منظومة الأخلاق المادية ومآسيها - الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد بقي لنا أن نتحدث عن بعض المآسي الاجتماعية التي تولدت بشكل طبيعي عن المادية الإلحادية، أو المادية بصورة عامة، فالإلحاد ما هو إلا نتيجة طبيعية للمادية، فقد أصبح التدين في المجتمعات المادية عبارة عن صورة اجتماعية تقليدية تتم لا على أنها مؤثرة اجتماعيا بل على أنها نحو ارتباط بالسماء أو بما وراء المادة.

كما ذكرنا سابقا، من الصعب أن نستقصي كل ما نتج عن المادية من مآسي على جميع الصعد، بل سنستوفي من ذلك بعضا منها.

  • حرية وحقوق المرأة
لقد قامت المادية الرأسمالية بفك القيود عن المجتمع من النواحي السياسية وجعلته عنصرا فاعلا كما ألمعنا إليه في المقالة السابقة، ولكن ذلك لم يكن على أساس يتماشى مع الطبيعة البشرية، ولذلك نشأ عنه الكثير من المآسي التي جعلت المجتمع في حالة من التخبط، بحيث لم يعد يستطيع أن يسير بصورة متزنة بين جميع مكوناته.

لقد شملت الحرية الشخصية جميع المكونات للمجتمع على حد سواء، ولم تبن هذه الحريات على أساس رؤية شاملة اجتماعيا تنظر لكل مكون في المجتمع على إنه طرف له مرحلة معينة أو هو عنصر فاعل في مجال ما، بل ساوت بين الجميع.

فالقانون الذي صيغت على أساسه الحريات بالنسبة لمكونات المجتمع، لم يأخذ بعين الاعتبار المنازل الاجتماعية والتكوينية لمكونات المجتمع كافة، بل ساوى بين الرجل والمرأة والطفل ولم يجعل أي فوارق حقوقية. فأصبح الإبن يساوي الأب في الحقوق من وجة نظر القانون، وأصبحت المرأة تساوي الرجل من حيث الحقوق والواجبات من وجهة نظر القانون.

لقد أتاح ذلك للمرأة الكثير من الحرية التي لم تكن متاحة سابقا، فقد أصبحت المرأة عاملة وتعامَل معاملة تساوي الرجل، فلا فرق في الأعمال بين المرأة والرجل ولا يوجد الآن (تقريبا أو غالبا) فروق حتى في الأجور، مع إن بعض الأعمال لا تزال ذكورية، كقيادة الرافعات، ولا تزال بعض الجهات تفضل الرجل على المرأة بحكم الحالة البايولوجية للمرأة من حمل وولادة!

نعم هم أرادوا المساواة في الحقوق والواجبات، والحريات الشخصية هي من ضمن الحقوق، فكفلها النظام الرأسمالي المادي للمرأة كما كفلها للرجل.

والآن يأتي هذا التساؤل المهم، هل حققت المرأة ما تريد بعد أن كفل لها المجتمع والقانون كافة الحريات كما كفلها للرجل، وأصبحت تساوي الرجل تقريبا في جميع المجالات؟

لنلقي نظرة واحدة على شارع من شوارع البلدان التي تتبنى المادية الرأسمالية لنجد بأن الجواب هو النفي القاطع، لقد تحولت المرأة في المجتمع الغربي إلى جسد يباع ويشترى، فكما تحققت الحرية الشخصية وتحققت المساواة وكفل لها القانون الاجتماعي الحرية في التصرف كما كفلها للرجل، إلا إنه لم يأخذ بعين الاعتبار الطبيعة النفسية والبايولوجية للرجل والمرأة، والفارق الطبيعي بينهما. بالتالي لم يقدر بأن البغاء لا يطال الرجال بل يطال المرأة فقط، ونوادي التعري لا يمكن أن تستقبل النساء ليشاهدن الرجال بل هي تستقبل الرجال ليشاهدوا النساء، ودور الدعارة لا تشمل العمال الرجال، بل يحتوي على النساء وهن عبارة عن سلعة يبيعها المدير لمن يشاء بالسعر الذي يشاء.

لقد تحولت المرأة من إنسان، إلى آلة لإشباع الشهوات، بل وحتى لو فرضنا هذا شذوذا في المجتمع، فإنها أصبحت لا تستطيع التوفيق بين الضغوط النفسية والجسدية والضغوط الاجتماعية، فهي إما أن تكون إمرأة عاملة ومبدعة، أو تكون ألة إغراء (كما مرشدات السياحة، أو موظفات الطيران، أو موديلات الإعلانات والدعاية) وإما أن تكون ربة منزل وزوجة!

لنأخذ هذا السيناريو على سبيل المثال، إمراة بلغت الثلاثين وهي لا تزال في أول مشوارها العملي، فهي إما أن تتجه للزواج بحيث تتحول إلى ربة منزل ومربية، وإما أن يكون لها عمل بسيط لتساعد زوجها على تحمل ضغوط الاقتصاد الرأسمالي الساحق، أو لتكون إمرأة مهتمة فقط بعملها، وبالتالي تخسر حياة زوجية مبكرة لتكون أما، وبالتالي فإنها تكبر وهي تتجه إلى التخلي عن الأمومة (الأمومة غريزة أنثوية تم تشويهها في المجتمعات الغربية، ولكنها تبقى في نفس المرأة ولا تستطيع التخلي عنها لأنها في صميم ذاتها)، وإذا ما تداركت الأمر قد تصبح أما لطفل واحد بعد زواجها في نهاية الثلاثين وبعد أن بنت لنفسها عملا جيدا ثابتا قويا، ولكن الأثر الاجتماعي السلبي لذلك هو انخفاظ عدد المواليد، وبالتالي معدل الإنجاب، وبالتالي الخطر أو التهديد بانهيار المجتمع على المدى البعيد، وانقراضه كما ذكرنا في أول مقال عن المشكلة الاجتماعية، أو الخطر الأكبر إن كان لها أكثر من ولد هو التربية الغير سوية أو التي لا تكون برعاية الآباء، وبالتالي تحملها مسؤولية مزدوجة توفق فيها بين عملها وبين تربية أطفالها، هذا إن استطاعت.

لم تستطع المادية مطلقا السيطرة على المجتمع بعد أن جعلت المنفعة الشخصية أساسا قويما للمجتمع بعيدا عن منظومة أخلاقية، وكان هذا البعد طبيعيا كما في المقال السابق. وبالتالي أصبح الأقوياء في المجتمع من أصحاب رؤوس الأموال أو النفوذ متحكمين بجهات متشعبة كأشبه ما يكون بالمافيا، ولهم يد قوية تحكم المجتمع بالجنس والمال (قرأت قبل فترة كتاب لبروكلمان وهو مثقف أمريكي يهودي مناهض للصهيونية يتحدث فيه عن كيفية السيطرة على الشعوب بالجنس والإعلام والمال، ويوضح فيه كيفية تطبيق هذه الطريقة في الولايات المتحدة الأمريكية مع محاولة تصدير نفس الطريقة للعالم).

نعم إن هذا المبدأ، وهو التحكم بالمجتمع من خلال الجنس والمال موجود بالفعل، وتقوم به امبراطوريات اقتصادية ضخمة على مستوى العالم، فحيث إن منفعتهم الشخصية تقتضي أن يكون المجتمع مستهلكا وهم منتجين قدر الإمكان، أصبح لزاما عليهم أن يجدوا طريقة للتحكم بالمجتمع، فأصبحت الأزمات المفتعلة والتأثير على عقول المستهلكين بالدعاية والإعلان هو الأمر المتاح والمؤثر الأقوى للتحكم بالمجتمعات بصورة لا إرادية.

نعم فإن الإمبراطوريات الإقتصادية أصبحت مؤثرة على المجتمعات من خلال الإعلام والدعايات أكثر من أي وقت مضى، والعامل الأول في الدعايات هو المرأة الجميلة ذات الرداء الأحمر! فقد تحولت بالتالي المرأة بعد أن أبيح لها فعل كل شيء لترضي بذلك غرورها الجسدي بعيدا عن الأخلاق، أصبحت الدعاية بالنسبة لها مادة لترضي نفسها وتكسب المال وهي تستخدم كجسد عاري بهدف الإغراء.

هذه هي مكاسب المرأة الحقيقة جراء هذا النظام، الذي جانب بين النظم الأخلاقية والمجتمع، جانب بين الفلسفة التي تكون من خلالها رؤية اجتماعية متكاملة لكافة عناصر المجتمع وطبيعة علاقاتهم ببعضهم البعض، وبين الهدف الأسمى من وجود اختلافات جوهرية نفسية وبايولوجية بين المرأة والرجل، حيث إنه آمن بأن هذه الفوارق ماهي إلا وليدة الصدفة العمياء، فلابد أن لا يكون هناك فوارق في التعامل معها ما دام لا يوجد أي غائية في مثل هذا التفريق.

لم يأخذ القانون المادي بعين الاعتبار التوازن الاجتماعي المفترض بحيث يؤدي كل من الرجل والمرأة دوره الطبيعي في المجتمع، إن حرية المرأة أصبحت عبارة عن حجة لتعزيز المسألة وتقنينها (أي صياغتها بإطار قانوني) في المجتمعات وزرعها فيها، إن الدور الطبيعي للمرأة قد ألغي، وبالتالي ألغيت كافة الفوارق الجسدية، ولكن ذلك لا يمكن أن يؤتي ثمارا إيجابية إلا بأحد طريقين:
  1. أن يتحول الإنسان غير الإنسان، فلا يصبح هناك أي فوارق طبيعية بين الرجل والمرأة ويصبح الرجل له إمكانية الحمل والولادة كما هي للمرأة وبالتالي يتبادلات الأدوار بصورة تلقائية لا غبار عليها.
  2. أن يخلق لنا النظام المادي منظومة اجتماعية وأخلاقية تستجيب لعناصر المجتمع وطبيعة العلاقة بين مكوناته، أو أن يتنازل عن اعتداده بنفسه واعترافه بفشله الذريع وإتاحة المجال لمنظومة بديلة تأخذ مكانها.
لقد كان هذا التناقض الناشئ في نفس المرأة وليد المنظومة الاجتماعية التي لا تتناسب وطبيعة المرأة النفسية والجسدية بصورة طبيعية متكاملة، وهو تمخض تلقائي للقوانين الوضعية التي جعلت المرأة بين مطرقة الطبيعة والقوانين الوضعية ورغبة المجتمع وسندان النظام القانوني السليم المتناغم وطبيعتها الإنسانية.

  • التسلسل الحقوقي لمكونات المجتمع (الرجل، المرأة، الطفل، الحيوان الأليف!)
لقد تكلمنا عن مشكلة المرأة في المجتمع المادي، ولكن المشكلة تتعمق وتتعقد أكثر وأكثر حينما ننتقل إلى المكونات الثلاثة للمجتمع، فقد دمج هذا النظام مكونا رابعا، وهو الحيوان الأليف! وجعله فردا من الأسرة!

فبدل أن يقسم القانون العلاقة إلى ثلاثة أقسام:
  1. علاقة الإنسان بالطبيعة
  2. علاقة الإنسان بأخيه الإنسان
  3. علاقة الإنسان بربه (على اعتبار أننا لا نعتبر الإله منفصلا عن حياة الإنسان الاجتماعية والشخصية)
قسمها إلى الأقسام التالي:
  1. علاقة الإنسان بالإنسان
  2. علاقة الإنسان بالحيوان (واستحدث منظومة حقوق جديدة أسماها حقوق الحيوان!)
  3. علاقة الإنسان بالطبيعة (على اعتبار أن النظرة نظرة مادية بحتة)
وبدل أن يجعل في منظومته الحقوقية الإنسان في أسمى درجات تلك المنظومة، جعل الحيوان الأليف في مرتبة أعلى! نعم عزيزي القارئ ولا تستغرب، فإن المجتمعات الغربية بصورة أو بأخرى جعلت الحيوان أعلى من الأنسان في الحقوق، ولم تلق على عاتقه أي مسؤولية، بل ألقت المسؤولية على مالكه! فأصبح الإنسان مالكا للكلب ولكنه خادم له في نفس الوقت، وأصبح الكلب عزيز البيت!

هل نتعجب من ذلك؟ أبدا، فأنا لم أصدق ذلك حتى قامت إحدى الأخوات المقيمات في السويد بترجمة بعض فقرات الدستور السويدي والفنلندي والنرويجي و قمت بنفسي بالتأكد من نفس البند في الدستور الكندي من اقاربي القاطنين هناك، لأجد بأن سلسلة الحقوق في تلك المجتمعات بحسب القانون هي:
  1. الحيوان الأليف
  2. الطفل في بعضها أو المرأة في بعضها الآخر
  3. المرأة في بعض أو الطفل في بعضها الآخر
  4. الرجل
ياللرجل المسكين، لقد أصبح في الحضيض بعد أن كان المسيطر والآمر الناهي في بيته.. ولك أن تتخيل كيف أنك لو قمت بضرب القطة أو الكلب، وقام أحد الجيران بالتبليغ عنك فإنك مهدد بالسجن لستة أشهر ومصادرة تلك القطة أو الكلب، ليعيش الكلب أو القطة المسكينة حياة تراعي حقوقها وتحافظ على كرامتها!

إن العين لتدمع حين ترى ذلك، وإن الجبين ليندى، ولكن هذا نتيجة طبيعية حين يصبح الكلب مثلا حاجة ضرورية في المنزل، ويصبح هناك نحو تعلق عاطفي بهذا الكلب من قبل أفراد ذلك المنزل، وبالتالي فهم يدافعون عنه وعن حقوقه بكل صورة، وبالتالي أيضا (بما أن رجل القانون هو أيضا يحمل نفس الفكر) فإنه سوف يضع قانونا لحماية حقوق الحيوان، فهو أشرف إذن، لأننا نخدمه وهو لا قيوم بأي واجب اجتماعي طوعي بل هو مجبول على غريزة معينة تدفعه ليعمل ما تمليه عليه تلك الغريزة، والرجل مجبر على تأدية واجب اجتماعي وله أيضا حظ أدنى من الحقوق.

نعم، فالمرأة أصبح لها درجة أعلى من الحقوق ونسبة أقل من الواجبات، فهي لا تحاسب مثلا مثلما يحاسب الرجل في المجتمع ولكن المجتمع ترك لها مساحة أوسع بكثير من الحريات مما ترك للرجل. بل وحتى الطفل أعطي من الحقوق نسبة أكبر، ففي بعض المجتمعات أصبح الطفل في رتبة أعلى بكثير، ولكنه لا يزال لا يتمتع بحقوق الكلب مع الأسف الشديد!

فالأب ليس من حقه إطلاقا أن يتدخل في نشوء الإبن، فحين يحاول الأب "مضايقة" ابنه ليمنعه من أمر واضح الخطأ مثلا، فإن للإبن حق الاتصال بالشرطة والتبليغ عن مضايقة الأب له!، بل سوف يوضع الأب في السجن، ويأخذ منه تعهد بعدم التعرض للولد مرة أخرى، وإن أعاد الكرة فإن وصايته على ابنه تنقض بفعل التعهد آنف الذكر ويصبح الإبن تحت وصاية الدولة، تربيه كيف ما يحلو لها، ولكن الأب يبقى يدفع المال للدولة لكي تقوم بالصرف على الولد، ياللأب المسكين، فهو ينطلق بدافع الحرص على ابنه من أن ينحرف أو ابنته أن تنحرف، ولكنه لا يستطيع عمل شيء فالقانون يكتف يديه ويجعلها مغلولة، ويأخذ منه فلوسه هانئة لولده الطيب. وهكذا اختلّت الموازين التربوية وأصبحت العائلة هي المؤثر الأضعف في مصير الأبناء، ولا عجب أن يرمي الإبن أباه في دار العجزة أو أن يرمي أمه، حيث إنه لا يرى لهما أي فضل عليه.

تصور بأن أبا يرى ابنته تتجه لتعمل في دار للدعارة، وهو لا يقوى على عمل اي شيء باعتبار أن ذلك حق مكفول لها، ويذهب ابنه لكي يستأجرها أو لعله يلتقي بها صدفة وهو ذاهب لينسى هموم الحياة، لا بل إنها سوف تحصل على هوية نقابة "البغايا"، صدق ذلك أخي القارئ، فأنا لا أبالغ أبدا، فإن تلك النقابة موجودة في ألمانيا وفرنسا وأغلب الدول الاسكندنافية! نعم فأنت محظوظ، حيث إن ابنتك تملك هوية نقابة، ولكنها نقابة البغايا، ولها حق التظاهر والمطالبة بزيادة الأجور ولها ضمان اجتماعي أيضا، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه!.

هنيئا لذلك الأب الطيب، هذا ما أتحفنا به النظام الاجتماعي المادي، سيد وليد، هل تقبلون ذلك لبناتكم إن كان البلد الذي تقيمون فيه يكفل ذلك "الحق" لهم، والسيد وليد يتبجح بأن زواج المحارم أمر مكفول ما دام بتراضي الطرفين، فهل تقبل زواج ابنتك من ابنك مثلا؟ أم أنك تعتبر ذلك أمرا مهولا لا يمكن السماح به، أو مثلا زواج أحد ولديك من ولدك الآخر تحت طائلة قانون زواج المثليين المكفول أيضا في المجتمعات الغربية، أتمنى أن أتلقى إجابة من جنابكم المكرم، ولو أني لن أستغرب اجابتك إن كانت بالإيجاب، فأنا لا أستغرب أن تقوم أنت بنفس الفعل، فلا ترفضه إن صدر من أحد أبنائك، ولا أتمنى منك أن تغضب فأنت من اعتبر ذلك حقا لأي إنسان وتدافع عنه، فلا تغضب من حقك يا أخي في الإنسانية.

هكذا تصوغ المادية منظومتها الاجتماعية، بهذه الصورة التي لا ترقى لمنزلة الحيوانات، فضلا عن البشر، أين هي المادية من تنظيم المجتمع؟ أين هي القوانين المادية الحافظة لكرامة الإنسان التي يدعيها الماديون، هكذا يكون حفظ كرامة المرأة والحفاظ على كرامة الإبناء، شكرا للنظام المادي الشاذ على ذلك.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق