مبدأ عدم التناقض والفهم المادي له

بسم الله الرحمن الرحيم

تكلمنا في المقال السابق عن الحركة والتطور في الفكر ومحاولة تفسيرها بالتناقضات أو الجدل، وبيّنا بطلان تلك المحاولات جميعا، سوف نتحدث الآن عن الخط الثاني من خطوط الجدل، حول مبدأ عدم التناقض و تناقضات التطوّر.

لقد حاول الفكر المادي على مر التطور الفكري إيجاد صيغة فلسفية لتبرير الحركة والتطور في الطبيعة، وقد جاء أبدع نتاج مادي متمثلا بالفكر الماركسي، والذي لا يزال هو الفكر الفلسفي الذي يعتمده الملحدون، على الرغم من محاولاتهم الحثيثة للتخلي عن الفكر الفلسفي وخصوصا الماركسي وذلك لفشله، بتسميته بالجدل تارة وبإفراغه عن محتواه في معضم الأحيان. ولكن بالرغم من كل تلك المحاولات، إلا أنهم لم يستطيعوا التملص منه، فهو الخلفية الفلسفية الوحيدة التي ظهرت والتي تعطي صيغة شاملة لفكر مادي.

قال ستالين:

"إنّ نقطة الابتداء في الديالكتيك -خلافاً للميتافيزية- هي وجهة النظر القائمة على أنّ كلّ أشياء الطبيعة وحوادثها تحوي تناقضات داخلية؛ لأنّ لها جميعها جانباً سلبياً وجانباً إيجابياً، ماضياً وحاضراً، وفيها جميعها عناصر تضمحلّ أو تتطوّر. فنضال هذه المتضادّات... هو المحتوى الداخلي لحركة التطوّر، هو المحتوى الداخلي لتحوّل التغيّرات الكمية إلى تغيّرات كيفية".

وقال ماو تسي تونغ:

"إنّ قانون التناقض في الأشياء، أي: قانون وحدة الأضداد، وهو القانون الأساسي الأهمّ في الديالكتيك المادّي...

قال لينين: الديالكتيك بمعناه الدقيق هو: دراسة التناقض في صميم جوهر الأشياء... وكثيراً ما كان لينين يدعو هذا القانون بجوهر الديالكتيك، كما كان يدعوه بلبّ الديالكتيك".

ولعلنا نجد كلام ستالين من أوضح وأدق التفسيرات الفلسفية المادية لنظرية التطور الدارونية، فهي تعطي معنى فلسفي لحركة المادة لتكوين التركيبات البايولوجية بناء على مذهب الجدل.

هذا هو القانون الأساسي الذي يزعمه الديالكتيك صالحاً لتفسير الطبيعة والعالم، وتبرير الحركة الصاعدة وما تزخر به من تطوّرات وقفزات. فهو حين أقصى من فلسفته مفهوم المبدأ الأوّل، واستبعد بصورة نهائية افتراض السبب الخارجي الأعمق، وجد نفسه مضطرّاً إلى إعطاء تبرير وتفسير للجريان المستمرّ والتغيّر الدائم في عالم المادّة؛ ليشرح كيف تتطوّر المادّة وتختلف عليها الألوان، أي: ليحدّد رصيد الحركة والسبب الأعمق لظواهر الوجود، فافترض أنّ هذا الرصيد يوجد في المحتوى الداخلي للمادّة، فالمادّة تنطوي على التموين المستمرّ للحركة.

ولكن من أين تأتي المادّة بهذا التموين؟ وهذا هو السؤال الرئيسي في المشكلة التي تجيب عنه المادّية الديالكتيكية، بأنّ المادّة وحدة أضداد ومجتمع نقائض. وإذا كانت الأضداد والنقائض كلّها تنصهر في وحدة معيّنة، فمن الطبيعي أن يقوم بينها الصراع لكسب المعركة، وينبثق التطوّر والتغيّر عن هذا الصراع، وبالتالي تحقّق الطبيعة مراحل تكاملها عن هذا الطريق.

وعلى هذا الأساس تخلّت المادية عن مبدأ عدم التناقض، واعتبرته من خصائص التفكير الإلهي ومن اُسس المنطق الشكلي، المتداعية بمعول الجدل القوي، كما يقرّر كيدروف قائلا:

"نفهم بكلمة المنطق الشكلي المنطق الذي يرتكز فقط على قوانين الفكر الأربعة: الهوية، والتناقض، والعكس، والبرهان. والذي يقف عند هذا الحدّ. أمّا المنطق الديالكتي فنحن نعتبر أنه علم الفكر الذي يرتكز على الطريقة الماركسية المميّزة بهذه الخطوط الأساسية الأربعة: بالترابط العامّ، وبحركة التطوّر، وبقفزات التطوّر، وبتناقضات التطوّر".

هكذا نرى أنّ الديالكتيك أقصى عن ميدانه أكثر الأفكار البشرية بدهية. فأنكر مبدأ عدم التناقض، وافترض التناقض -عوضاً عنه- قانوناً عاماً للطبيعة والوجود. وهو في هذا الإنكار والافتراض يطبّق مبدأ عدم التناقض بصورة لاشعورية؛ فإنّ الجدلي حين يؤمن بالتناقضات الجدلية وبالتفسير الديالكتي للطبيعة، يجد نفسه مضطرّاً إلى رفض مبدأ عدم التناقض والتفسير الإلهي لها، فلو فرضنا أن الجدل والتناقض هو س، ومبدأ عدم التناقض هو ص، فإنه بإيمانه بالمبدأ س، يرفض المبدأ ص بالكلية، ولا يمكنه أن يؤمن بـ س وص في نفس الوقت وذلك لأنهما مبدئين متناقضين!.

ومن الواضح: أنّ هذا ليس إلاّ لأجل أنّ الطبيعة البشرية لا يمكن أن توفّق بين السلب والإيجاب معاً في آن ومكان واحدين، بل تشعر ذاتياً بالتعارض المطلق بينهما، وإلاّ فلماذا رفضت المادية مبدأ عدم التناقض واعتقدت ببطلانه؟! أليس ذلك لأنّها آمنت بالتناقض، ولا يسعها أن تؤمن بعدمه ما دامت آمنت بوجوده؟!

وهكذا نعرف أنّ مبدأ عدم التناقض هو المبدأ الأساسي العامّ الذي لم يتجرّد عنه التفكير البشري حتّى في لحظة التحمّس للجدل والديالكتيك.

وقد كان من نتاج التناقض الديالكتيكي أن أسقط مبدأ الهوية (أ، هي، أ - ولا يمكن أن تكون إلا أ) من قاموس الجدل أيضاً، واُجيز أن يكون الشيء غير نفسه، بل التناقض الديالكتيكي العامّ يحتّم ذلك؛ لأنّ كلّ شيء متضمّن لنقيضه، ومعبّر عن نفيه في لحظة إثباته، فليست (أ، هي، أ) بصورة مطلقة، بل كلّ كائن هو نقيض ذاته ونفيها، كما يكون إثباتاً لها؛ لأنّ كيانه متناقض بالصميم، ويحتوي على النفي والإثبات المتصارعين دائماً، والمفجّرين للحركة بهذا الصراع.

ولم يحاول الماديون أن يبرهنوا على تناقضات الأشياء، أي: على قانون الديالكتيك وأساسه الجدلي، إلاّ بحشد من الأمثلة والظواهر التي حاولوا أن يبرزوا بها تناقضات الطبيعة وجدلها. فالتناقض إنّما كان من قوانين المنطق الديالكتيكي؛ لأنّ الطبيعة بنفسها متناقضة وديالكتيكية، بدليل ما يقدّم لنا الحسّ، أو يكشف عنه العلم من ضروب التناقض التي تطيح بمبدأ عدم التناقض، وتجعله غير منسجم مع واقع الطبيعة وقوانينها الحاكمة في مختلف ميادينها ومجالاتها.

وقد ألمحنا سابقاً إلى أنّ المادية لم تجد سبيلا لديناميكية الطبيعة، وجعل القوى الفعّالة للحركة محتوىً داخلياً لنفس المادّة المتطوّرة، إلاّ بأن تنطلق من التناقض، وتؤمن باجتماع النقائض في وحدة متطوّرة تبعاً لنضال تلك النقائض وصراعها.

فالمسألة في نظر الفكر المادي ذات حدّين لا ثالث لهما: (1) فإمّا أن نصوغ فكرتنا عن العالم على المبدأ القائل بعدم التناقض، فلا يوجد النفي والإثبات في صميم الأشياء، ولا يقوم فيها صراع المتناقضات، وبالتالي يتعيّن أن نفحص عن رصيد الحركة والتطوّر في سبب أعلى من الطبيعة وتطوّراتها.

(2) وإمّا أن نشيد منطقنا على الاعتقاد بنفوذ التناقض إلى صميم الأشياء، وتوحّد الأضداد أو النفي والإثبات في كلّ كائن، فنكون بذلك قد وجدنا سرّ التطوّر في التناقض الداخلي.

ولمّا كانت الطبيعة في زعم الماركسية تقدّم الشواهد والدلائل في كلّ مجال وميدان على ثبوت التناقض واجتماع النقائض والأضداد، فيجب الأخذ بوجهة النظر الثانية.

والواقع: أنّ مبدأ عدم التناقض هو أعمّ القوانين وأكثرها شمولا لجميع مجالات التطبيق، ولا تشذّ عنه ظاهرة من ظواهر الوجود والكون مطلقاً. وكلّ محاولة ديالكتيكية تستهدف الردّ عليه، أو إظهار الطبيعة بمظهر تناقض، فهي محاولة بدائية، قائمة على سوء فهم لمبدأ عدم التناقض، أو على شيء من التضليل.

فلنشرح قبل كلّ شيء مبدأ عدم التناقض بمفهومه الضروري الذي اعتبره المنطق العامّ قاعدة رئيسية للفكر البشري، ونتناول بعد ذلك مظاهر التناقض المزعوم في الطبيعة والوجود، التي تستند إليها المادية في تركيز منطقها الديالكتي والإطاحة بمبدأي عدم التناقض والهوية. فنوضّح انسجام تلك الظواهر معهما، وخلوّها عن التناقضات الديالكتيكية، وبذلك يفقد الديالكتيك سنده من الطبيعة ودليله المادّي، وبالتالي نقرّر مدى عجزه عن تفسير العالم وتبرير وجوده.

1. ما هو مبدأ عدم التناقض؟

إنّ مبدأ عدم التناقض هو المبدأ القائل: بأنّ التناقض مستحيل، فلا يمكن أن يتّفق النفي والإثبات في حال من الأحوال. وهذا واضح. ولكن ما هو هذا التناقض الذي يرفضه هذا المبدأ، ولا يمكن للعقل قبوله؟ فهل هو كلّ نفي وإثبات؟ كلاّ؛ فإنّ كلّ نفي لا يناقض أيّ إثبات، وكلّ إثبات لا يتعارض مع كلّ نفي، وإنّما يتناقض الإثبات مع نفيه بالذات لا مع نفي إثبات آخر، ووجود الشيء يتعارض بصورة أساسية مع عدم ذلك الشيء، لا مع عدم شيء آخر.

ومعنى تعارضهما: أنهما لا يمكن أن يتوحّدا أو يجتمعا. فالمربّع ذو أربعة أضلاع، وهذه حقيقة هندسية ثابتة، والمثلّث ليس له أربعة أضلاع، وهذا نفي صحيح ثابت أيضاً، ولا تناقض مطلقاً بين هذا النفي وذاك الإثبات؛ لأنّ كلاّ منهما يتناول موضوعاً خاصّاً، يختلف عن الموضوع الذي يتناوله الآخر. فالأضلاع الأربعة ثابتة في المربّع، ومنفية في المثلث، فلم ننفِ ما أثبتنا أو نثبت ما نفينا. وإنّما يوجد التناقض إذا كنّا نثبت للمربّع أضلاعاً أربعة، وننفيها عنه أيضاً، أو نثبتها للمثلّث وننفيها عنه في نفس الوقت.

وبهذا الاعتبار نصّ المنطق الإلهي على أنّ التناقض إنّما يكون بين النفي والإثبات الموحّدين في ظروفهما. فإذا اختلفت ظروف النفي مع ظروف الإثبات، لم يكن الإثبات والنفي متناقضين، وقد حددت تسعة شروط لكي يتحقق التناقض، منها وحدة الحمل والمكان والزمان وغيرها، وعرضها خارج عن حدود بحثنا. ولنأخذ عدّة أمثلة للنفي والإثبات المختلفين في ظروفهما:

(1) الأربعة زوج. الثلاثة ليست زوجاً. فالنفي والإثبات في هاتين القضيّتين لا تناقض بينهما؛ لاختلاف كلّ منهما عن الآخر بالموضوع الذي يعالجه. فالإثبات تعلّق بالأربعة، والنفي تعلّق بالثلاثة.

(2) الإنسان سريع التصديق حال الطفولة. الإنسان ليس سريع التصديق في دور الشباب والنضج. فقد تعلّق النفي والإثبات في هاتين القضيّتين بالإنسان، ولكن كلاّ منهما له زمانه الخاصّ الذي يختلف عن زمان الآخر، فلا يوجد تناقض بين النفي والإثبات.

(3) الطفل ليس عالماً بالفعل. الطفل عالم بالقوّة، أي: لديه استعداد أن يكون عالماً. وهنا -أيضاً- نواجه نفياً وإثباتاً غير متناقضين؛ لأننا في القضية الاُولى لم ننفِ نفس الإثبات الذي تحتويه القضية الثانية. فالقضية الاُولى تنفي وجود صفة العلم لدى الطفل، والقضية الاُخرى لا تثبت وجود الصفة، وإنّما تثبت إمكانها، أي: قابلية الطفل واستعداده الخاصّ لاكتسابها. فقوّة العلم هي التي تثبتها هذه القضية للطفل، لا وجود العلم له فعلا.

وهكذا نعرف أنّ التناقض بين النفي والإثبات إنّما يتحقّق فيما إذا اشتركا في الموضوع الذي يتناولانه، واتّفقا في الشروط والظروف المكانية والزمانية وغيرها. وأمّا إذا لم يتّحد النفي والإثبات في كلّ هذه الشروط والظروف، فليس بينهما تناقض، ولا يوجد الشخص أو المنطق الذي يحكم باستحالة صدقهما في هذا الحال.

2. كيف فهم الفكر المادي مبدأ عدم التناقض؟

بعد أن درسنا مفهوم التناقض، ومحتوى المبدأ الأساسي للمنطق العامّ (مبدأ عدم التناقض)، يجب أن نلقي ضوءاً على فهم المادية لهذا المبدأ، والمبرّرات التي استندت إليها في الردّ عليه ومحاولة نقضه.

وليس من الصعب أن يدرك الإنسان أنّ المادية لم تستطع، أو لم تشأ أن تعي هذا المبدأ بمفهومه الصحيح، فأنكرته تحقيقاً لمادّيتها، وحشدت عدداً من الأمثلة التي لا تنسجم معه، في زعمها، وبالتالي وضعت التناقض والصراع بين النقائض والأضداد قاعدة لمنطقها الجديد، وملأت الدنيا ضجيجاً بهذه القاعدة وتبجّحاً على المنطق البشري العامّ بابتكارها أو اكتشافها.

ولأجل أن نتبيّن مدى الخطأ الذي وقع فيه الفكر المادي، والذي دفعه إلى رفض مبدأ عدم التناقض، وما يقوم عليه من مبادئ عامة للمنطق الميتافيزيقي، يجب أن نفرّق بوضوح بين أمرين: (1) أحدهما الصراع بين أضداد ونقائض خارجية، (2) والآخر الصراع بين أضداد ونقائض مجتمعة في وحدة معيّنة.

فالثاني هو الذي يتنافى مع مبدأ عدم التناقض. وأمّا الأوّل فلا علاقة له بالتناقض مطلقاً؛ لأنّه لا يعني اجتماع النقيضين أو الضدّين، بل مردّه إلى وجود كلّ منهما بصورة مستقلّة، وقيام كفاح بينهما يؤدّي إلى نتيجة معيّنة. فشكل الشاطئ -مثلا- نتج عن فعل متبادل بين أمواج الماء وتيّاراته التي تصطدم بالأرض فتؤثر بالضفة من ناحية، وصمود الأرض في وجه التيار، ودفعها لتلك الأمواج إلى درجة معيّنة من ناحية اُخرى. وشكل الإناء من الخزف نتج عن عملية قامت بين كتلة من الطين، ويد الخزّاف.

فإن كانت الماديّة الديالكتيكية تعني هذا اللون من الصراع بين الأضداد الخارجية، فهذا لا يتعارض مطلقاً مع مبدأ عدم التناقض، ولا يدعو إلى الإيمان بالتناقض الذي قام الفكر البشري منذ نشأ على رفضه؛ لأنّ الأضداد لم تجتمع في وحدة، وإنّما وجد كلّ منهما بوجود مستقلّ في مجاله الخاصّ، واشتركا في عمل متبادل، حصلا به على نتيجة معيّنة، وأيضاً فهو لا يبرّر الاكتفاء الذاتي والاستغناء عن سبب خارجي. فشكل الشاطئ أو شكل الإناء لم يتحدّد ولم يوجد بتطوّر قائم على أساس التناقضات الداخلية، وإنّما حصل بعملية خارجية، حقّقها ضدّان مستقلاّن عن بعضها.

وهذا النحو من الصراع بين الأضداد الخارجية وعملياتها المشتركة، ليس من مستكشفات المادّية أو الديالكتيك، بل هو أمر واضح يقرّه كلّ منطق وكلّ فيلسوف -سواءٌ كان مادّياً أم كان إلهياً- منذ أبعد عصور الفلسفة المادّية والإلهية وإلى اليوم.

وهكذا يتّضح: أنّ العمليات المشتركة للأضداد الخارجية، ليست كشفاً للديالكتيك، ولا نقضاً للمنطق الإلهي، ولا شيئاً جديداً في الميدان الفلسفي، وإنّما هي حقيقة مقرّرة بكلّ وضوح في مختلف الفلسفات منذ فجر التأريخ الفلسفي، وليس فيها ما يحقّق أغراض المادية الفلسفية التي تستهدف تحقيقها على ضوء الديالكتيك والتناقض.

وأمّا إذا كانت المادية تعني بالتناقض مفهومه الحقيقي الذي يجعل للحركة رصيداً داخلياً، ويرفضه المبدأ الأساسي في منطقنا، فهذا ما لا يمكن لفكر سليم قبوله، ولا تملك الماركسية شاهداً عليه من الطبيعة وظواهر الوجود مطلقاً. وكلّ ما تعرض لنا المادية من تناقضات الطبيعة المزعومة، فهو لا يمتّ إلى الديالكتيك بصلة.

ولنعرض عدّة من تلك الشواهد التي حاولت أن تبرهن بها على منطقها الديالكتيكي؛ لنتبيّن مدى عجز المادية وفشلها في الاستدلال على منطقها الخاصّ، وهذه الأمثلة والشواهد هي من جملة ما استدل به الملحدون في خلال نقاشاتي معهم:
  • التناقض في الفيزياء، بين الشحنات الموجبة والسالبة.
وهذا التناقض المزعوم ينطوي على خطأين:

الأوّل: اعتبار الشحنة الموجبة والسالبة من قبيل النفي والإثبات، والسلب والإيجاب، نظراً إلى التعبير العلمي عن إحداهما بالموجبة، وعن الاُخرى بالسالبة، مع أنا جميعاً نعلم أنّ هذا التعبير مجرّد اصطلاح فيزيائي، ولا يعني أنهما نقيضان حقيقة، كما يتناقض النفي والإثبات، أو السلب والإيجاب.

فالشحنة الموجبة هي المماثلة للشحنة المتولّدة في القضيب الزجاجي المدلوك بقطعة من الحرير، أو انتقال الإلكترونات من قضيب الزجاج إلى قطعة الحرير. والشحنة السالبة هي المماثلة للشحنة المتولّدة على القضيب المدلوك بشعر القط، أو انتقال الإلكترونات من شعر القط إلى القضيب. فكلّ من الشحنتين نوع خاصّ من الشحنات الكهربائية، وليست إحداهما وجود الشيء، والاُخرى عدماً لذلك الشيء.

الثاني: اعتبار التجاذب لوناً من الاجتماع. وعلى هذا الأساس فسّرت علاقة التجاذب القائمة بين الشحنة الموجبة، والشحنة السالبة بالتناقض، واعتبر هذا التناقض مظهراً من مظاهر الديالكتيك، مع أنّ الواقع: أنّ السلبية والإيجابية الكهربائيتين لم تجتمعا في شحنة واحدة، وإنّما هما شحنتان مستقلّتان تتجاذبان، كما يتجاذب القطبان المغناطيسيان المختلفان، من دون أن يعني ذلك وجود شحنة واحدة موجبة وسالبة في وقت واحد، أو وجود قطب مغناطيسي شمالي وجنوبي معاً.

فالتجاذب بين الشحنات المتخالفة لون من ألوان التفاعل بين الأضداد الخارجية المستقلّ بعضها في الوجود عن بعض. وقد عرفنا فيما سبق أنّ التفاعل بين الأضداد الخارجية ليس من الديالكتيك بشيء، ولا يمتّ إلى التناقض الذي يرفضه المنطق الميتافيزيقي بصلة، فالمسألة مسألة قوّتين، تؤثّر إحداهما في الاُخرى، لا مسألة قوّة تتناقض في محتواها الداخلي، كما يزعم الديالكتيك.

أما نفس العناصر المكونة للشحة، أي الإلكترونات باعتبارها تحمل شحنة سالبة، والبروتونات باعتبارها تحمل شحنة سالبة، فنحن نقر بأن كل منهما مقابل للآخر من حيث شحنته الخاصة، ولكن فليدلني أي فيزيائي على جسم يحمل شحنة سالبة وموجبة، أي أن يكون الإلكترون والبروتون في مكان واحد وزمان واحد. إضافة إلى أن الشحنة السالبة ما هي إلا زيادة عدد الإلكترونات في الجسم على عدد البروتونات بانتقالها من جسم آخر، وكذلك الشحنات الموجبة، فهي عبارة عن نقصان عدد الإلكترونات عن عدد البروتونات بفقدانها، وليس هناك أي وجه للتناقض.
  • تناقض الفعل وردّ الفعل في الميكانيك.
فالقانون الميكانيكي القائل: إنّ لكلّ فعل ردّ فعل، يساويه في المقدار ويعاكسه في الاتّجاه - مظهر من مظاهر التناقض الديالكتي في زعم الفكر المادي.

ومرّة اُخرى نجد أنفسنا مضطرّين إلى التأكيد على أنّ قانون (نيوتن) هذا لا يبرّر التناقضات الديالكتيكية بلون من الألوان؛ لأنّ الفعل وردّ الفعل قوّتان قائمتان بجسمين، لا نقيضان مجتمعان في جسم واحد. فعجلتا السيّارة الخلفيّتان تدفعان الأرض بقوّة، وهذا هو الفعل. والأرض تدفع عجلتي السيّارة بقوّة اُخرى مساوية في المقدار ومعاكسة في الاتّجاه للاُولى، وهذا هو ردّ الفعل، وبسببه تتحرّك السيارة. فلم يحتوِ الجسم الواحد على دفعين متناقضين، ولم يقم في محتواه الداخلي صراع بين النفي والإثبات، بين النقيض والنقيض، بل السيارة تدفع الأرض من ناحية، والأرض تدفع السيارة من ناحية اُخرى، والديالكتيك إنّما يحاول أن يشرح كيفية نموّ الأشياء وحركتها باحتوائها داخلياً على قوّتين متدافعتين، ونقيضين متخاصمين، يصارع كلّ منهما الآخر لينتصر عليه، ويبلور الشيء تبعاً له.

وأين هذا من قوّتين خارجيتين يتولّد من إحداهما فعل خاصّ، ومن الاُخرى ردّ الفعل؟ ونحن نعرف جميعاً أنّ الزخمين المتعاكسين اللذين يولّدهما الفعل وردّ الفعل، يقومان في جسمين، ولا يمكن أن يكونا في جسم واحد؛ لأنّهما متعاكسان ومتنافيان، وليس هذا إلاّ لأجل مبدأ عدم التناقض.
  • النتيجة
ونخلص من دراستنا للتناقضات الديالكتيكية المزعومة إلى نتيجة، وهي: أنّ كلّ ما عرضه الفكر المادي من تناقضات في الحقل الفلسفي أو العلمي، أو المجالات الاعتيادية العامّة، ليست من التناقض الذي يرفضه المبدأ الأساسي للمنطق الإلهي. ولا يمكن أن تعتبر دليلا على تفنيد هذا المبدأ، بل لا تعدو أن تكون كمعارضات (أوبوليدس) الملطي قبل ألفي سنة لمبدأ عدم التناقض.

فقد كان يردّ على هذا المبدأ قائلا: إذا تقدّم أبوك إليك، وكان مقنّعاً فإنّك لا تعرفه، إذن أنت تعرف أباك، ولا تعرفه في آن واحد. ومن البديهي أنّ هذه الألوان المغالطات الساذجة لا يمكن أن تحطّم المبدأ الضروري العام في التفكير البشري: (مبدأ عدم التناقض).

والحقيقة التي تبيّناها في عدّة من أمثلة التناقض الديالكتي هي: الصراع والتفاعل بين الأضداد الخارجية، وقد عرفنا فيما سبق أنّ هذا اللون من التفاعل بين الأضداد ليس من مميّزات الديالكتيك، بل هو من مقرّرات الإلهية.

ولو أردنا أن نقطع النظر عن أخطاء المادية في فهم التناقض، وفشلها في محاولات الاستدلال على قانون الديالكتيك، فسوف نجد مع ذلك أنّ التناقض الديالكتي لا يقدّم لنا تفسيراً مقبولا للعالم، ولا يمكن فيه التعليل الصحيح.

كان بودي أن أسترسل في دراسة الأهداف السياسية من وراء تبلور هذا الفكر ولكني ارتأيت أن أجعل البحث فكريا بلا تداخلات سياسية أو ما شابه.

مع أطيب التحيات
ليث

هناك 3 تعليقات:

  1. غير معرف1/25/2011 1:12 م

    يعطيك العافيه ، أجزم بأنك قطعت عنق مبدأهم الخاص

    شكرا لك

    ردحذف
  2. ولكم الشكر الجزيل أخي العزيز، والله يعطيك العافية

    ردحذف
  3. غير معرف9/12/2013 1:15 ص

    شكري وتقديري لك اخي العزيز على هذا التقديم والتوضيح

    ردحذف