المادة أو الله

بسم الله الرحمن الرحيم


انتهينا في الحلقات السابقة إلى نتيجة، هي: أنّ المردّ الأساسي الأعمق للكون والعالم -بصورة عامة- هو العلّة الواجبة بالذات التي ينتهي إليها تسلسل الأسباب، فقد أثبتنا ثبوت قانون العلية. والمسألة الجديدة هي: أنّ هذه العلّة الواجبة بالذات التي تعتبر الينبوع الأوّل للوجود، هل هي المادّة نفسها، أو شيء آخر فوق حدودها؟ وبالصيغة الفلسفية للسؤال نقول: إنّ العلّة الفاعلية للعالم، هل هي نفس العلّة المادّية أو لا؟

ولأجل التوضيح نأخذ مثالا، وليكن هو الكرسي. فالكرسي عبارة عن صفة أو هيئة خاصّة، تحصل من تنظيم عدّة أجزاء مادّية تنظيماً خاصّاً، ولذلك فهو لا يمكن أن يوجد دون مادّة من خشب أو حديد ونحوهما. وبهذا الاعتبار يُسمّى الخشب علّة مادّية للكرسي الخشبي؛ لأنّه لم يكن من الممكن أن يوجد الكرسي الخشبي من دون الخشب. ولكن من الواضح جدّاً: أنّ هذه العلّة المادّية ليست هي العلّة الحقيقية التي صنعت الكرسي؛ فإنّ الفاعل الحقيقي للكرسي شيء غير مادّته، وهو النجّار. ولذا تطلق الفلسفة على النجّار اسم العلّة الفاعلية. فالعلّة الفاعلية للكرسي ليست هي نفس علّته المادّية من الخشب او الحديد. فإذا سُئلنا عن مادّة الكرسي، أجبنا أنّ مادّته هي الخشب، وإذا سئلنا عن الصانع له (العلّة الفاعلية)، لم نجب بأنه الخشب، وإنّما نقول: إنّ النجّار صنعه بآلاته ووسائله الخاصّة. فالمفارقة بين المادّة والفاعل في الكرسي، (أو في التعبير الفلسفي: بين العلّة المادّية والعلّة الفاعلية)، واضحة كلّ الوضوح (طبعا توكل إلى دراسات أعمق تفصيل العلل وتسلسلها، فالنجار هنا لا يعد وفق تلك الدراسات علة فاعلية أيضا، بل يعتبر علة معدة، والعلة الفاعلية هي أمر وراء ذلك كامن في نفس مواد الكرسي، وبدراسة أكثر عمقا من ذلك تعد نفس مواد الكرسي أيضا عللا معدة تفاض عليها الفعلية من علة أعلى).

وهدفنا الرئيسي من المسألة: أن نتبيّن نفس المفارقة في نفس العالم، بين مادّته الأساسية (العلّة المادّية) والفاعل الحقيقي (العلّة الفاعلية). فهل فاعل هذا العالم وصانعه شيء آخر خارج عن حدود المادّة ومغاير لها، كما أنّ صانع الكرسي مغاير لمادّته الخشبية؟ أو إنّه نفس المادّة التي تتركّب منها كائنات العالم؟

وهذه هي المسألة التي تُقرّر المرحلة الأخيرة من مراحل النزاع الفلسفي بين الإلهية والمادّية. وليس الديالكتيك إلاّ إحدى المحاولات الفاشلة التي قامت بها المادّية للتوحيد بين العلّة الفاعلية، والعلّة المادّية للعالم، طبقاً لقوانين التناقض الديالكتيكية.

والتزاماً بطريقتنا سوف نبحث المسألة بدراسة المادّة دراسة فلسفية على ضوء المقرّرات العلمية، والقواعد الفلسفية، متحاشين العمق الفلسفي في البحث، والتفصيل في العرض.
  • المادّة على ضوء الفيزياء:
في المادّة فكرتان علميتان، تناولهما العلماء بالبحث والدرس منذ آلاف السنين:

(1) إحداهما أنّ جميع الموادّ المعروفة في دنيا الطبيعة إنّما تتركّب من عدّة موادّ بسيطة محدودة، تُسمّى بالعناصر، (2) والاُخرى أنّ المادّة تتكوّن من دقائق صغيرة جدّاً، تُسمّى الذرّات.

أمّا الفكرة الاُولى فقد أخذ بها الإغريق بصورة عامّة، وكان الرأي السائد هو اعتبار الماء، والهواء، والتراب، والنار، عناصر بسيطة، وإرجاع جميع المركّبات إليها، بصفتها الموادّ الأوّلية في الطبيعة. وحاول بعض علماء العرب بعد ذلك أن يضيفوا إلى هذه العناصر الأربعة ثلاثة عناصر اُخرى، هي: الكبريت، والزئبق، والملح. وقد كانت خصائص العناصر البسيطة -في رأي الأقدمين- حدوداً فاصلة بينها، فلا يمكن أن يتحوّل عنصر بسيط إلى عنصر بسيط آخر.

وأمّا الفكرة الثانية (فكرة ائتلاف الأجسام من ذرّات صغيرة) فكانت موضوع صراع بين نظريتين: النظرية الانفصالية، والنظرية الاتّصالية. فالنظرية الانفصالية هي النظرية الذرّية للفيلسوف الإغريقي (ديمقريطس)، القائلة: إنّ الجسم مركّب من أجزاء صغيرة، يتخلّل بينها فراغ، وأطلق على تلك الأجزاء اسم الذرّة، أو الجزء الذي لا يتجزّأ. والنظرية الاتّصالية هي النظرية الغالبة التي أخذ بها أرسطو ورجال مدرسته. والجسم في زعم هذه النظرية ليس محتوياً على ذرّات، ومركّباً من وحدات صغيرة، بل هو شيء واحد متماسك يمكننا أن نقسّمه فنخلق منه أجزاء منفصلة بالتقسيم، لا أنه يشتمل سلفاً على أجزاء كهذه (للتفصيل راجع: "تاريخ العلوم عند العرب" و"قصّة الفلسفة اليونانيّة".

دور الفيزياء في دراسة المادة
وقد جاء بعد ذلك دور الفيزياء الحديثة، فدرست الفكرتين درساً علمياً على ضوء اكتشافاتها في عالم الذرّة. فأقرّت الفكرتين بصورة أساسية: فكرة العناصر البسيطة، وفكرة الذرّات، وكشفت في مجال كلّ منهما عن حقائق جديدة لم يكن من الممكن التوصّل إليها سابقاً.

ففيما يخصّ الفكرة الاُولى استكشفت الفيزياء ما يقارب مئة وعشرين من العناصر البسيطة التي تتكوّن منها المادّة الأساسية للكون والطبيعة بصورة عامّة. فالعالم وإن بدا لأوّل وهلة مجموعة هائلة من الحقائق والأنواع المختلفة، ولكن هذا الحشد الهائل المتنوّع يرجع في التحليل العلمي إلى تلك العناصر المحدودة.

والأجسام -بناءً على هذا- قسمان: أحدهما جسم بسيط، وهو الذي يتكوّن من أحد تلك العناصر، كالذهب، والنحاس، والحديد، والرصاص، والزئبق. والآخر هو الجسم المركّب من عنصرين أو عدّة عناصر بسيطة، كالماء المركّب من ذرّة اُوكسجين وذرّتين من الهيدروجين، أو الخشب المركّب في الغالب من الاُوكسجين والكربون والهيدروجين بصورة مركبات ليجينين وكربوهيدرات.

وفيما يخصّ الفكرة الثانية برهنت الفيزياء الحديثة علمياً على النظرية الانفصالية، وأنّ العناصر البسيطة مؤلّفة من ذرّات صغيرة ودقيقة إلى حدّ أنّ المليمتر الواحد من المادّة يحتوي على ملايين من تلك الذرّات. والذرّة عبارة عن الجزء الدقيق من العنصر الذي تزول بانقسامه خصائص ذلك العنصر البسيط.

والذرّات تحتوي على نواة مركزية لها، وعلى شحنات سالبة تدور حول النواة بسرعة هائلة هي الألكترونات، كما وطورت هذه الفكرة نظرية M بجعل الذرة عبارة عن موجة هي النواة، ومجموعة من الموجات تدور حولها، واستبدلت كل الشحنات والجسيمات بالأوتار. كما أنّ النواة تحتوي على بروتونات ونيوترونات. فالبروتونات هي الدقائق الصغيرة. وكلّ وحدة من وحداتها تحمل شحنة موجبة، تساوي شحنة الألكترون السالبة. والنيوترونات دقائق اُخرى تحتويها النواة، وليس عليها أيّ شحنة كهربائية، كما ويوجد عدد هائل من الجزيئات الأخرى في الذرة، البويزترون والميزون والإلكترون الموجب وغيرها كثير جدا.

وقد لوحظ على ضوء الاختلاف الواضح بين طول موجات الأشعّة التي تنتج عن قذف العناصر الكيماوية بقذائف من الألكترونات، أنّ هذا الاختلاف بين العناصر إنّما حصل بسبب اختلافها في عدد الألكترونات التي تحتويها ذرّات هذه العناصر. واختلافها في عدد الألكترونات يقتضي تفاوتها في مقدار الشحنة الموجبة في النواة أيضاً؛ لأنّ الذرّة متعادلة في شحناتها كهربائياً، فالشحنة الموجبة فيها بمقدار السالبة. ولمّا كانت زيادة عدد الألكترونات في بعض العناصر على بعض يعني زيادة وحدات الشحنة السالبة فيها، فيجب أن تكون نواتها محتوية على شحنة موجبة معادلة.

وعلى هذا الأساس اُعطيت الأرقام الذرية المتصاعدة للعناصر. فالهيدروجين = (1) بحسب رقمه الذرّي. فهو يحتوى في نواته على شحنة واحدة موجبة، يحملها بروتون واحد، ويحيط بها ألكترون واحد ذو شحنة سالبة فيكون هو أبسط العناصر في الطبيعة وأكثرها تواجدا. والهيليوم أرقى منه في الجدول الذرّي للعناصر؛ لأنّه = (2)، باعتباره يحتوي في نواته على ضعف الشحنة الموجبة المرتكزة في نواة الهيدروجين، أي: على بروتونين ويحيط بنواتها ألكترونان. ويأخذ الليثيوم الرقم الثالث. وهكذا تتصاعد الأرقام الذرّية إلى اليورانيوم -وهو أثقل العناصر المستكشفة لحدّ الآن- فرقمه الذرّي= (92)، بمعنى: أنّ نواته المركزية تشتمل على (92) وحدة من وحدات الشحنة الموجبة، ويحيط بها ما يماثل هذا العدد من الألكترونات، أي: من وحدات الشحنة السالبة.

وفي هذا التسلسل للأرقام الذرّية لا يبدو للنيوترونات الكامنة في النواة أدنى تأثير؛ لأنّها لا تحمل شحنة مطلقاً فهي متعادلة، وإنّما تؤثّر في الوزن الذرّي للعناصر؛ لأنّها في وزنها مساوية للبروتونات. ولأجل ذلك كان الوزن الذرّي للهيليوم -مثلا- يعادل وزن أربع ذرّات من الهيدروجين، باعتبار اشتمال نواته على نيوترونين وبروتونين، في حال أنّ النواة الهيدروجينية لا تحتوي إلاّ على بروتون واحد.

ومن الحقائق التي اُتيح للعلم إثباتها هو : إمكان تبدّل العناصر بعضها ببعض، وعمليات التبدّل -هذه- بعضها يتمّ بصورة طبيعية، وبعضها يحصل بالوسائل العلمية الصناعية.

فقد لوحظ أنّ عنصر اليورانيوم يولّد أنواعاً ثلاثة من الأشعّة، هي: أشعّة ألفا، وبيتا، وجاما. وقد وجد (رذرفورد) -حين فحص هذه الأنواع- أنّ أشعّة (ألفا) مكوّنة من دقائق صغيرة، عليها شحنات كهربائية سالبة، وقد ظهر نتيجة للفحص العلمي أنّ دقائق (الألفا) هي عبارة عن ذرّات هيليوم، بمعنى: أنّ ذرّات هيليوم تخرج من ذرّات الراديوم، أو بتعبير آخر: أنّ عنصر هيليوم يتولّد من عنصر الراديوم.

كما أنّ عنصر اليورانيوم بعد أن شعّ ألفا، وبيتا، وجاما، يتحوّل تدريجياً إلى عنصر آخر، وهو عنصر الراديوم. والراديوم أخفّ في وزنه الذرّي من اليورانيوم، وهو بدوره يمرّ بعدّة تحوّلات عنصرية حتّى ينتهي إلى عنصر الرصاص، وقد كشف بأن جميع العناصر غير مستقرة، فجميعها تميل إلى إما الإندماج أو الانشطار، ما عدا ذرة الحديد التي تعتبر أكثر الذرات استقرارا في الطبيعة.

وقام (رذرفورد) بعد ذلك بأوّل محاولة لتحويل عنصر إلى عنصر آخر؛ وذلك أنه جعل نوى ذرّات الهليوم (دقائق الألفا) تصطدم بنوى ذرّات الآزوت، فتولّدت البروتونات، أي: نتجت ذرّة هيدروجين من ذرّة الآزوت، وتحوّلت ذرّة الآزوت إلى اُوكسجين. وأكثر من هذا، فقد ثبت أنّ من الممكن أن تتحوّل بعض أجزاء الذرّة إلى جزء آخر، فيمكن لبروتون -أثناء عملية انقسام الذرّة- أن يتحوّل إلى نيوترون، وكذلك العكس.

وهكذا أصبح تبديل العناصر من العمليات الأساسية في العلم.

ولم يقف العلم عند هذا الحدّ، بل بدأ بمحاولة تبديل المادّة إلى طاقة خالصة، أي: نزع الصفة المادّية للعنصر بصورة نهائية، وذلك على ضوء جانب من النظرية النسبية لـ(آينشتين)؛ إذ قرّر أنّ كتلة الجسم نسبية، وليست ثابتة، فهي تزيد بزيادة السرعة، كما تؤكّد التجارب التي أجراها علماء الفيزياء الذرّية على الألكترونات التي تتحرّك في مجال كهربائي قوي، ودقائق (بيتا) المنطلقة من نوايا الأجسام المشعّة. ولمّا كانت كتلة الجسم المتحرّك تزداد بزيادة حركته، وليست الحركة إلاّ مظهراً من مظاهر الطاقة، فالكتلة المتزايدة في الجسم هي -إذن- طاقته المتزايدة، فلم يعد في الكون عنصران متمايزان: أحدهما المادّة التي يمكن مسّها وتتمثّل لنا في كتلة. والآخر الطاقة التي لا يمكن أن تُرى، وليس لها كتلة، كما كان يعتقد العلماء سابقاً، بل اصبح العلم يعرّف أنّ الكتلة ليست إلاّ طاقة مركّزة، أو بكلمة أخرى أن المادة هي طاقة متكثفة مركزة والطاقة هي مادة غير متركزة وبالتالي أصبحت المادة والطاقة وجهان لعملة واحدة.

ويقول (آينشتين) في معادلته: إنّ الطاقة=كتلة المادّة×مربّع سرعة الضوء (وسرعة الضوء تساوي ( 300000) كيلومترا في الثانية) كما أنّ الكتلة=الطاقة÷مربّع سرعة الضوء.

وبذلك ثبت أنّ الذرّة بما فيها من بروتونات وألكترونات ليست في الحقيقة إلاّ طاقة متكاثفة، يمكن تحليلها وإرجاعها إلى حالتها الاُولى. فهذه الطاقة هي الأصل العلمي للعالم في التحليل الحديث، وهي التي تظهر في أشكال مختلفة، وصور متعدّدة، صوتية، ومغناطيسية، وكهربائية، وكيمياوية، وميكانيكية، وهو ما فتح المجال لاحقا لنظرية M التي صاغت العالم بصيغة الوتر، وتعرفه بأنه عبارة عن حفنة من الطاقة أو موجة!

وعلى هذا الضوء لم يعد الازدواج بين المادّة والإشعاع، بين الجُسيمات والموجات، أو بين ظهور الشحنة على صورة مادّة أحياناً، وظهوره على صورة كهرباء أحياناً اُخرى، أقول: لم يعد هذا غريباً، بل أصبح مفهوماً بمقدار ما دامت كلّ هذه المظاهر صوراً لحقيقة واحدة، وهي الطاقة.

وقد أثبتت التجارب عملياً صحّة هذه النظريات؛ إذ أمكن للعلماء أن يحوّلوا المادّة إلى الطاقة، والطاقة إلى مادّة. فالمادّة تحوّلت إلى طاقة عن طريق التوحيد بين نواة ذرّة الهيدروجين ونواة ذرّة ليثيوم، فقد نتج عن ذلك نواتان من ذرّات الهليوم، وطاقة هي في الحقيقة الفارق بين الوزن الذرّي لنواتين من الهليوم، والوزن الذرّي لنواة هيدروجين ونواة ليثيوم.

والطاقة تحوّلت إلى المادّة عن طريق تحويل أشعّة (جاما) -وهي أشعّة لها طاقة وليس لها وزن- إلى دقائق مادّية من الألكترونات السالبة، والألكترونات الموجبة التي تتحوّل بدورها إلى طاقة إذا اصطدم الموجب منها بالسالب.

ويعتبر أعظم تفجير للمادّة توصّل إليه العلم هو: التفجير الذي يمكن للقنبلة الذرّية والهيدروجينية أن تحقّقه؛ إذ يتحوّل بسببهما جزء من المادّة إلى طاقة هائلة، وهو ما يكشف عن الطاقة الهائلة الكامنة في الذرة.

وتقوم الفكرة في القنبلة الذرّية على إمكان تحطيم نواة ذرّة ثقيلة، بحيث تنقسم إلى نواتين أو أكثر من عناصر أخفّ. وقد تحقّق ذلك بتحطيم النواة في بعض أقسام عنصر اليورانيوم الذي يطلق عليه اسم اليورانيوم 235، نتيجة لاصطدام النيوترون بها.

وتقوم الفكرة في القنبلة الهيدروجينية على ضمّ نوى ذرّات خفيفة إلى بعضها؛ لتكون بعد اتّحادها نوى ذرّات أثقل منها، بحيث تكون كتلة النواة الجديدة أقلّ من كتلة المكوّنات الأصليّة. وهذا الفرق في الكتلة هو الذي يظهر في صورة طاقة. ومن أساليب ذلك دمج أربع ذرّات هيدروجين بتأثير الضغط والحرارة الشديدين، وإنتاج ذرّة من عنصر الهليوم مع طاقة، هي الفارق الوزني بين الذرّة الناتجة، والذرّات المندمجة، وهو كسر ضئيل جداً في حساب الوزن الذرّي.
  • نتائج الفيزياء الحديثة:
ويستنتج من الحقائق العلمية التي عرضناها عدّة اُمور:

1. أنّ المادّة الأصيلة للعالم حقيقة واحدة مشتركة بين جميع كائناته وظواهره، وهذه الحقيقة المشتركة هي التي تظهر بمختلف الأشكال، وتتنوّع بشتّى التنوّعات.

2. أنّ خواصّ المركّبات المادّية كلّها عرضية بالإضافة إلى المادّة الأصيلة. فالماء بما يملك من خاصّة السيلان ليس شيئاً ذاتياً للمادّة التي يتكوّن منها، وإنّما هو صفة عرضية؛ وذلك بدليل أنه مركّب -كما عرفنا سابقاً- من عنصرين بسيطين، وفي الإمكان إفراز هذين العنصرين عن الآخر، فيرجعان إلى حالتهما الغازية، وتزول صفة الماء تماماً. ومن الواضح: أنّ الصفات التي يمكن أن تزول عن الشيء لا يمكن أن تكون ذاتية له.

3. أنّ خواص العناصر البسيطة نفسها ليست ذاتية للمادّة أيضاً، فضلا عن خصائص المركّبات. والبرهان العلمي على ذلك ما مرّ بنا: من إمكان تحوّل بعض العناصر إلى بعض آخر، وبعض ذرّاتها إلى ذرّات اُخرى، طبيعياً أو اصطناعياً، فإنّ هذا أمر يدلّ على أنّ خصائص العناصر إنّما هي صفات عرضية للمادّة المشتركة بين جميع العناصر البسيطة. فليست صفات الراديوم، والرصاص، والآزوت، والاُوكسجين، ذاتية للموادّ التي تتمثّل في تلك العناصر ما دام في الإمكان تبديلها البعض بالبعض.

4. وأخيراً، فنفس صفة المادّية أصبحت -على ضوء الحقائق العلمية السابقة- صفة عرضية أيضاً، فهي لا تعدو أن تكون لوناً من ألوان الطاقة وشكلا من أشكالها، وليس هذا الشكل ذاتياً لها؛ لما سبق من أنها قد تستبدل هذا الشكل بشكل آخر، فتتحوّل المادّة إلى طاقة، ويتحوّل الإلكترون أو الشحنة إلى كهرباء.
  • النتيجة الفلسفية من ذلك:
وإذا أخذنا تلك النتائج العلمية بعين الاعتبار، وجب أن ندرسها درساً فلسفياً؛ لنعرف ما إذا كان في الإمكان أن نفترض المادّة هي السبب الأعلى (العلّة الفاعلية) للعالم أو لا. ولا تردّد في أنّ الجواب الفلسفي على هذا السؤال هو: النفي بصورة قاطعة؛ ذلك لأنّ المادّة الأصيلة للعالم حقيقة واحدة عامّة في جميع مظاهره وكائناته، ولا يمكن للحقيقة الواحدة ان تختلف آثارها، وتتباين أفعالها.

فالتحليل العلمي للماء، والخشب، والتراب، وللحديد والآزوت، والرصاص، والراديوم، أدّى في نهاية المطاف إلى مادّة واحدة، نجدها في كلّ هذه العناصر وتلك المركّبات. فلا تختلف مادّة كلّ واحد من هذه الأشياء عن مادّة غيره، ولذلك يمكن تحويل مادّة شيء إلى شيء آخر.

سؤال مهم
فكيف يمكن أن نسند إلى تلك المادّة الأساسية التي نجدها في الأشياء جميعاً، تنوّع تلك الأشياء وحركاتها المختلفة؟! ولو أمكن هذا لكان معناه: أنّ الحقيقة الواحدة قد تتناقض ظواهرها، وتختلف أحكامها. وفي ذلك القضاء الحاسم على جميع العلوم الطبيعية بصورة عامّة؛ لأنّ هذه العلوم قائمة جميعاً على أساس: أنّ الحقيقة الواحدة لها ظواهر ونواميس معيّنة لا تختلف، كما درسنا ذلك بكلّ تفصيل في المقالات السابقة. فقد قلنا: إنّ تجارب العالم الطبيعي لا تقع إلاّ على موارد معيّنة، ومع ذلك فهو يشيد قانونه العلمي العامّ الذي يتناول كلّ ما تتّفق حقيقته مع موضوع تجربته. وليس ذلك إلاّ لأنّ الموادّ التي عمّم عليها القانون يتمثّل فيها نفس الواقع الذي درسه في تجاربه الخاصّة. ومعنى هذا: أنّ الواقع الواحد المشترك لا يمكن أن تتناقض ظواهره، وأن تختلف آثاره، وإلاّ لو أمكن شيء من ذلك، لما أمكن للعالم أن يضع قانونه العامّ.

وعلى هذا الأساس نعرف أنّ الواقع المادّي المشترك للعالم الذي دلّل عليه العلم، لا يمكن أن يكون هو السبب والعلّة الفاعلية له؛ لأنّ العالم مليء بالظواهر المختلفة، والتطوّرات المتنوّعة.

هذا من ناحية. ومن ناحية اُخرى، قد علمنا على ضوء النتائج العلمية السابقة أنّ الخصائص والصفات التي تبدو بها المادّة في مختلف مجالات وجودها، خصائص عرضية للمادّة الأصلية، أو للواقع المادّي المشترك. فخصائص المركّبات صفات عرضية للعناصر البسيطة، وخصائص العناصر البسيطة صفات عرضية للمادّة الذرّية. وصفة المادّية نفسها هي -أيضاً- عرضية كما سبق، بدليل إمكان سلب كلّ واحدة من هذه الصفات، وتجريد الواقع المشترك منها، فلا يمكن أن تكون المادّة ديناميكية وسبباً ذاتياً لاكتساب تلك الخصائص والصفات.
  • مع التجريبيين:
ولنقف قليلا عند اُولئك الذين يقدّسون التجربة والحسّ العلمي، ويعلنون بكلّ صلف أننا لا نؤمن بأيّ فكرة ما لم تثبت بالتجربة، ولم يبرهن عليها عن طريق الحسّ. وما دامت المسألة الإلهية مسألة غيبية وراء حدود الحسّ والتجربة، فيجب أن نطرحها جانباً، وننصرف إلى ما يمكن الظفر به في الميدان التجريبي من حقائق ومعارف، بل يعتبرون ما لا يمكن البرهنة عليه بالتجربة خرافة! والواقعية عندهم تساوي المادية.. نقف عندهم لنسألهم: ماذا تريدون بالتجربة؟ وماذا تعنون برفض كلّ عقيدة لا برهان عليها من الحسّ؟

(1) فإن كان فحوى هذا الكلام أنهم لا يؤمنون بوجود شيء ما لم يحسّوا بوجوده إحساساً مباشراً، ويرفضون كلّ فكرة ما لم يدركوا واقعها الموضوعي بأحد حواسّهم، فقد نسفوا بذلك الكيان العلمي كلّه، وأبطلوا جميع الحقائق الكبرى المبرهن عليها بالتجربة التي يقدّسونها؛ فإنّ إثبات حقيقة علمية بالتجربة ليس معناه الإحساس المباشر بتلك الحقيقة في الميدان التجريبي. فـنيوتن -مثلا- حين وضع قانون الجاذبية العامة على ضوء التجربة، لم يكن قد أحسّ بقوّة الجاذبية بشيء من حواسه الخمس، وإنّما استكشفها عن طريق ظاهرة اُخرى محسوسة، لم يجد لها تفسيراً إلاّ بافتراض وجود قوّة الجاذبية. فقد رأى أنّ الأجرام الفضائية لا تسير في خطّ مستقيم، بل تدور دوراناً، وهذه الظاهرة لا يمكن أن تتمّ -في نظر نيوتن- لو لم تكن هناك قوّة جاذبة؛ لأنّ مبدأ (القصور الذاتي) يقضي بسير الجسم المتحرّك في اتّجاه مستقيم ما لم يفرض عليه اُسلوب آخر من قوّة خارجية. فانتهى من ذلك إلى قانون الجاذبية الذي يقرّر أنّ السيّارات تخضع لقوّة مركزية، هي الجاذبية.

(2) وإن كان يعني هؤلاء -الذين ينادون بالتجربة ويقدّسونها- نفس الاُسلوب الذي تمّ به علمياً استكشاف قوى الكون وأسراره، وهو: درس ظاهرة محسوسة ثابتة بالتجربة، واستنتاج شيء آخر منها استنتاجاً عقلياً، باعتباره التفسير الوحيد لوجودها، فهذا هو اُسلوب الاستدلال على المسألة الإلهية تماماً؛ فإنّ التجارب الحسّية والعلمية قد أثبتت أنّ جميع خصائص المادّة الأصلية، وتطوّراتها وتنوّعاتها، ليست ذاتية، وإنّما هي عرضية، كحركة السيّارات الشمسية حول المركز. فكما أنّ دورانها حوله ليس ذاتياً لها، بل هي تقتضي بطبيعتها الاتّجاه المستقيم في الحركة طبقاً لمبدأ القصور الذاتي، كذلك خصائص العناصر والمركّبات. وكما أنّ ذلك الدوران لمّا لم يكن ذاتياً أتاح لنا أن نبرهن على وجود قوّة خارجية جاذبة، كذلك هذا التنوّع والاختلاف في خصائص المادّة المشتركة يكشف -أيضاً- عن سبب وراء المادّة. ونتيجة ذلك هي: أنّ (العلّة الفاعلية) للعالم غير علّته المادّية، أي: أنّ سببه غير المادّة الخام التي تشترك فيها الأشياء جميعاً.
  • مع الديالكتيك:
قد مرّ بنا الحديث عن الديالكتيك في مقال سابق من السلسلة، وكشفنا عن الأخطاء الرئيسية التي ارتكز عليها، كإلغاء مبدأ عدم التناقض ونحوه. ونريد الآن أن نبرهن على عجزه من جديد عن حلّ مشكلة العالم، وتكوين فهم صحيح له، بقطع النظر عمّـا في ركائزه واُسسه من أخطاء وتهافت.

يزعم الديالكتيك أنّ الأشياء تنتج عن حركة في المادّة، وأنّ حركة المادّة ناشئة ذاتياً عن المادّة نفسها، باعتبار احتوائها على النقائض، وقيام الصراع الداخلي بين تلك النقائض، فقد فطنت الماركسية على أن حركات المادة لابد لها من مبرر، لذلك وضعوا لها فرض التناقض، بينما المادية المعاصرة لم تضع مثل هكذا فرض بسبب عدم قيامها على فكر فلسفي يفسر لها نتائجها العلمية، ولهذا فهي لا تملك أي مرتكزات تفسيرية وليس لها نظرة كونية ولا مبادئ أخلاقية، وقد ألغت دور الإنسان في منظومة الوجود واعتبرته ريشة في مهب الريح أو آلة للعمل والمتعة!!

فلنمتحن هذا التفسير الديالكتيكي بتطبيقه على الحقائق العلمية التي سبق أن عرفناها عن العالم؛ لنرى ماذا تكون النتيجة؟

إنّ العناصر البسيطة عدّة أنواع، ولكلّ عنصر بسيط رقم ذرّي خاصّ به، وكلّما كان العنصر أرقى كان رقمه أكثر، حتّى ينتهي التسلسل إلى اليورانيوم، أرقى العناصر وأعلاها درجة. وقد أوضح العلم -أيضاً- أنّ مادّة هذه العناصر البسيطة واحدة ومشتركة في الجميع وهي الأوتار، ولذا يمكن تبديلها البعض بالبعض، فكيف وجدت أنواع العناصر العديدة في تلك المادّة المشتركة؟

والجواب على اُسس التغيّر الديالكتيكي يتلخّص في أنّ المادّة قد تطوّرت من مرحلة إلى مرحلة أرقى، حتّى بلغت درجة اليورانيوم. وعلى هذا الضوء يجب أن يكون عنصر الهيدروجين نقطة الابتداء في هذا التطوّر، باعتباره أخفّ العناصر البسيطة. فالهيدروجين يتطوّر ديالكتيكياً بسبب التناقض المحتوى في داخله، فيصبح بالتطوّر الديالكتيكي عنصراً أرقى، أي: عنصر الهيليوم، وهذا العنصر بدوره ينطوي على نقيضه، فيشتعل الصراع من جديد بين النفي والإثبات، بين الوجه السالب والوجه الموجب، حتّى تدخل المادّة في مرحلة جديدة، ويوجد العنصر الثالث، وهكذا تتصاعد المادّة طبقاً للجدول الذرّي.

هذا هو التفسير الوحيد الذي يمكن للديالكتيك أن يقدّمه في هذا المجال، تبريراً لديناميكية المادّة. ولكن من السهل جدّاً أن نتبيّن عدم إمكان الأخذ بهذا التفسير من ناحية علمية؛ لأنّ الهيدروجين لو كان مشتملا بصورة ذاتية على نقيضه، ومتطوّراً بسبب ذلك طبقاً لقوانين الديالكتيك المزعوم، فلماذا لم تتكامل جميع ذرّات الهيدروجين؟! وكيف اختصّ هذا التكامل الذاتي ببعض دون بعض؟! فإنّ التكامل الذاتي لا يعرف التخصيص، فلو كانت العوامل الخلاّقة للتطوّر والترقّي موجودة في صميم المادّة الأزلية، لما اختلفت آثار تلك العوامل، ولما اختصّت بمجموعة معيّنة من الهيدروجين، تحوّلها إلى هيليوم وتترك الباقي. فنواة الهيدروجين (البروتون) إذا كانت تحمل في ذاتها نفيها، وتتطوّر تبعاً لذلك حتّى تصبح بروتونين، بدلا من بروتون واحد، لنتج عن ذلك زوال الماء عن وجه الأرض تماماً؛ لأنّ الطبيعة إذا فقدت نوى ذرّات الهيدروجين، وتحوّلت جميعاً إلى نوى ذرّات الهليوم، لم يكن من الممكن أن يوجد بعد ذلك ماء.

فما هو السبب الذي جعل تطوّر الهيدروجين إلى هليوم مقتصراً على كمّية معيّنة، وأطلق الباقي من أسر هذا التطوّر الجبري؟!

وليس التفسير الديالكتيكي للمركّبات أدنى إلى التوفيق من تفسير الديالكتيك للعناصر البسيطة. فالماء إذا كان قد وجد طبقاً لقوانين الديالكتيك، فمعنى ذلك: أنّ الهيدروجين يعتبر إثباتاً، وأنّ هذا الإثبات يثير نفي نفسه بتوليده للاُوكسجين، ثمّ يتّحد النفي والإثبات معاً في وحدة هي الماء، أو أن نعكس الاعتبار، فنفرض الاُوكسجين إثباتاً، والهيدروجين نفياً، والماء هو الوحدة التي انطوت على النفي والإثبات معاً، وحصلت نتيجة تكاملية للصراع الديالكتي بينهما، فهل يمكن للديالكتيك أن يوضح لنا: أنّ هذا التكامل الديالكتيكي لو كان يتمّ بصورة ذاتية وديناميكية، فلماذا اختصّ بكمّية معيّنة من العنصرين، ولم يحصل في كلّ هيدروجين واُوكسجين؟؟

ولا نريد بهذا أن نقول: إنّ اليد الغيبية هي التي تباشر كلّ عمليات الطبيعة وتنوّعاتها، وأنّ الأسباب الطبيعية لا موضع لها من الحساب، وإنّما نعتقد أنّ تلك التنوّعات والتطوّرات ناشئة من عوامل طبيعية خارج المحتوى الذاتي للمادّة، وهذه العوامل تتسلسل حتّى تصل في نهاية التحليل الفلسفي إلى مبدأ وراء الطبيعة، لا إلى المادّة ذاتها.

والنتيجة هي: أنّ وحدة المادّة الأصيلة للعالم التي برهن عليها العلم من ناحية، وتنوّعاتها واتّجاهاتها المختلفة التي دلّ العلم على أنها عرضية وليست ذاتية من ناحية اُخرى، تكشف عن السرّ في المسألة الفلسفية، وتوضح: أنّ السبب الأعلى لكلّ هذه التنوّعات والاتّجاهات، لا يكمن في المادّة ذاتها، بل في سبب فوق حدود الطبيعة، ترجع إليه العوامل الطبيعية الخارجية التي تعمل على تنويع المادّة وتحديد اتّجاهاتها.
  • المادّة والفلسفة:
لماذا ندرس القضية فلسفيا؟ كنّا ننطلق في برهاننا على المسألة الإلهية من المادّة بمفهومها العلمي، التي برهن العلم على اشتراكها، وعرضية الخصائص بالإضافة إليها. والآن نريد أن ندرس المسألة الإلهية على ضوء المفهوم الفلسفي للمادّة.

ولأجل ذلك يجب أن نعرف ما هي المادّة؟ وما هو مفهومها العلمي والفلسفي؟

نعني بمادّة الشيء: الأصل الذي يتكوّن منه الشيء. فمادّة السرير هي الخشب، ومادّة الثوب هي الصوف، ومادّة الورق هي الخشب، بمعنى: أنّ الخشب والصوف هي الأشياء التي يتكوّن منها السرير والثوب والورق. ونحن كثيراً ما نعيّن مادّة للشيء، ثمّ نرجع إلى تلك المادّة لنحاول معرفة مادّتها، أي: الأصل الذي تتكوّن منه، ثمّ نأخذ هذا الأصل، فنتكلّم عن مادّته وأصله أيضاً.

فالقرية إذا سُئِلنا ممّ تتكوّن؟ أجبنا بأنها تتكوّن من عدّة عمارات ودور. فالعمارات والدور هي مادّة القرية، ويتكرّر السؤال عن هذه العمارات والدور، ما هي مادّتها؟ ويجاب عن السؤال بأنها تتركّب من الخشب والآجر والحديد. وهكذا نضع لكلّ شيء مادّة، ثمّ نضع للمادّة بدورها أصلا تتكوّن منه، ويجب أن ننتهي في هذا التسلسل إلى مادّة أساسية، وهي المادّة التي لا يمكن أن يوضع لها مادّة بدورها.

ومن جرّاء ذلك انبثق في المجال الفلسفي والعلمي السؤال عن المادّة الأساسية والأصيلة للعالم، التي ينتهي إليها تحليل الأشياء في اُصولها وموادّها.

وهذا السؤال يعتبر من أهمّ الأسئلة الرئيسية في التفكير البشري، العلمي والفلسفي. ويقصد بالمادّة العلمية أعمق ما تكشفه التجربة من موادّ للعالم، فهي الأصل الأوّل في التحليلات العلمية. ويقصد بالمادّة الفلسفية أعمق مادّة للعالم، سواءٌ أكان من الممكن ظهورها في المجال التجريبي أم لا.

وقد مرّ بنا التحدّث عن المادّة العلمية، وعرفنا أنّ أعمق مادّة توصّل إليها العلم هي الذرّة بأجزائها من النواة والشحنات التي تدور حولها، التي هي تكثف خاصّ للطاقة. ففي العرف العلمي مادّة الكرسي هي الخشب، ومادّة الخشب هي العناصر البسيطة التي يأتلف منها، وهي: الاُوكسجين، والكربون، والهيدروجين. ومادّة هذه العناصر هي الذرّات، ومادّة الذرّة هي أجزاؤها الخاصّة من البروتونات والألكترونات وغيرهما، وحتى وصل العلم الحديث إلى الوتر وهو أصغر وحدة مادية وصل إليها العلم. وهذه المجموعة الذرّية، أو الشحنات الكهربائية المتكاثفة، هي المادّة العلمية العميقة التي أثبتها العلم بالوسائل التجريبية.

وهنا يجيء دور المادّة الفلسفية؛ لنعرف ما إذا كان الوتر في الحقيقة هو أعمق وأبسط مادّة للعالم، أو إنّه بدوره مركّب -أيضاً- من مادّة وصورة، فالكرسي كما عرفنا مركّب من مادّة وهي الخشب، وصورة هي هيئته الخاصّة. والماء مركّب من مادّة وهي ذرّات الاُوكسجين والهيدروجين، وصورة وهي خاصية السيلان، التي تحصل عند التركيب الكيماوي بين الغازين. فهل الأوتار الدقيقة هي المادّة العلمية للعالم كذلك أيضاً؟

والرأي الفلسفي السائد هو: أنّ المادّة الفلسفية أعمق من المادّة العلمية، بمعنى: أنّ المادّة الاُولى في التجارب العلمية ليست هي المادّة الأساسية في النظر الفلسفي، بل هي مركّبة من مادّة -أبسط منها- وصورة، وتلك المادّة الأبسط لا يمكن إثباتها بالتجربة، وإنّما يبرهن على وجودها بطريقة فلسفية، لأنها مما لا يمكن أن تنالها التجربة بالبحث.
  • تصحيح أخطاء:
وعلى ضوء ما سبق يمكن أن نعرف أنّ النظرية الذرّية لـ (ديمقريطس) -القائلة بأنّ أصل العالم عبارة عن ذرّات أصلية لا تتجزّأ- لها جانبان: أحدهما علمي، والآخر فلسفي.

النظرية الذرية القديمة
فالجانب العلمي هو: أنّ بنية الأجسام مركّبة من ذرّات صغيرة، يتخلّل بينها الفراغ، وليس الجسم كتلة متّصلة، وإن بدا لحواسنا كذلك، وتلك الوحدات الصغيرة هي مادّة الأجسام جميعاً.

والجانب الفلسفي هو: أنّ ديمقريطس زعم أنّ تلك الوحدات والذرّات ليست مركّبة من مادّة وصورة؛ إذ ليست لها مادّة أعمق وأبسط منها، فهي المادّة الفلسفية، أي: أعمق وأبسط مادّة للعالم.

الخلط الحاصل
وقد اختلط هذان الجانبان من النظرية على كثير من المفكّرين، فبدا لهم أنّ عالم الذرّة الذي كشفه العلم الحديث بالأساليب التجريبية، يبرهن على صحّة النظرية الذرّية. فلم يعد من الممكن تخطئة (ديمقريطس) في تفسيره للأجسام -كما خطّأه الفلاسفة السابقون- بعد أن تجلّى للعلم عالم الذرّة الجديد، وإن اختلف التفكير العلمي الحديث عن تفكير ديمقريطس في تقدير حجم الذرّة وتصوير بنيتها.

تصحيح الخطأ
ولكن الواقع: أنّ التجارب العلمية الحديثة عن الذرّة إنّما تثبت صحّة الجانب العلمي من نظرية ديمقريطس، فهي تدلّ على أنّ الجسم مركّب من وحدات ذرّية، ويشتمل على فراغ يتخلّل بين تلك الذرّات، وليس متّصلا كما يصوّره الحسّ لنا. وهذه هي الناحية العلمية من النظرية التي يمكن للتجربة أن تكشف عنها. وليس للفلسفة كلمة في هذا الموضوع؛ لأنّ الجسم من ناحية فلسفية كما يمكن أن يكون متّصلا، كذلك يمكن أن يكون محتوياً على فراغ تتخلّله أجزاء دقيقة.

وأمّا الجانب الفلسفي في نظرية ديمقريطس، فلا تمسّه الكشوف العلمية بشيء، ولا تبرهن على صحّته، بل تبقى مسألة وجود مادّة أبسط من المادّة العلمية في ذمّة الفلسفة، بمعنى: أنّ الفلسفة يمكنها أن تأخذ أعمق مادّة توصّل إليها العلم في الميدان التجريبي، وهي الذرّة ومجموعتها الخاصّة، فتبرهن على أنها مركّبة من مادّة أبسط وصورة. ولا يتناقض ذلك مع الحقائق العلمية؛ لأنّ هذا التحليل والتركيب الفلسفي ليس ممّـا يمكن أن يظهر في الحقل التجريبي.

الجانبان العلمي والفلسفي
وكما أخطأ هؤلاء في زعمهم أنّ التجارب العلمية تدلّل على صحّة النظرية بكاملها، مع أنها متّصلة بجانبها العلمي فقط، كذلك أخطأ عدّة من الفلاسفة الأقدمين الذين رفضوا الجانب الفلسفي من النظرية، فعمّموا الرفض للناحية العلمية أيضاً، وادّعوا -من دون سند علمي أو فلسفي- أنّ الأجسام متّصلة، وأنكروا الذرّة والفراغ في محتواها الداخلي.

والموقف الذي يجب أن نقفه في المسألة هو: أن نقبل الجانب العلمي من النظرية، الذي يؤكّد أنّ الأجسام ليست متّصلة، وأنها مركّبة من ذرّات دقيقة إلى الغاية؛ فإنّ هذا الجانب قد كشفت عنه الفيزياء الذرّية بصورة لا تدع مجالا للشكّ.

وأمّا الجانب الفلسفي من النظرية القائل ببساطة تلك الوحدات التي تكشف عنها الفيزياء الذرّية، فنرفضه؛ لأنّ الفلسفة تبرهن على أنّ الوحدة التي تكشف عنها الفيزياء -مهما كانت دقيقة- مركّبة من صورة ومادّة. ونطلق على هذه المادّة اسم المادّة الفلسفية؛ لأنّها المادّة الأبسط التي يثبت وجودها بطريقة فلسفية لا علمية. وقد حان لنا الآن أن ندرس هذه الطريقة الفلسفية.
  • المفهوم الفلسفي للمادّة:
لمّا كانت المسألة التي نتناولها فلسفية ودقيقة إلى حدّ ما، فيجب أن نمشي بتأن وهدوء؛ ليتمكّن القارئ من متابعة السير. ولذا فلنبدأ -أوّلا- بالماء والكرسي ونظائرهما؛ لنعرف كيف صدّقت الفلسفة بأنها مركّبة من مادّة وصورة؟

إنّ الماء يتمثّل في مادّة سائلة، وهو في نفس الوقت قابل لأن يكون غازاً، ومركز هذه القابلية ليس هو السيلان؛ لأنّ صفة السيلان لا يمكن أن تكون غازاً، بل مركزه المادّة المحتواة في الماء السائل. فهو -إذن- مركّب من حالة السيلان، ومادّة تتّصف بتلك الحالة، وهي قابلة للغازية أيضاً. والكرسي يتمثّل في خشب مصنوع على هيئة خاصّة، وهو يقبل أن يكون منضدة، وليست هيئة الكرسي هي التي تقبل أن تكون منضدة، بل المادّة. فعرفنا من ذلك: أنّ الكرسي مركّب من هيئة معيّنة، ومادّة خشبية تصلح لأن تكون منضدة، كما صلحت لأن تكون كرسياً. وهكذا في كلّ مجال إذا لوحظ أنّ الكائن الخاصّ قابل للاتّصاف بنقيض صفته الخاصّة، فإنّ الفلسفة تبرهن بذلك على أنّ له مادّة، وهي التي تقبل للاتّصاف بنقيض تلك الصفة الخاصّة.

ولنأخذ مسألتنا على هذا الضوء. فقد عرفنا أنّ العلم يوضّح أنّ الجسم ليس شيئاً واحداً، بل هو مركّب من وحدات أساسية تسبح في فراغ. وهذه الوحدات باعتبارها الوحدات الأخيرة في التحليل العلمي، فهي بدورها ليست مركّبة من ذرّات أصغر منها، وإلاّ لم تكن الوحدات النهائية للمادّة. وهذا صحيح، فالفلسفة تعطي للعلم حرّيته الكاملة في تعيين الوحدات النهائية التي لا يتخلّلها فراغ ولا تحتوي على أجزاء. وحينما يعيّن العلم تلك الوحدات، يجيء دور الفلسفة، فتبرهن على أنها مركّبة من صورة ومادّة أبسط. فنحن لا نتصوّر وحدة مادّية من دون اتّصال؛ لأنّها لو لم تكن متّصلة اتّصالا حقيقياً، لكانت محتوية على فراغ تتخلّله أجزاء، كالجسم. فمعنى الوحدة هي أن تكون متّصلة، فلا تكون وحدة حقيقية بلا اتّصال، ولكنّها في نفس الوقت قابلة للتجزئة والانفصال أيضاً.

ومن الواضح: أنّ ما يقبل التجزئة والانفصال ليس هو نفس الاتّصالية المقوّمة للوحدة المادّية؛ لأنّ الاتّصال لا يمكن أن يتّصف بالانفصال، كما أنّ السيولة لم يكن من الممكن أن تتّصف بالغازية. فيجب أن تكون للوحدة مادّة بسيطة، وهي التي تقبل التجزئة والانفصال. ويؤدّي ذلك إلى اعتبارها مركّبة من مادّة، وصورة. فالمادّة هي القابلة للتجزئة والانفصال الهادم للوحدة، كما أنها هي القابلة للاتّصال أيضاً، الذي يحقّق الوحدة، وأمّا الصورة فهي نفس هذه الاتّصالية التي لا يمكن أن نتصوّر وحدة مادّية من دونها.

ولكن المسألة التي تواجهنا في هذه المرحلة هي: أنّ الفلسفة كيف يمكنها معرفة أنّ الوحدات الأساسية في المادّة قابلة للتجزئة والانفصال؟ وهل يوجد سبيل إلى ذلك إلاّ بالتجربة العلمية؟ والتجربة العلمية لم تثبت قابلية الوحدات الأساسية في المادّة للتجزئة والانقسام.

ومرّة اُخرى نؤكّد على ضرورة عدم الخلط بين المادّة العلمية والمادّة الفلسفية؛ ذلك أنّ الفلسفة لا تدّعي أنّ تجزئة الوحدة أمر ميسور بالأجهزة والوسائل العلمية التي يملكها الإنسان؛ فإنّ هذه الدعوى من حقّ العلم وحده، وإنّما تبرهن على أنّ كلّ وحدة فهي قابلة للانقسام والتجزئة، وإن لم يمكن تحقيق الانقسام خارجاً بالوسائل العلمية، ولا يمكن أن يتصوّر وحدة من دون قابلية الانقسام، أي: لا يمكن أن يتصوّر جزء لا يتجزّأ.
  • الجزء والفيزياء والكيمياء:
فمسألة الجزء الذي لا يتجزّأ ليست مسألة علمية، وإنّما هي فلسفية خالصة. وبذلك نعرف أنّ الطرق أو الحقائق العلمية التي اتّخذت للإجابة عن هذه المسألة، والتدليل على وجود الجزء الذي لا يتجزّأ، أو على نفيه، ليست صحيحة مطلقاً، ونشير إلى شيء منها:

1. قانون النسب الذي وضعه (والتن) في الكيمياء لإيضاح أنّ الاتّحاد الكيمياوي بين العناصر يجري طبقاً لنسب معيّنة، وركّزه على أساس أنّ المادّة تتألّف من دقائق صغيرة لا تقبل التجزئة.

ومن الواضح: أنّ هذا القانون إنّما يعمل في مجاله الخاص كقانون كيميائي، ولا يمكن أن تحلّ به مشكلة فلسفية؛ لأنّ قصارى ما يوضّحه هو: أنّ التفاعلات والتركيبات الكيمياوية لا يمكن أن تتمّ إلاّ بين مقادير معيّنة من العناصر في ظروف وشروط خاصّة. وإذا لم تحصل المقادير والنسب المعيّنة، فلا يوجد تفاعل وتركيب. ولكنّه لا يوضّح ما إذا كانت تلك المقادير قابلة للانقسام بحدّ ذاتها أو لا؟ فيجب علينا -إذن- أن نفرّق بين الناحية الكيميائية من القانون، والناحية الفلسفية. فهو من الناحية الكيميائية يثبت أنّ خاصّية التفاعل الكيمياوي توجد في مقادير معيّنة، ولا يمكن أن تتحقّق في أقلّ من تلك المقادير، وأمّا من الناحية الفلسفية، فلا يثبت أنّ تلك المقادير هل هي أجزاء لا تتجزّأ أو لا؟ ولا صلة لذلك بالجانب الكيميائي من القانون مطلقاً.

2. المرحلة الاُولى من الفيزياء الذرّية التي حصل فيها اكتشاف الذرّة، فقد بدا آنذاك لبعض: أنّ الفيزياء في هذه المرحلة قد وضعت حدّاً فاصلا للنزاع في مسألة الجزء الذي لا يتجزّأ؛ لأنّها كشفت عن هذا الجزء بالأساليب العلمية.

ولكن من الواضح -على ضوء ما سبق- أنّ هذا الاكتشاف لا يثبت الجزء الذي لا يتجزّأ بمعناه الفلسفي؛ لأنّ وصول التحليل العلمي إلى ذرّة لا يستطيع أن يُجزّئَها، لا يعني أنها غير قابلة للتجزئة بحدّ ذاتها.

3. المرحلة الثانية من الفيزياء الذرّية التي اعتبرت -على العكس من المرحلة الاُولى- دليلا قاطعاً على نفي الجزء الذي لا يتجزّأ؛ لأنّ العلم استطاع في هذه المرحلة أن يجزّئ الذرّة ويفجّرها، وتبخّرت بذلك فكرة الجزء الذي لا يتجزّأ.

وليست هذه المرحلة إلاّ كالمرحلة السابقة في عدم صلتها بمسألة الجزء الذي لا يتجزّأ من ناحيتها الفلسفية؛ ذلك أنّ انقسام الذرّة أو تحطيم نواتها إنّما يغيّر فكرتنا عن الجزء، ولا يقضي بصورة نهائية على نظرية الجزء الذي لا يتجزّأ. فالذرّة التي لا تنقسم بمعناها الذي كان لا يتصوّره (ديمقريطس)، أو بمعناها الذي وضع (والتن) على أساسه قانون النسب في الكيمياء.. قد تلاشى بتفجير الذرّة، ولكن هذا لا يعني أنّ المشكلة قد انتهت؛ فإنّ الوحدات الأساسية في عالم المادّة -وهي الشحنات الكهربائية، سواءٌ أكانت على شكل ذرّات أو أوتار، أم على شكل أمواج-تواجه السؤال الفلسفي عمّـا إذا كانت قابلة للتجزئة أو لا؟ ولا يستطيع العلم النفي مطلقا، لأنه لا يستطيع البت إلا إيجابا في القضايا العلمية.
  • الجزء والفلسفة:
البرهان الفلسفي على أن العالم مكون من مادة وصورة
وهكذا اتّضح في دراستنا أنّ مشكلة الجزء يجب أن تحلّ بطريقة فلسفية. وللفلسفة طرق كثيرة للبرهنة فلسفياً على أنّ كلّ وحدة تقبل الانقسام ولا يوجد جزء لا يتجزّأ. ومن أوضح تلك الطرق أن نرسم دائرتين كالرحى، إحداهما في داخل الاُخرى، ونقطة الوسط في الرحى هي مركز كلتا الدائرتين، ونضع نقطة على موضع معيّن من محيط الدائرة الكبيرة، ونقطة موازية لها على محيط الدائرة الصغيرة. ومن الواضح: أننا إذا حرّكنا الرحى تحرّكت كلتا الدائرتين. فلنحرّك الرحى، ونجعل النقطة التي وضعناها على الدائرة الكبيرة تتحرّك طبقاً لحركتها، ولكن لا نسمح لها بالحركة إلاّ بمقدار إحدى الوحدات المادّية، ثمّ نلاحظ في تلك اللحظة النقطة الموازية لها في الدائرة الصغيرة؛ لنتساءل: هل طوت من المسافة نفس المقدار الذي طوته النقطة المقابلة لها من الدائرة الكبيرة وهو وحدة كاملة، أو لم تطوِ إلاّ بعضه؟ أمّا أنها طوت نفس المقدار، فهو يعني : أنّ النقطتين سارتا مسافة واحدة، وهذا مستحيل؛ لأن الحركة دائرية مختلفة الأقطار وبالتالي مختلفة المحيطات، ولأننا نعلم أنّ النقطة مهما كانت أبعد عن المركز الرئيسي للدائرة، تكون حركتها أسرع، ولذا تطوي في كلّ دورة مسافة أطول ممّـا تطويه النقطة القريبة في تلك الدورة، فلا يمكن أن تتساوى النقطتان فيما طوتهما من المسافة. وأمّا أنّ النقطة القريبة طوت جزءاً من المسافة التي طوتها النقطة البعيدة، فهذا يعني: أنّ الوحدة التي اجتازتها النقطة البعيدة يمكن تجزئتها وتقسيمها، وليست وحدة لا تتجزّأ.

وهكذا يتّضح: أنّ أصحاب الفكرة القائلة بالوحدة التي لا تتجزّأ يواجهون موقفاً حرجاً؛ لأنّهم لا يمكنهم أن يعتبروا النقطة البعيدة والقريبة متساويتين في مقدار الحركة، ولا مختلفتين. ولم يبقَ لهم إلاّ أن يزعموا لنا أنّ النقطة الموازية في الدائرة الصغيرة كانت ساكنة ولم تتحرّك، وكلّنا نعلم أنّ الدائرة القريبة من المركز لو كانت ساكنة في اللحظة التي تحرّكت فيها الدائرة الكبيرة، لترتّب على ذلك تفكّك أجزاء الرحى وتصدّعها.

وهذا البرهان يوضّح لنا: أنّ أيّ وحدة مادّية نفترضها فهي قابلة للتجزئة؛ لأنّها حينما تطويها النقطة البعيدة عن المركز في حركتها، تكون النقطة القريبة قد قطعت جزءاً منها.

وإذا كانت الوحدة المادّية قابلة للتجزئة والانفصال، فهي مؤتلفة -إذن- من مادّة بسيطة تركّز فيها قابلية التجزئة، واتّصالية مقوّمة لوحدتها. وهكذا يتّضح: أنّ وحدات العالم المادّي مركّبة من مادّة وصورة.
  • النتيجة الفلسفية من ذلك:
وحين يتبلور المفهوم الفلسفي للمادّة القاضي بائتلافها من مادّة وصورة، نعرف أنّ المادّة العلمية لا يمكن أن تكون هي المبدأ الأوّل للعالم؛ لأنّها بنفسها تنطوي على تركيب بين المادّة والصورة. ولا يمكن لكلّ من الصورة والمادّة أن يوجد مستقلا عن الآخر، فيجب أن يوجد فاعل أسبق لعملية التركيب، تلك التي تحقّق للوحدات المادّية وجودها.

وبكلمة اُخرى: أنّ المبدأ الأوّل هو الحلقة الاُولى من سلسلة الوجود، وتسلسل الوجود يبدأ حتماً بالواجب بالذات، كما عرفنا في الجزء السابق في هذه المسألة. فالمبدأ الأوّل هو الواجب بالذات، وباعتباره كذلك يجب أن يكون غنياً في كيانه ووجوده عن شيء آخر. والوحدات الأساسية في المادّة ليست غنية في كيانها المادّي عن فاعل خارجي؛ لأنّ كيانها مؤتلف من مادّة وصورة، فهي بحاجة إليهما معاً، وكلّ من المادّة والصورة بحاجة إلى الآخر في وجوده، فينتج من ذلك كلّه أن نعرف أنّ المبدأ الأوّل خارج عن حدود المادّة، وأنّ المادّة الفلسفية للعالم -القابلة للاتّصال والانفصال- بحاجة إلى سبب خارجي يحدّد وجودها الاتّصالي أو الانفصالي.
  • المادّة والحركة:
المادّة في حركة مستمرّة وتطوّر دائم، وهذه حقيقة متّفق عليها بيننا جميعاً، والحركة تحتاج إلى سبب محرّك لها، وهذه حقيقة اُخرى مسلّمة بلا جدال. والمسألة الأساسية في فلسفة الحركة هي: أنّ المادّة المتحرّكة هل يمكن أن تكون هي علّة للحركة وسبباً لها؟ وفي صيغة اُخرى: أنّ المتحرّك موضوع الحركة، والمحرّك سبب الحركة، فهل يمكن أن يكون الشيء الواحد من الناحية الواحدة موضوعاً للحركة وسبباً لها في وقت واحد؟

والفلسفة الإلهية تجيب على ذلك مؤكّدة أنّ من الضروري تعدّد المتحرّك والمحرّك؛ لأنّ الحركة تطوّر وتكامل تدريجي للشيء الناقص، ولا يمكن للشيء الناقص أن يطوّر نفسه ويكمّل وجوده تدريجياً بصورة ذاتية؛ فإنّ الناقص لا يكون سبباً في الكمال. وعلى هذا الأساس وُضِعَت في المفهوم الفلسفي للحركة قاعدة الثنائية بين المحرّك والمتحرّك، وفي ضوء هذه القاعدة نستطيع أن نعرف أنّ سبب الحركة التطوّرية للمادّة في صميمها وجوهرها ليس هو المادّة ذاتها، بل مبدأ وراء المادّة، يمدّها بالتطوّر الدائم، ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرّج.

وعلى العكس من ذلك المادية الديالكتيكية؛ فإنّها لا تعترف بالثنائية بين المادّة المتحرّكة وسبب الحركة، بل تعتبر المادّة نفسها سبباً لحركتها وتطوّرها.

فللحركة -إذن- تفسيران:

أمّا التفسير الديالكتيكي الذي يعتبر المادّة نفسها سبباً للحركة، فالمادّة فيه هي الرصيد الأعمق للتطوّر المتكامل. وقد فرض هذا على الديالكتيك القول بأنّ المادّة منطوية ذاتياً على الأطوار والكمالات التي تحقّقها الحركة في سيرها المتجدّد. والسرّ في اضطرار الديالكتيك إلى هذا القول هو: تبرير التفسير المادّي للحركة؛ لأنّ سبب الحركة ورصيدها لا بدّ أن يكون محتوياً ذاتياً على مايموّن الحركة ويمدّها به من أطوار وتكاملات، وحيث إنّ المادّة عند الديالكتيك هي السبب المموّن لحركتها، والدافع بها في مجال التطوّر، كان لزاماً على الديالكتيك أن يعترف للمادّة بخصائص الأسباب والعلل، ويعتبرها محتوية ذاتياً على جميع النقائض التي تتدرّج الحركة في تحقيقها؛ لتصلح أن تكون منبثقاً للتكامل ومموّناً أساسياً للحركة. وهكذا اعترف بالتناقض كنتيجة حتمية لتسلسله الفلسفي، فنبذ مبدأ عدم التناقض، وزعم أنّ المتناقضات مجتمعة دائماً في محتوى المادّة الداخلي، وأنّ المادّة بهذه الثروة المحتواة تكون سبباً للحركة والتكامل.

كما وإذا كانت المادة هي المحركة والمتحركة، إذن فلابد أن تحتوي على جميع الكمالات في ذاتها وهكذا يحصل التناقض! إذ ما الحاجة للحركة إذا كانت هي نفسها محتوية على جميع الكمالات؟

وأمّا التفسير الإلهي للحركة، فيبدأ مستفهماً عن تلك المتناقضات التي يزعم الديالكتيك احتواء المادّة عليها، فهل هي موجودة في المادّة جميعاً بالفعل، أو إنّها موجودة بالقوّة؟ ثمّ يستبعد الجواب الأوّل نهائياً؛ لأنّ المتناقضات لا يمكن لها -بحكم مبدأ عدم التناقض- أن تجتمع بالفعل، ولو اجتمعت بالفعل لجمدت المادّة وسكنت. ويبقى بعد ذلك الجواب الثاني، وهو: أنّ تلك النقائض موجودة بالقوّة، ومعنى وجودها بالقوّة: أنّ المادّة فيها استعداد لتقبّل التطوّرات المتدرّجة، وإمكانية للتكامل الصاعد بالحركة. وهذا يعني: أنها فارغة في محتواها الداخلي عن كلّ شيء، سوى القابلية والاستعداد. والحركة في هذا الضوء خروج تدريجي من القابلية إلى الفعلية في مجال التطوّر المستمرّ، وليست المادّة هي العلّة الدافعة لها؛ لأنّها خالية من درجات التكامل التي تحقّقها أشواط التطوّر والحركة، ولا تحمل إلاّ إمكانها واستعدادها. فلا بدّ -إذن- من التفتيش عن سبب الحركة الجوهرية للمادّة، ومموّنها الأساسي خارج حدودها، ولا بدّ أن يكون هذا السبب هو الله -تعالى- الحاوي ذاتياً على جميع مراتب الكمال.
  • المادّة والوجدان:
إنّ موقفنا من الطبيعة، وهي زاخرة بدلائل القصد والغاية والتدبير، كموقف عامل يكتشف في حفرياته أجهزة دقيقة مكتنزة في الأرض، فإنّ هذا العامل سوف لا يشكّ في أنّ هناك يداً فنّانة ركّبت تلك الأجهزة بكلّ دقّة وعناية، تحقيقاً لأغراض معيّنة منها، وكلّما عرف العامل حقائق جديدة عن دقّة الصنع في تلك الأجهزة، وآيات الفن والإبداع فيها، ازداد إكباراً للفنّان الذي أنشأ تلك الأجهزة وتقديراً لنبوغه وعقله. فكذلك نقف -أيضاً- نفس هذا الموقف الذي توحي به طبيعة الإنسان ووجدانه من الطبيعة بصورة عامّة، مستوحين من أسرارها وآياتها عظمة المبدع الحكيم الذي أبدعها، وجلال العقل الذي انبثقت عنه.

فالطبيعة -إذن- صورة فنية رائعة، والعلوم الطبيعية هي الأدوات البشرية التي تكشف عن ألوان الإبداع في هذه الصورة، وترفع الستار عن أسرارها الفنّية وتموّن الوجدان البشري العام بالدليل تلو الدليل على وجود الخالق المدبّر الحكيم وعظمته وكماله. وهي كلّما ظفرت في شتّى ميادينها بنصر، أو كشفت عن سرّ، أمدّت الفلسفة الإلهية بقوّة جديدة، وأتحفت الإنسانية بدليل جديد على العظمة الخلاّقة المبدعة التي أبدعت تلك الصورة الخالدة ونظمتها بما يدعو إلى الدهشة والإعجاب والتقديس. وهكذا لا تدع الحقائق التي أعلنها العلم الحديث مجالا للريب في مسألة الإله القادر الحكيم. فإذا كانت البراهين الفلسفية تملأ العقل يقيناً واعتقاداً، فإنّ المكتشفات العلمية الحديثة تملأ النفس ثقة وإيماناً بالعناية الإلهية، والتفسير الغيبي للاُصول الاُولى للوجود.
  • المادّة والفيسيولوجيا:
خذ إليك فيسيولوجيا الإنسان في حقائقها المدهشة، واقرأ فيها عظمة الخالق ودقّته في كلّ ما تشرحه من تفاصيل، وتوضّحه من أسرار. فهذا جهاز الهضم أعظم معمل كيميائي في العالم بما يتفنّن به من أساليب تحليل الأغذية المختلفة تحليلا كيميائياً مدهشاً، وتوزيع الموادّ الغذائية الصالحة توزيعاً عادلا على بلايين الخلايا الحيّة التي يأتلف منها جسم الإنسان؛ إذ تتلقّى كلّ خلية مقدار حاجتها، فيتحوّل إلى عظام، وشعر، وأسنان، وأظافر، وأعصاب، طبق خطّة مرسومة للوظائف المفروضة عليها في نظام لم تعرف الإنسانية أدقّ منه وأروع.

ونظرة واحدة إلى تلك الخلايا الحيّة التي تنطوي على سرّ الحياة، تملأ النفس دهشة وإعجاباً بالخلية حين تتكيّف بمقتضيات موضعها وظروفها. فكأنّ كلّ خلية تعرف هندسة العضو الذي تتوفّر على إيجاده مع سائر الخلايا المشتركة معها في ذلك العضو، وتدرك وظيفته، وكيف يجب أن يكون.

وجهاز الحسّ البصري الصغير المتواضع في حجمه لا يقلّ عن كلّ ذلك روعة وإتقاناً، ودلالة على الإرادة الواعية، والعقل الخالق. فقد ركّب تركيباً دقيقاً كاملا، لم يكن يتمّ الإبصار بدون شيء من أجزائه. فالشبكة التي تركز العدسة عليها النور تتكوّن من تسع طبقات منفصلة، مع أنها لا تزيد في سمكها على ورقة رفيعة، والطبقة الأخيرة منها تتكوّن من ثلاثين مليوناً من الأعواد، وثلاثة ملايين من المخروطات، وقد نظّمت هذه الأعواد والمخروطات تنظيماً محكماً رائعاً، غير أنّ الأشعّة الضوئية ترتسم عليها بصورة معكوسة، ولذا شاءت العناية الخالقة أن يزوّد جهاز الإبصار -وراء تلك الشبكة- بملايين من خريطات الأعصاب، وعندها تحدث بعض التغييرات الكيميائية، ويحصل أخيراً إدراك الصورة بوضعها الصحيح بعد تدخل الدماغ، والدماغ الذي يعرف تماما موضع كل نهاية عصبية بحيث يجمع الصورة بصورة دقيقة جدا.

فهل يكون هذا التصميم الجبّار الذي يضمن عملية الإبصار على أفضل وجه من فعل المادّة على غير هدى وقصد، مع أنّ مجرّد كشفه يحتاج إلى جهود فكرية جبّارة؟!
  • المادّة والبيولوجيا:
وخذ إليك بعد ذلك البيولوجيا، وعلم الحياة، فإنّك سوف تجد سرّاً آخر من الأسرار الإلهية الكبرى، سرّ الحياة الغامض الذي يملأ الوجدان البشري اطمئناناً بالمفهوم الإلهي، ورسوخاً فيه. فقد انهارت في ضوء علم الحياة نظرية التولّد الذاتي التي كانت تسود الذهنية المادّية، ويعتقد بها السطحيّون والعوام بصورة عامّة، ويسوقون للاستشهاد عليها أمثلة عديدة من الحشرات التي تبدو -في زعمهم- وكأنها تولّدت ذاتياً تحت عوامل طبيعية معيّنة، دون أن تتسلّل من أحياء اُخرى، كالديدان التي تتكوّن في الأمعاء، أو في قطعة من اللحم إذا عرّضت للهواء مدّة من الزمان، ونحو ذلك من الأمثلة التي كانت توحي بها سذاجة التفكير المادّي. ولكن التجارب العلمية القاطعة برهنت على بطلان نظرية التولّد الذاتي، وأنّ الديدان لم تكن لتتولّد إلاّ بسبب عوامل الحياة التي كانت تشتمل عليها قطعة اللحم من بيوض وغيرها...

وقد استأنفت المادّية حملتها من جديد؛ لتركيز نظرية التولّد الذاتي حين صنع أوّل مجهر مركّب على يد (أنطون فان لوينهوك)، فاكتشف به عالماً جديداً من العضويات الصغيرة، واستطاع هذا المجهر أن يبرهن على أنّ قطرة الماء من المطر لا توجد فيها جراثيم، وإنّما تتولّد هذه الجراثيم بعد نزولها إلى الأرض. فرفع المادّيون أصواتهم وهلّلوا للنصر الجديد في ميدان الحيوانات الميكروبية بعد أن عجزوا عن إقصاء النطفة، وتركيز نظرية التوالد الذاتي في الحيوانات المرئية بالعين المجرّدة. وهكذا تراجعوا إلى الميدان، ولكن على مستوىً أخفض، واستمرّ الجدال حول تكوّن الحياة بين المادّيين وغيرهم إلى القرن التاسع عشر، حيث وضع (لويس باستور) حدّاً لذلك الصراع، وأثبت بتجاربه العلمية أنّ الجراثيم والميكروبات التي تعيش في الماء، كائنات عضوية مستقلّة، ترد إلى الماء من الخارج ثمّ تتوالد فيه.

ومرّة اُخرى حاول المادّيون أن يتعلّقوا بخيط من الأمل الموهوم، فتركوا ميادين فشلهم إلى ميدان جديد، هو: ميدان التخمير؛ حيث حاول بعضهم أن يطبّق نظرية التوالد الذاتي على الكائنات العضوية المجهرية التي ينشأ بسببها الاختمار. ولكن سرعان ما باءت هذه المحاولة بالفشل، كالمحاولات السابقة، وذلك على يد (باستور، وهو العالم الذي ابتكر الطريقة الحديثة في البسترة -التعقيم- وسميت على اسمه، البسترة هي طريقة تعقيم يتم فيها رفع وخفض درجة الحرارة بصورة مفاجئة بحيث تقتل جميع الميكروبات والجراثيم) أيضاً، حين أظهر أنّ التخمير لا يحصل في المادّة لو حفظت بمفردها، وقطعت علاقتها بالخارج، وإنّما يوجد بسبب انتقال كائنات عضوية بكتيرية معيّنة إليها، وتوالدها فيها.

وهكذا ثبت في نهاية المطاف على شتّى أقسام الحيوان -وحتّى الحيوانات الدقيقة التي اكتشفت حديثاً ولم يكن من الممكن رؤيتها بالمجهر العادي- أنّ الحياة لا تنشأ إلاّ من الحياة، وأنّ النطفة -لا التولّد الذاتي- هي القانون العام السائد في دنيا الأحياء، أو ما يسمى بالبروتوبلازم.

ويقف المادّيون عند هذه النتيجة الحاسمة موقفاً حرجاً؛ لأنّ نظرية التوالد الذاتي إذا كانت قد سقطت من الحساب في ضوء البحوث العلمية، فكيف يمكنهم أن يعلّلوا نشوء الحياة على وجه الأرض؟! وهل يبقى للوجدان البشري مستساغ -بعد ذلك- لإغماض عينيه في النور، وغضّ بصره عن الحقيقة الإلهية الناصعة التي أودعت سرّ الحياة في الخلية، أو الخلايا الاُولى؟! وإلاّ فلماذا كفّت الطبيعة عن عملية التوالد الذاتي إلى الأبد، بمعنى: أنّ التفسير المادّي لخلية الحياة الاُولى بالتوالد الذاتي لو كان صحيحاً فكيف يمكن للمادّية أن تعلّل عدم حدوث التوالد الذاتي مرّة اُخرى في الطبيعة على مرّ الزمن منذ الآماد البعيدة؟!

والواقع: أنه سؤال محيّر للمادّية، ومن الطريف أن يجيب عليه العالم الروسي (اوبارين) قائلا: إذا كان بعث الحياة عن طريق التفاعل المادّي الطويل الأمد لا يزال ممكناً في كواكب اُخرى غير كوكبنا -يعني الأرض- ففي هذا الكوكب لم يعد له مكان، ما دام هذا البعث أصبح يحدث عن طريق أسرع وأقرب، وهو طريق التوالد البشري الزواجي؛ ذلك لأنّ التفاعل الجديد حلّ محلّ التفاعل البدائي البيولوجي والكيميائي، وجعله غير ذي لزوم.

هذا هو كلّ جواب (اوبارين) على المشكلة، وهو جواب غريب حقّاً. فانظر إليه كيف يجعل استغناء الطبيعة عن عملية التوليد الذاتي بسبب أنها عملية لا لزوم لها، بعد أن وجدت الطريق الأسرع والأقرب إلى إنتاج الحياة، كأنه يتكلّم عن قوّة عاقلة واعية تترك عملية شاقّة بعد أن تهيّأ لها الوصول إلى الهدف من طريق أيسر. فمتى كانت الطبيعة تترك نواميسها وقوانينها لأجل ذلك؟! وإذا كان التولّد الذاتي قد جرى أوّل الأمر طبقاً لقوانين ونواميس معيّنة، كما يتولّد الماء من التركيب الكيميائي الخاصّ بين الاُوكسجين والهيدروجين (بالمناسبة إنتاج الماء كيميائيا مستحيل، لأنه سيكون ماء ذو عسرة لا تزال إلا بجهاز الـ RO ولذلك فإن وجود الماء في الطبيعة مختلف عن إنتاجه كيميائيا ووجوده في الطبيعة غامض حتى يومك هذا)، فمن الضروري أن يتكرّر طبقاً لتلك القوانين والنواميس، كما يتكرّر وجود الماء متى وجدت العوامل الكيميائية الخاصّة، سواءٌ كان للماء لزوم أم لا؛ إذ ليس اللزوم في عرف الطبيعة إلاّ الضرورة المنبثقة عن قوانينها ونواميسها، فبأيّ سبب اختلفت تلك القوانين والنواميس؟!
  • المادّة وعلم الوراثة:
ولندع ذلك إلى علم الوراثة الذي يأخذ بمجامع الفكر البشري ويطأطئ له الإنسان إعظاماً وإكباراً. فكم ندهش إذا عرفنا أنّ الميراث العضوي للفرد تضمّه كلّه المادّة النووية الحيّة لخلايا التناسل التي تُسمّى (DNA)، وأنّ مردّ جميع الصفات الوراثية إلى أجزاء مجهرية بالغة الدقّة، وهي: الجينات التي تحتويها تلك المادّة الحية في دقّة وانتظام. وقد أوضح العلم أنّ هذه المادّة لم تشتقّ من خلايا جسمية، بل من (DNA) الوالدين، فالأجداد، وهكذا.

وفي ضوء ذلك انهار الوهم الدارويني الذي أقام (داروين) على أساسه نظرية التطوّر والارتقاء، القائلة: بأنّ التغيّرات والصفات التي يحصل عليها الحيوان أثناء الحياة بنتيجة الخبرة والممارسة، أو بالتفاعل مع المحيط، أو نوع من الغذاء، يمكن أن تنتقل بالوراثة إلى ذرّيته؛ إذ ثبت على أساس التمييز بين الخلايا الجسمية، والخلايا التناسلية، أنّ الصفات المكتسبة لا تورث.

وهكذا اضطرّ المناصرون لنظرية التطوّر والارتقاء إلى أن ينفضوا يدهم من جميع الاُسس والتفصيلات الداروينية تقريباً، ويضعوا فرضية جديدة في ميدان التطوّر العضوي، وهي: فرضية نشوء الأنواع بواسطة الطفرات. ولا يملك العلماء اليوم رصيداً علمياً لهذه النظرية، إلاّ ملاحظة بعض مظاهر التغيّر الفجائي في عدّة من الحالات التي دعت إلى افتراض أنّ تنوّع الحيوان نشأ عن طفرات من هذا القبيل، بالرغم من أنّ الطفرات المشاهدة في الحيوانات لم تبلغ إلى حدّ تكوين التغيّرات الأساسية المنوّعة، وأنّ بعض التغيّرات الدفعية لم تورث.

ولسنا بصدد مناقشة نظرية من هذا القبيل ، وإنّما نستهدف التلميح إلى نظام الوراثة الدقيق ، والقوّة المدهشة في الجينات الدقيقة التي توجّه بها جميع خلايا الجسم، وتنشئ للحيوان شخصيّته وصفاته. فهل يمكن في الوجدان البشري أن يحدث كلّ ذلك صدفة واتّفاقاً؟!

وقد بسطت البحث في مقالات سابقة عن هذا الموضوع.
  • المادّة وعلم النفس:
وأخيراً، فلنقف لحظة عند علم النفس؛ لنطلّ على ميدان جديد من ميادين الإبداع الإلهي، ولنلاحظ من قضايا النفس بصورة خاصّة قضية الغرائز التي تنير للحيوانات طريقها وتسدّدها في خطواتها، فإنّها من آيات الوجدان البيّنات على أنّ تزويد الحيوان بتلك الغرائز صنع مدبّر حكيم، وليس صدفة عابرة، وإلاّ فمن علَّم النحل بناء الخلايا المسدّسة الأشكال؟ وعلَّم كلب البحر بناء السدود على الأنهار؟ وعلَّم النمل المدهشات في إقامة مساكنه؟ بل من علَّم ثعبان البحر أن لا يضع بيضه إلاّ في بقعة من قاع البحر، تقرب نسبة الملح فيها 35 %، وتبعد عن سطح البحر بما لا يقلّ عن (1200) قدماً؟ ففي هذه البقعة يحرص الثعبان على رمي بيضه، حيث لا ينضج إلاّ مع توافر هذين الشرطين.

ومن الطريف ما يحكى من أنّ عالماً صنع جهازاً خاصّاً، وزوّده بالحرارة المناسبة، وببخار الماء وسائر الشروط التي تتوفّر في عملية طبيعية لتوليد كتاكيت من البيض، ووضع فيه بيضاً ليحصل منه على دجاج، فلم يحصل على النتيجة المطلوبة، فعرف من ذلك أنّ دراسته لشرائط التوليد الطبيعي ليست كاملة، فأجرى تجارب اُخرى على الدجاجة حال احتضانها البيض، وبعد دقّة قائمة في الملاحظة والفحص اكتشف أنّ الدجاجة تقوم في ساعات معيّنة بتبديل وضع البيضة وتقليبها من جانب إلى جانب، فأجرى التجربة في جهازه الخاصّ مرّة اُخرى، مع إجراء تلك العملية التي تعلّمها من الدجاجة!، فنجحت نجاحاً باهراً.

فقل لي بوجدانك: مَن علّم الدجاجة هذا السرّ الذي خفي على ذلك العالم الكبير؟ أو مَنْ ألهمها هذه العملية الحكيمة التي لا يتمّ التوليد إلاّ بها؟! وهل يمكن أن تكون النحلة التي لا تخطئ مطلقا أذكى من الإنسان؟ لأن الإنسان يخطئ أخطاء لا تغتفر، بينما نجد النحل والنمل ومنذ ملايين السنين لا يخطئ في عمله مطلقا، فإما إنه يملك قوة عقلية لا تخطئ أبدا، وإما أنه نالته العناية الغيبية بتسديد تكويني من عالم خبير.

وإذا أردنا أن ندرس الغرائز بصورة أعمق، كان علينا أن نعرض أهمّ النظريات في تعليلها وتفسيرها، وهي عديدة:

النظرية الاُولى: أنّ الحيوان اهتدى إلى الأفعال الغريزية بعد محاولات وتجارب كثيرة، فأدمن عليها وصارت بسبب ذلك عادة موروثة، يتوارثها الأبناء عن الآباء، دون أن يكون في تعلّمها موضع للعناية الغيبية.

وتحتوي هذه النظرية على جزأين:

أحدهما أنّ الحيوان توصّل أوّل الأمر إلى العمل الغريزي عن طريق المحاولة والتجربة. والآخر أنه انتقل إلى الأجيال المتعاقبة، طبقاً لقانون الوراثة. ولا يمكن الأخذ بكلا الجزأين.

أمّا الجزء الأوّل من النظرية، فهو غير صحيح؛ لأنّ استبعاد الحيوان للمحاولة الخاطئة، والتزامه بالمحاولة الناجحة وحرصه عليها، يعني: أنه أدرك نجاحها وخطأ غيرها من المحاولات، وهذا ما لا يمكن الاعتراف به للحيوان، وخاصّة فيما إذا كان نجاح المحاولة لا يظهر إلاّ بعد موت الحيوان، كما في الفراش حين يصل إلى الطور الثالث من حياته؛ إذ يضع بيضه على هيئة دوائر على الأوراق الخضراء، فلا يفقس إلاّ في الفصل التالي، فيخرج على هيئة ديدان صغيرة، في الوقت الذي تكون فيه الاُمّ قد ماتت، فكيف اُتيح للفراش أن يعرف نجاحه فيما قام به من عمل، ويدرك أنه هيّأ بذلك للصغار رصيداً ضخماً من الغذاء، مع أنه لم يشهد ذلك؟! أضف إلى ذلك: أنّ الغريزة لو صحّ أنها وليدة التجربة، لأوجب ذلك تطوّر الغريزة وتكاملها في الحيوانات على مرّ الزمن، وتعزيزها على ضوء محاولات وممارسات اُخرى، مع أنّ شيئاً من هذا لم يحدث.

وأمّا الجزء الثاني من النظرية، فهو يرتكز على الفكرة القائلة بانتقال الصفات المكتسبة بالوراثة. وقد انهارت هذه الفكرة على ضوء النظريات الجديدة في علم الوراثة، كما ألمعنا إليه سابقاً.

وهب أنّ قانون الوراثة يشمل العادات المكتسبة، فكيف تكون الأعمال الغريزية عادات موروثة مع أنّ بعض الأعمال الغريزية قد لا يؤدّيها الحيوان إلاّ مرّة أو مرّات معدودة في حياته!

النظرية الثانية: تبدأ من حيث بدأت النظرية الاُولى، فتفترض أنّ الحيوان اهتدى إلى العمل الغريزي عن طريق المحاولات المتكرّرة، وانتقل إلى الأجيال المتعاقبة، لا عن طريق الوراثة، بل بلون من ألوان التفهيم والتعليم الميسورة للحيوانات.

وتشترك هذه النظرية مع النظرية السابقة في الاعتراض الذي وجّهناه إلى الجزء الأوّل منها. وتختصّ بالاعتراض على ما زعمته: من تناقل العمل الغريزي عن طريق التعليم والتفهيم؛ فإنّ هذا الزعم لا ينسجم مع الواقع المحسوس، حتّى لو اعترفنا للحيوان بالقدرة على التفاهم؛ لأنّ عدّة من الغرائز تظهر في الحيوان منذ أوّل تكوّنه، قبل أن توجد أيّ فرصة لتعليمه، بل قد تولد صغار الحيوان بعد موت اُمّهاتها، ومع ذلك توجد فيها نفس غرائز نوعها. فهذه ثعابين الماء تهاجر من مختلف البرك والأنهار إلى الأعماق السحيقة؛ لتضع بيضها، وقد تقطع في هجرتها آلاف الأميال؛ لانتخاب البقعة المناسبة، ثمّ تضع البيض وتموت، وتنشأ الصغار، فتعود بعد ذلك إلى الشاطئ الذي جاءت منه اُمّاتها، وكأنها قد أشبعت خريطة العالم تحقيقاً وتدقيقاً. فعلى يد من تلقّت صغار الثعابين دروس الجغرافيا؟!

النظرية الثالثة: أعلنتها المدرسة السلوكية في علم النفس؛ إذ حاولت أن تحلّل السلوك الحيوي بصورة عامة إلى وحدات من الفعل المنعكس. وفسّرت الغرائز بأنّها تركيبات معقّدة من تلك الوحدات، أي: سلسلة من أفعال منعكسة بسيطة، فلا تعدو الغريزة أن تكون كحركة جذب اليد عند وخزها بالدبوس، وانكماشة العين عند تسليط ضوء شديد عليها، غير أنّ هذين الفعلين منعكسان بسيطان، والغريزة منعكس مركَّب.

وهذا التفسير الآلي للغريزة لا يمكن الأخذ به؛ لدلائل متعدّدة يضيق المجال من الإفاضة فيها. فمنها أنّ الحركة المنعكسة آلياً إنّما تثار بسبب خارجي، كما في انكماشة العين التي تثيرها شدّة الضوء، مع أنّ بعض الأعمال الغريزية ليس لها مثير خارجي. فأيّ مثير يجعل الحيوان منذ يوجد يفتّش عن غذائه، ويجهد في سبيل الحصول عليه؟! أضف إلى ذلك: أنّ الأعمال المنعكسة آلياً ليس فيها موضع لإدراك وشعور، مع أنّ مراقبة الأعمال الغريزية تزوّدنا بالشواهد القاطعة على مدى الإدراك والشعور فيها. فمن تلك الشواهد تجربة اُجريت على سلوك دبور، يبني عشّه من عدد من الخلايا، إذ كان ينتظر القائم بالتجربة أن يتمّ الدبور عمله في خلية ما، فيخدشها بدبوس، فإذا أتى الدبور لعمل الخلية الثانية ووجد أنّ الإنسان قد أفسد عليه عمله، عاد إليه فأصلحه، ثمّ سار في عمل الخلية التالية، وكرّر المجرّب تجربته هذه عدداً من المرّات، أيقن بعدها أنّ تتابع إجراء السلوك الغريزي ليس تتابعاً آلياً، ولاحظ المجرّب أنّ الدبور عندما يعود ويرى أنّ الخلية -التي تمّت- قد أصابها التلف، يقوم بحركات، ويخرج أصواتاً تدلّ على ما يشعر به من غضب وضيق.

وبعد سقوط هذه النظريات المادّية يبقى تفسيران للغريزة:

أحدهما: أنّ العمل الغريزي يصدر عن قصد وشعور، غير أنّ غرض الحيوان ليس ما ينتج عنه من فوائد دقيقة، بل الالتذاذ المباشر به، بمعنى: أنّ الحيوان ركّب تركيباً يجعله يلتذّ من القيام بتلك الأعمال الغريزية، في نفس الوقت الذي تؤدّي له أعظم الفوائد والمنافع.

والتفسير الآخر: أنّ الغريزة إلهام غيبي إلهي بطريقة غامضة، زُوّد به الحيوان؛ ليعوّض عمّـا فقده من ذكاء وتعقل. وسواءٌ أصحّ هذا أم ذاك فدلائل القصد والتدبير واضحة وبدهية في الوجدان البشري، وإلاّ فكيف حصل هذا التطابق الكامل بين الأعمال الغريزية وأدقّ المصالح وأخفاها على الحيوان؟!

إلى هنا نقف، لا لأنّ دلائل العلم على المسألة الإلهية قد استنفدت -وهي لا تستنفد في مجلّدات ضخام- بل حفاظاً على طريقتنا في البحث.

ولنلتفت -بعد كلّ ما سقناه من دلائل الوجدان على وجود القوّة الحكيمة الخلاّقة- إلى الفرضية المادّية؛ لنعرف في ضوء ذلك مدى سخفها وتفاهتها؛ فإنّ هذه الفرضية حين تزعم أنّ الكون بما زخر به من أسرار النظام، وبدائع الخلقة والتكوين، قد أوجدته علّة لا تملك ذرّة من الحكمة والقصد، تفوق في سخفها وغرابتها آلاف المرّات من يجد ديواناً ضخماً من أروع الشعر وأرقاه، أو كتاباً علمياً زاخراً بالأسرار والاكتشافات، فيزعم أنّ طفلا كان يلعب بالقلم على الورق، فاتّفق أن ترتّبت الحروف، فتكوّن منها ديوان شعر، أو كتاب علم.

سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت : 53]

مع أسمى التحيات

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق