضة في مرحلة جديدة، ولأجل معرفة الجنين، لابد من مراقبة تلك الحقيقة التي تتطور طبيعيا لتكوين مفهوم جديد عن الجنين في مراحله المختلفة، وليس هذا حركة في الفكر، بل هو تكوين تدريجي لمفاهيم مختلفة.

فمثل التفكير في ذلك كمثل الشريط السينمائي القديم الذي يلتقط عدداً من الصور المتلاحقة، فليست الصورة الاُولى في الشريط هي التي تتطوّر وتتحرّك كما الواقع الخارجي، وإنّما التتابع بين الصور هو الذي يشكّل الشريط السينمائي، وكذلك تسجيل الفديو الآن يعتمد على تسجيل عدد من اللقطات المتلاحقة وبدمجها معا تتكون عندنا صورة متحركة، وهي ما يعرف بالـ frames، أو الإطارات.

وعلى هذا فالإدراك البشري لا يعكس الواقع، إلاّ كما يعكس الشريط ألوان الحركة والنشاط التي يحفل بها الفيلم السينمائي. فالإدراك لا يتطوّر ولا ينمو ديالكتيكياً تبعاً للواقع المنعكس، وإنّما يجب تكوين إدراك ثابت في كلّ مرحلة من مراحل الواقع.

ولنأخذ مثالا آخر من عنصر (اليورانيوم) الذي يشعّ بأشعّة (ألفا) و(بيتا) و(جاما)، ويتحوّل بالتدريج إلى عنصر آخر أخفّ منه في وزنه الذرّي، وهو: عنصر (الراديوم) الذي يتحوّل بدوره وبالتدريج إلى عنصر أخفّ منه، ويمرّ في أدوار حتّى ينتهي إلى (الرصاص).

القضية العلمية وطريقة تفسيرها:
فهذا واقع موضوعي يشرحه العلم، ونكوّن على ضوئه مفهومنا الخاصّ عنه، فماذا تعني المادية بتطوّر المفهوم الذهني أو (الحقيقة) ديالكتيكياً طبقاً لتطوّر الواقع؟

(1) فإن كانت تعني بذلك: أنّ نفس مفهومنا العلمي عن (اليورانيوم) يتطوّر تطوّراً ديالكتيكياً وطبيعياً تبعاً لتطوّر اليورانيوم نفسه، فيشعّ أشعّته الخاصّة، ويتحوّل في نهاية المطاف إلى رصاص، فهذا أقرب إلى حديث الظرف والفكاهة منه إلى الحديث الفلسفي المعقول.

(2) وإن أرادت المادية: أنّ الإنسان يجب أن لا ينظر إلى اليورانيوم كعنصر جامد لا يتحرّك، بل يتابع سيره وحركته، ويكوّن مفهوماً عنه في كلّ مرحلة من مراحله، فليس في ذلك موضع للنقاش، ولا يعني حركة ديالكتيكية في الحقائق والمفاهيم؛ فإنّ كلّ مفهوم نكوّنه عن مرحلة معيّنة من مراحل تطوّر اليورانيوم، ثابت ولا يتطوّر ديالكتيكياً إلى مفهوم آخر، وإنّما يضاف إليه مفهوم جديد. وفي نهاية المطاف نملك عدّة من المفاهيم والحقائق الثابتة، يصوّر كلّ منها درجة خاصّة من الواقع الموضوعي، فأين الجدل والديالكتيك في الفكر؟! وأين ذلك المفهوم الذي يتطوّر طبيعياً تبعاً لتطوّر الواقع الخارجي؟!

(2) المحاولة الثانية: التي اتّخذتها المادية للتدليل على ديالكتيك الفكر وتطوّره هي: أنّ الفكر أو الإدراك ظاهرة من ظواهر الطبيعة، ونتاج عالم للمادّة (سوف نفرد المقال التالي لطرح جملة من الإشكالات الأعمق بخصوص هذه النقطة باعتبار أنها من المشاكل المعاصرة التي يطرحها الملحدون في تفسيرهم لتطور الذهن وتكون الفكر من خلال نظرية التطور الدارونية)، وبالتالي جزء من الطبيعة، فتحكمه نفس القوانين التي تسيطر على الطبيعة، ويتحرّك وينمو ديالكتيكياً، كما تتحرّك وتنمو جميع ظواهر الطبيعة.

الفرق بين المحاولة الثانية والمحاولة الأولى
ويلزمنا أن ننبّه على أنّ هذا الدليل يختلف عن الدليل السابق: ففي المحاولة السابقة كانت المادية تبرهن على وجود الحركة في الفكر عن طريق كونه انعكاساً للواقع المتحرّك، والانعكاس لا يحصل بصورة تامّة إذا لم ينعكس الواقع المتحرّك في الفكر على حركته ونموّه. وأمّا في هذه المحاولة فتستدلّ الماركسية على الحركة الديالكتيكية في الفكر؛ باعتباره جزءاً من الطبيعة (أي أنه ظاهرة من ظواهره المادة)، فقوانين الديالكتيك تجري على المادّة والإدراك معاً، وتشمل الواقع والفكر على السواء؛ لأنّ كلا منهما جانب من الطبيعة.

فالفكرة أو الحقيقة متطوّرة ونامية، لا لأنّها تعكس واقعاً متطوّراً ونامياً فحسب، بل لأنّها هي بذاتها جزء من العالم المتطوّر طبقاً لقوانين الديالكتيك. فالديالكتيك كما ينصّ على وجود الحركة الديناميكية القائمة على أساس التناقض الداخلي في محتوى كلّ ظاهرة موضوعية من ظواهر الطبيعة، كذلك ينصّ عليها في ظواهر الفكر والإدراك جميعاً.

ولنقرأ فيما يتّصل بالموضوع هذا النصّ:

"إنّ الكون هو حركة للمادّة، تخضع لقوانين. ولمّا لم تكن معرفتنا إلاّ نتاجاً أعلى للطبيعة، لا يسعها إلاّ أن تعكس هذه القوانين" عن كتاب ماهي المادية لروجيه غارودي.
"إذا تساءلنا: ما هو الفكر؟ وما هو الوعي؟ ومن أين يأتيان؟ وجدنا أنّ الإنسان هو نفسه نتاج للطبيعة، نما في بيئة ومع نموّ هذه البيئة. وعندئذ يصبح في غنىً عن البيان، كيف إنّ منتوجات الذهن البشري التي هي ـ أيضاً ـ عند آخر تحليل منتوجات للطبيعة ليست في تناقض ، وإنّما في توافق مع سائر الطبيعة المترابطة ؟" عن كتاب ماهي المادية لروجيه غارودي.

والنقطة الأساسية التي يرتكز عليها هذا الاستدلال، هي: الأخذ بالتفسير المادّي البحت للإدراك الذي يفرض اشتراكه مع الطبيعة في جميع قوانينها ونواميسها بما فيها قانون الحركة. وسوف نقوم بتحليل تلك النقطة الأساسية في جزء مستقلّ من هذه المسألة. ولكنّا نحاول أن نتساءل هنا من الماديين: هل التفسير المادّي للفكر أو الإدراك يختصّ بأفكار الديالكتيكيين خاصّة؟ أو يعمّ أفكار غيرهم ممّن لا يؤمن بالديالكتيك أيضاً؟ فإن كان يعمّ الأفكار كافة -كما تحتّمه الفلسفة المادّية- وجب أن تخضع جميعاً لقوانين التطوّر العام في المادّة. ويبدو لأجل ذلك من التناقض الطريف أن تتّهم الماركسية الأفكار الاُخرى بالجمود والقرار، وتعتبر فكرها وحده هو الفكر المتطوّر النامي؛ باعتباره جزءاً من الطبيعة المتطوّرة!! مع أنّ الأفكار البشرية جميعاً في المفهوم المادّي ليست إلاّ نتاجاً طبيعياً.

وقصارى ما في الموضوع: أنّ أصحاب المنطق العامّ أو الشكلي -كما يزعمون- لا يؤمنون بتطوّر الأفكار ديالكتيكياً، كما يؤمن التفسير المادي. ولكن متى كان الإيمان بقانون من قوانين الطبيعة شرطاً من شرائط وجوده؟! أليس جسم (باستور) المكتشف للميكروب، وجسم (ابن سينا) الذي لم يكن يعرف عنه شيئاً، يشتركان معاً في التفاعل مع تلك الجراثيم طبقاً لقوانينها الطبيعية الخاصّة؟! وهكذا الشأن في كلّ قانون طبيعي. فإذا كان الديالكتيك قانوناً طبيعياً يعمّ الفكر والمادّة معاً، فهو يسري على الأفكار البشرية على السواء، وإن كان في اكتشافه شيء، فهو الإسراع بحركة التطوّر فحسب.

(3) المحاولة الثالثة: استغلال التطوّر والتكامل العلمي في شتّى الميادين، واعتباره دليلا تجريبياً على ديالكتيكية الفكر وتطوّره. فتأريخ العلوم -في الزعم المادي- هو بنفسه تأريخ الحركة الديالكتيكية في التفكير البشري المتكامل على مرّ الزمن، ولهذا يتحججون بهذه النقطة على أن الإنسان في زمن ما كان يحتاج إلى الدين، ولكن فكره قد تطور بحيث إنه يستطيع الآن التخلي عن مثل تلك القيم والمثل والأفكار التي يمثلها الدين.

قال كيدروف:
"والحقيقة المطلقة الناتجة من حقائق نسبية، هي حركة تطوّر تأريخية، هي حركة المعرفة. ولهذا السبب بالضبط يتناول المنطق الديالكتي الماركسي الشيء الذي يدرسه من وجهة نظر تأريخية، من حيث هو عملية نموّ تطوّرية. إنّه يطابق التأريخ العامّ للمعرفة، يطابق تأريخ العلوم. ولينين إذ يبيّن في الوقت نفسه -باستخدامه مثل العلوم الطبيعية والاقتصاد السياسي والتأريخ- أنّ الديالكتيك يستمدّ استنتاجاته العامّة من تأريخ الفكر، يؤكّد أنّ على تأريخ الفكر في المنطق أن يطابق جزئياً وكلّياً قوانين الفكر".

أمّا أنّ تأريخ المعارف والعلوم الإنسانية زاخر بتقدّم العلم وتكامله في شتّى الميادين ومختلف أبواب الحياة والتجربة، فهذا ما لا يختلف فيه اثنان، ونظرة واحدة نلقيها على العلم في يومه وأمسه، تجعلنا نؤمن كلّ الإيمان بمدى التطوّر السريع والتكامل الرائع الذي حصل عليه في أشواطه الأخيرة. ولكن هذا التطوّر العلمي ليس من ألوان الحركة بمفهومها الفلسفي الذي تحاوله الماركسية، بل لا يعدو أن يكون تقلّصاً كمّياً في الأخطاء، وزيادة كمّية في الحقائق. فالعلم يتطوّر لا بمعنى أنّ الحقيقة العلمية تنمو وتتكامل، بل بمعنى: أنّ حقائقه تزيد وتتكاثر، وأخطاءه تقلّ وتتناقص تبعاً لتوسّع النطاق التجريبي، والتعمّق في التجربة وتدقيق وسائلها.

ومن الضروري لإيضاح ذلك أن نعطي فكرة عن سير التطوّر العلمي، واُسلوب التدرّج والتكامل في النظريات والحقائق العلمية؛ لنتبيّن مدى الفرق بين ديالكتيك الفكر المزعوم من ناحية، والتطوّر التأريخي للعلوم البشرية من ناحية اُخرى.

إنّ الحقيقة العلمية تبدأ باُسلوب نظري، كافتراض بحت، يخطر على ذهن العالم الطبيعي بسبب عدّة من المعلومات السابقة، والمشاهدات العلمية أو البسيطة. فالفرضية هي المرحلة الاُولى التي تمرّ بها النظرية العلمية في سيرها التطوّري، ثمّ يشرع العالم في بحث علمي، ودراسة تجريبية لتلك الفرضية، فيقوم بمختلف ألوان الفحص عن طريق المشاهدات العلمية الدقيقة والتجارب المتنوّعة في الحقل الذي يخصّ الفرضية، فإذا جاءت نتائج المشاهدات أو التجربة مؤيِّدة للفرضية، ومنسجمة مع طبيعتها وطبيعة آثارها، اكتسبت الفرضية طابعاً جديداً، وهو طابع القانون العلمي، وتدخل النظرية بذلك المرحلة الثانية من سيرها العلمي.

ولكن هذا التطوّر الذي ينقل النظرية من درجة الفرضية إلى درجة القانون، ليس معناه: أنّ الحقيقة العلمية أخذت بالنموّ والحركة، وإنّما معناه: أنّ فكرة معيّنة كان مشكوكاً فيها، فبلغت درجة الوثوق أو اليقين العلمي. فنظرية (باستور) عن الكائنات الحيّة الميكروبية التي وضعها على أساس حدسي، ثمّ أيّدتها المشاهدات الدقيقة بالوسائل العلمية الحديثة، ونظرية الجاذبية العامّة التي أثار افتراضها في ذهن (نيوتن) مشهد بسيط، مشهد سقوط تفّاحة على الأرض، جعله يتساءل: لماذا لا تكون القوّة التي جعلت التفّاجة تسقط على الأرض، هي بعينها التي تحفظ للقمر توازنه، وترسم له حركته؟ ثمّ أيّدت التجارب أو المشاهدات العلمية بعد ذلك تعميم الجاذبية للأجرام السماوية، واعتبارها قانوناً عاماً قائماً على نسبة معيّنة بعد إثباتها رياضا. أقول: إنّ هذه النظريات وآلاف النظريات الاُخرى التي مرّت كلّها بالمرحلة التي أشرنا إليها من التطوّر، باجتيازها درجة الفرضية إلى درجة القانون، لا تعبّر في اجتيازها وتطوّرها هذا عن نموّ في نفس الحقيقة، بل عن الاختلاف في درجة التصديق العلمي بها. فالفكرة هي الفكرة، غير أنها نجحت في الامتحان العلمي، وانكشف لذلك أنها حقيقة، بعد أن كان مشكوكاً فيها. بمعنى أن الفكرة المنتزعة من الواقع الموضوعي أو الفكرة المفترضة في الذهن البشري درجة انطباقها على الواقع زادت بزيادة درجة انطباق المعلومات الصغيرة مجتمعة للواقع.

ثمّ إنّ هذه النظرية بعد أن تحتلّ موضعها من القوانين العلمية، تأخذ مجالها في التطبيق، وتكسب صفتها كمرجع علمي لتفسير ظواهر الطبيعة التي تبدو لدى المشاهدة أو التجربة، واستكشاف حقائق وأسرار جديدة. ومهما استطاعت أن تستكشف مزيداً من الحقائق المجهولة، ثمّ تؤكّد التجربة بعد ذلك صحّة استكشافها، ازدادت رسوخاً ووضوحاً في الذهنية العلمية. ولذلك عُدّ من الانتصارات الكبرى لقانون الجاذبية العامّة، أن استكشف العلماء كوكب (نبتون) على ضوء قانون الجاذبية ومعادلاته الرياضية، ثمّ أيّدت وجوده المشاهدات العلمية بعدئذ. وهذا أيضاً ليس إلاّ لوناً من ألوان شدّة الوثوق العلمي بصحّة النظرية وصوابها.

ثمّ إن حالف التوفيق النظرية في المجال العلمي على طول الخطّ، ثبتت نهائياً. وأمّا إذا بدأت تضيق عن الانطباق على الواقع المدروس علمياً، بعد تدقيق الأجهزة والوسائل، وتعميق الملاحظة والفحص، فتبدأ النظرية عند ذاك مرحلة التعديل والتجديد، وفي هذه المرحلة قد تضطرّ المشاهدات والتجارب الجديدة إلى تكميل النظرية العلمية السابقة بمفاهيم جديدة، تضاف إلى النظرية السابقة؛ ليتمّ بذلك تفسير موحّد للواقع التجريبي كلّه. وقد تكشف الدلائل العلمية عن خطأ النظرية السابقة، فتنهار ويعوّض عنها بنظرية اُخرى على ضوء التجارب والمشاهدات.

وفي كلّ ذلك لا يمكن أن نفهم التطوّر العلمي فهماً ديالكتيكياً، أو أن نتصوّر الحقيقة كما يفترضها الجدل، تنمو وتتحرّك بموجب التناقضات المحتواة في داخلها، فتتّخذ في كلّ دور شكلا جديداً، وهي في تلك الأشكال جميعاً حقيقة علمية متكاملة؛ فإنّ هذا بعيد كلّ البعد عن الواقع العلمي للتفكير البشري. بل الشيء الذي يحدث في مجال التعديل العلمي، هو الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة، أو انكشاف خطأ النظرية السابقة، وصحّة فكرة اُخرى لتفسير الواقع.

(1) فمن قبيل الأوّل (الظفر بحقائق جديدة تضاف إلى الحقيقة العلمية الثابتة) ما وقع للنظرية الذرّية (نظرية أتميسم)، فإنّها كانت فرضية، ثمّ صارت قانوناً علمياً بموجب التجارب، وبعد ذلك استطاعت الفيزياء أن تتوصّل -على ضوء التجارب- إلى أنّ الذرّة ليست هي الوحدة الأوّلية في المادّة، بل هي تتألف أيضاً من أجزاء. وهكذا كملت النظرية الذرّية بمفهوم علمي جديد عن النواة والشحنات التي تتركّب منها الذرّة، فلم تنمُ الحقيقة، وإنّما زادت الحقائق العلمية، والزيادة الكمّية غير النموّ الديالكتيكي والحركة الفلسفية في الحقيقة.

(2) ومن قبيل الثاني (انكشاف خطأ النظرية السابقة وصحّة فكرة اُخرى) ما حصل في قانون الجاذبية العامّة، أي: التفسير الميكانيكي الخاصّ للعالم في نظريات (نيوتن)، فإنّ هذا التفسير قد لوحظ عدم اتّفاقه مع عدّة من الظواهر الكهربائية والمغناطيسية، وعدم صلاحيّته لتفسير كيفية صدور الضوء وانتشاره مثلا، إلى غير ذلك ممّـا قام دليلا عند جملة من الفيزيائيين المتأخرين على خطأ المفهوم (النيوتني) للعالم. وعلى هذا الأساس وضع (آينشتين) نظريته النسبية التي صبّها في تفسير رياضي للعالم، يختلف كلّ الاختلاف عن تفسير (نيوتن)، فهل يمكننا أن نقول: إنّ نظرية (نيوتن) ونظرية (آينشتين) في تفسير العالم، نظريتان حقيقيتان معاً، وإنّ الحقيقة تطوّرت ونمت، فأصبحت في قالب النظرية النسبية، بعد أن كانت في قالب الجاذبية العامّة؟! وهل الزمان والمكان والثقل، هذا الثالوث الثابت المطلق في تفسير (نيوتن)، هو الحقيقة العلمية التي نمت وتحرّكت طبقاً لقانون التطوّر الديالكتي، فتبدّلت إلى نسبية في الزمان والمكان والثقل؟! أو هل قوّة الجاذبية في نظرية (نيوتن) تطوّرت إلى انحناء في الفضاء، فأصبحت القوّة الميكانيكية بالحركة خاصّة هندسية للعالم، تفسّر بها حركة الأرض حول الشمس، وسائر الحركات الاُخرى، كما يفسّر بها انحراف الأشعّة الضوئية؟!

إنّ الشيء الوحيد المعقول هو: أنّ دقّة التجارب أو تضافرها أدّى إلى ظهور خطأ النظرية السابقة، وعدم تمثّل الحقيقة فيها، والتدليل على تمثّل الحقيقة في تفسير آخر جديد.

وهكذا يتّضح في النهاية ما أكّدنا عليه مرارا: من أنّ التطوّر العلمي لا يعني أنّ الحقيقة تنمو وتتدرّج، وإنّما معناه تكامل العلم ككل، أي: باعتباره مجموعة نظريات وقوانين، ومعنى تكامله كذلك زيادة حقائقه وقلّة أخطائه كمياً، أو مطابقة المفاهيم العلمية للواقع أكثر.

أهداف المادية
وأخيراً نريد أن نعرف ماذا تستهدف المادية من تطوّر الحقيقة، إنّ المادية ترمي من وراء القول بتطوّر الحقيقة، وتطبيق الديالكتيك عليها إلى أمرين:

(1) أوّلا: نفي الحقيقة المطلقة؛ لأنّ الحقيقة إذا كانت في حركة ونموّ دائمين، فلا توجد حقائق ثابتة بأشكال مطلقة، وبالتالي تتهدّم الحقائق الثابتة التي تدين بها الإلهية.

(2) ثانياً: نفي الخطأ المطلق في سير التطوّر العلمي. فالتطوّر العلمي في عرف الديالكتيك لا يعني أنّ النظرية السابقة خطأ بصورة مطلقة، بل هي حقيقة نسبية، أي: أنها حقيقة في مرحلة خاصّة من التطوّر والنموّ. وبهذا وضعت المادية ضمانات الحقيقة في مختلف أدوار التكامل العلمي.

وينهار كلا هذين الأمرين على ضوء التفسير الصحيح المعقول للتطوّر العلمي بالمعنى الذي بيناه. فهو بموجب هذا التفسير ليس نموّاً لحقيقة معيّنة، بل انكشافات جديدة لحقائق لم تكن معلومة، وتصحيحات لأخطاء سابقة، وكلّ خطأ يصحّح هو خطأ مطلق، وكلّ حقيقة تستكشف هي حقيقة مطلقة.

أضف إلى ذلك: أنّ المادية وقعت في خلط أساسي بين الحقيقة بمعنى الفكرة، والحقيقة بمعنى الواقع الموضوعي المستقلّ. فالميتافيزيقا تعتقد بوجود حقيقة مطلقة بالمعنى الثاني، فهي تؤمن بواقع موضوعي ثابت وراء حدود الطبيعة، ولا يتنافى هذا مع عدم ثبات الحقيقة بالمعنى الأوّل وتطوّرها المستمرّ، فهب أنّ الحقيقة في ذهن الإنسان متطوّرة ومتحرّكة أبداً ودائماً، فأيّ ضرر يلحق من ذلك بالواقع الإلهي المطلق الذي تعتقد به الإلهية، ما دمنا نقبل إمكان وجود واقع موضوعي مستقلّ عن الشعور والإدراك؟! وإنّما يتمّ للمادية ما تريد إذا أخذنا بالفلسفة المثالية التي تعتقد بعدم وجود واقع إلا في الذهن، وقلنا: إنّ الواقع هو الحقيقة الموجودة في ذهننا فحسب، فإذا كانت الحقيقة في فكرنا متطوّرة ومتغيّرة، فلا متّسع للإيمان بواقع مطلق، وأمّا إذا فرّقنا بين الفكرة والواقع، وآمنّا بإمكان وجود واقع بصورة مستقلّة عن الوعي والتفكير، فلا ضير في أن يوجد واقع مطلق خارج حدود الإدراك وإن لم توجد حقيقة مطلقة في أفكارنا.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق