القضاء والقدر - وإشكالية تعطيل الفعل الإنساني

بسم الله الرحمن الرحيم

إن الخروج من بين فكي الجبر والتفويض واندراج الأفعال الإنسانية في نطاق نظرية الأمر بين الأمرين التي تكلمنا عنها في المقدمة السابقة، لم يعف المسيرة الإنسانية عامة والعقل الإنساني خاصة من التورط بعثرات نظرية نشأت عن التباس الأمر عليه في التوفيق بين عدد من الظواهر والمعتقدات.

فإذا كانت نظرية الأمر بين الأمرين قد أشادت بنيانها على قواعد قوية، ونهضت بها البراهين العقلية، فإن ذلك لم يمنع الفكر من أن يواجه معضلة على صعيد التوفيق بين المدلول العملي للنظرية الذي يعني هيمنة الإنسان على مصيره بإذن من خالقه وامتلاكه الحرية في تقرير هذا المصير بنفسه كما يشاء، وبين الإيمان بالقضاء والقدر الذي نطق به القرآن وصريح الأثر النبوي الشريف.

معنى القضاء والقدر هو أن الإنسان كل شيء مقدر له مكتوب عليه منذ الأزل بحيث هو لن يكون بمقدوره أن ينفك عن مصيره المقرر له سلفا على ما يوحي به مجموعة من النصوص القرآنية: "قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا"، وفي حديث للإمام علي عليه السلام: "فوالله ما علوتم تلعة ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر".

والإشكالية التي تقدم نفسها في هذا الإطار أن هناك ضروبا من التعارض بين الإيمان بعقيدة القضاء والقدر وما تمليه من تعلق الإرادة الإلهية الأزلية -وهي التي يستحيل تخلفها فهي إرادة ذاتية- تعلقها بالفعل الإنساني، وبين اختيارية الفعل وتأثر الإرادة الإنسانية في وجوده كما دلت عليه ذلك نظرية الأمر بين الأمرين.

بل يتخطى حدود الاتباس أو الإشكالية الجزئية إلى إشكالية أعم لا ترى في عقيدة القضاء والقدر إلا الجبر المطلق كما مهد لذلك وليد في مدونته وأشكل بعد ذلك، بحيث تحول القضاء والقدر إلى هاجس مقلق ومقولة مرعبة، بحسب ما ينتهي إليه الشيخ المطهري في تحليله الاجتماعي للمشكلة: "السر الذي جعل كلمة القضاء والقدر وأمثالها مرعبة، هو صيرورتها مرادفة للجبر وعدم الحرية"، ويوضح الدكتور حسن حنفي في كتابه من العقيد إلى الثورة: "يتضمن الجبر عدة عقائد في مقدمتها القضاء والقدر... وقد ارتبطت العقيدة الأم وهو الجبر برأس عقائده وهو الإيمان بالقضاء والقدر حتى أصبحت العقيدتان الأصلية والفرعية متلازمتين. فالقول بالجبر هو إثبات للقضاء والقدر وإثبات القضاء والقدر هو قول بالجبر" وسيتبين خطأ هذا الرأي لاحقا، بل خطؤه الفاضح.

إن التشابك بين القضاء والقدر والتصادم فيما بين هذه العقيدة وحرية الإنسان في تقرير المصير وإرادته الخاصة في إيجاد فعله لم تنشأ في العصور الأخيرة وكأثر لانباثاق الوعي الحديث أو بسبب ما يطلق عليها بصدمة الوعي الأوروبي، بل للمألة جذور تاريخية عميقة في الفكر الديني للإنسان في إطار حتى الأديان السابقة. فقد ظهرت وهي تكتسب صيغة الإشكالية التالية: "كيف نوفق بين وجود إله قادر على كل شيء، عالم بكل شيء من ناحية، وبين حرية الإنسان المسؤول أخلاقيا من ناحية أخرى". ثم في مرحلة لاحقة من النمو الإدراكي والعلمي للإنسانية اكتسب الصيغة الإشكالية التالية: "كيف نوفق بين الحرية الأخلاقية وبين فكر السببية وعمومية القانون والشمول".

إن هذا الإشكال هو أبعد توغلا في الحياة الإنسانية والاجتماعية من الصيغ العلمية وإشكالاتها النظرية، بحيث يخطئ من يظن أنها زالت تماما سواء في الشرق أو في الغرب، وهي تحتاج إلى حل لكي تصبح واضحة المعالم للفكر الإنساني، بدل أن يتوجه إلى القوى السحرية والخرافة على نحو الحظ وبقية الألاعيب التي يزدحم بها الواقع الإنساني المعاصر في المجتمعات الغربية والشرقية على السواء. إن رغبة الإنسان بالارتباط بالمطلق (المطلق هو القوة الخفية التي يؤمن بها الإنسان بالفطرة، ولا يجد مناصا من التعلق بها قلبيا في حالات الشدة والخطر الشديد - إذ لا مشكلة في مفهوم ذلك التعلق، بل الإشكال في تشخيص مصداق الشيء الذي يتعلق به الإنسان، والأديان توجهنا التوجيه الصحيح للتعلق بالله، بدل التخبط الذي نشأ في الفكر، وقد أصبح العلم المحدود هو المطلق في الفكر الملحد) تظهر بصور شتى، فهي مسألة متأصلة في الطبع البشري، هي الدافع الأكبر لكي يرى الإنسان نفسه متقدما نحو الكمال، وهو يحاول الوصول بشترى الطرق للكمال المطلق بالرغم من اعترافه بعجزه، إلا أنه يحاول دائما، ويختلف الناس في تشخيص المصداق أيضا..

الهيكل التنسيقي

سنحاول الابتعاد عن العرض تحت طائلة المنهج الإسلامي بصورة بحتة، مع أن الإشكال موجه بصورة مباشرة للأديان مباشرة، وسأحاول قدر الإمكان أن أبتعد عن المفردات الفلسفية المعقدة وتبسيط المسألة قدر الإمكان، حيث إننا كنا قد قدمنا عرضا علميا فلسفيا في بحث الفواعل الاختيارية سابقا.

سيحمل بحثنا بين ثناياه المباحث التالية:

  • عرض الإشكالية بصورة ممنهجة
  • القضاء والقدر لغة واصطلاحا
  • تقديم تفسير نظري للمقولة
الإشكالية

أشار جميع من تناول المسألة إلى الغموض الذي يكتنف البنيان النظري لمقولة القضاء والقدر، خاصة مع تحذير بعض النصوص من عمق وصعوبة المسألة والتوجيه للتسلح بأقصى حالات الدقة والحذر.

لقد وصف أحد الباحثين الطابع الإعضالي لمسألة القضاء والقدر بقوله: "وهي من المسائل التي توجه المسلمون إليها في الصدر الأول كما يظهر من الآثار، ثم اتسعت دائرتها باتساع الآراء والأنظار حتى أصبحت عند الناس من المعضلات التي لا تنحل".

لعل الجانب الأكبر من التعقيد والغموض الذي اكتسبته المسألة يعود إلى الالتباس الناشئ عن تصور التعارض بين الحرية الإنسانية والإيمان بالقضاء والقدر. من هذا المنطلق قدم السيد الطباطبائي صاحب تفسير الميزان صياغة للمرتكز العلمي الذي تصدر منه إشكالية التعارض: "إن من أقدم المباحث التي وقعت في الإسلام موردا للنقض والإبرام وتشاغبت فيه الأنظار، مسألة الكلام (كلام الله) ومسألة القضاء والقدر، إذ صوروا معنى القضاء والقدر واستنتجوا نتيجة، فإذا هي أن الإرادة الإلهية الأزلية تعلقت بكل شيء من العالم فلا شيء من العالم موجودا على وصف الإمكان، بل إن كان موجودا فبالضرورة، لتعلق الإرادة بها واستحالة تخلف مراده تعالى عن إرادته، وإن كان معدوما فبالامتناع لعدم تعلق الإرادة بها وإلا لكانت موجودة. وإذا اطردت هذه القاعدة في الموجودات وقع الإشكال في الأفعال الاختيارية الصادرة منا، فإنا نرى في بادئ النظر أن نسبة هذه الأفعال وجودا وعدما إلينا متساوية، وإنما يتعين واحد من الجانبين بتعلق الإرادة به بعد اختيار ذلك الجانب من قبل الإنسان فأفعالنا اختيارية والإرادة مؤثرة في تحققه سبب في إيجاده، ولكن فرض تعلق الأرادة الإلهية الأزلية المستحيلة التخلف بالفعل يبطل اختيارية الفعل أولا، وتأثر إرادتنا في وجود الفعل ثانيا".

لقد ووجهت هذه الإشكالية بحلول ومعالجات تنوعت بتنوع المنطلقات المعرفية والمنهجية.

وكاستعراض سريع سأعرض لمنهج القرآن لمعالجة المشكلة، ثم الحديث الشريف:

  • القرآن الكريم
للقضاء في القرآن الكريم أوجه متعددة بتعدد الاستعمالات، ولكن بعض العلماء لاحظ أن هذه الأوجه ليست معاني موضوع لها اللفظ بالاشتراك اللفظي، بل بعضها داخل في البعض فجاء ذكرها من باب اشتباه المفهوم بالمصداق، كما أن بعضها الآخر غير ثابت في نفسه.

العنصر المهم الذي يلحظ في مثل قوله سبحانه وتعالى: "وإذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون"، أن القضاء الإلهي إذا انبسط على شيء فلا يتخلف والمقضي عنه، بمعنى أنه إذا ما اقتضت الإرادة الإلهية شيئا فلا يمكن أن يتخلف المراد.

ثم عنصر آخر حري بالتثبيت يعزى إلى بعض اللغويين، ذهب فيه إلى أن استعمالات القضاء ترجع نهاية المطاف إلى حقيقة واحدة، وما المعاني المتعددة إلا تنوعات في مصاديق تلك الحقيقة أو ذلك المعنى، وهو ما قد ينفعنا في الأجزاء اللاحقة من البحث.

أما القدر فقد جاء استعماله هو الآخر بكثافة في القرآن الكريم، حيث تفاوتت معانيه تبعا لتنوع الاستعمالات، وكما ورد القضاء في الآيات الكريمة، ورد القدر أيضا، فثم في آيات القدر ما يفيد وجود القدر في أمر الله، قوله تعالى: "وكان أمر الله قدرا مقدورا" بمعنى القضاء الحتم، ليجتمع بذلك القدر والقضاء في أمر الله.

بهذا يتضح أن البت والإمضاء أوضح معاني القضاء في الاستعمال القرآني كما أن التقدير أو مبلغ الشيء وحدّه ومقداره هو أوضح معاني القدر.

  • الحديث الشريف:
عند الانتقال إلى الحديث الشريف، نلحظ أن الكتب والمجاميع الحديثية قد توفرت على رصد وتتبع عشرات الأحاديث عن القضاء والقدر، نعرض فيما يلي بعضها:

  1. عن الإمام علي عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: لا يؤمن عبد حتى يؤمن بأربعة: حتى يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأني رسول الله بعثني بالحق، وحتى يؤمن بالبعث بعد الموت، وحتى يؤمن بالقدر". الملفت في النص أن النبي صلى الله عليه وآله يجعل الإيمان بالقدر في مصاف الأصول الثلاثة التوحيد والنبوة والمعاد.
  2. عن الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام: "قال رسول الله صلى الله عليه وآله: ستة لعنهم الله وكل نبي مجاب: الزائد في كتاب الله، والمكذب بقدر الله" حتى عد تمام الستة.
  3. عن الإمام الكاظم عليه السلام: "لا يكون شيء في السماوات والأرض إلا بسبعة: بقضاء وقدر وإرادة ومشيئة وكتاب وأجل وإذن، فمن قال غير هذا فقد كذب على الله، أو رد على الله عز وجل"
  4. عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: "ما من قبض ولا بسط إلا وفيه مشيئة وقضاء وابتلاء". وهذا الحديث فيه إشارة إلى أن القضاء يجري في كل شيء ولا يشذ عن فعل ولا حركة ولا سكنة، وهذا يؤيد عمومية القدر والقضاء على مستوى الفواعل الطبيعية والإرادية.
لغويا واصطلاحيا

يرجع المعنى اللغوي للقدر إلى بيان كمية الشيء ومبلغه. يقول الراغب الأصفهاني في كتابه: "والقدر والتقدير تبيين كمية الشيء، يقال: قدَرْته وقدّرته، وقدّر الشيء بالتشديد أعطاه القدرة.. فتقدير الله الأشياء على وجهين، أحدهما: بإعطاء القدرة، والثاني: بأن يجعلها على مقدار مخصوص ووجه مخصوص حسبما اقتضت الحكمة".

أما بشأن مصطلح القضاء المشتق من الفعل "قضى"، فما يلحظ أن المصادر اللغوية تسجل في معناه أنه: الحكم. كما تشير إلى استعماله في وجوه متعددة. جاء في المفردات للراغب: "القضاء: فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، وكل واحد منهما على وجهين: إلهي وبشري. فمن القول الإلهي: "وقضى ربط ألا تعبدوا إلا إياه" أي أمر بذلك، وقال: "وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب" فهذا قضاء بالإعلام والفصل في الحكم، أي أعلمناهم وأوحينا إليهم وحيا جزما..."

بإمكاننا أن نسجل على الاستعمال اللغوي للقدر والقضاء الملاحظات التالية:
  1. إن العنصر الأبرز في معنى القدر هو التقدير والتمييز وأخذ الحد، هو ما يرمي بظلاله على بقية الاستعمالات. أما العنصر الأبرز الذي أخذ في معنى القضاء فهو فصل الأمر والحكم فيه وبته وإمضاؤه. وهذا المعنى يرمي بظلاله على بقية الاستعمالات برغم تنوعها.
  2. رغم ما أشارت إليه مصادر اللغة من تعدد معاني "القضاء" أو استعمالاته، إلا أن فيها من بت برجوعها إلى مرتكز واحد وهو المعنى الأساسي والبقية مصاديق له.
  3. ما يتبين في ضوء المعنى اللغوي أن القضاء أخص من القدر والقدر أعم منه، وأن بينهما علاقة وثيقة حيث ينبني القضاء على القدر. يقول صاحب المفردات: "والقضاء من الله تعالى أخص من القدر لأنه الفصل بين التقدير، فالقدر هو التعقدير والقضاء هو الفصل والقطع. وقد ذكر بعض العلماء أن القدر بمنزلة المعد للكيل والقضاء بمنزلة الكيل". هذه الملاحظة التي تقضي بأن القدر أعم من القضاء هو الأساس والمرتكز بالنسبة إليه، هي مما تنبه إليه النصوص الروائية عن الرسول والأئمة، على نحو واضح ودال، حيث دأب بعضها على تقديم القدر على القضاء انسجاما مع روح المعنى.
  4. يتحول المعنى في مرحلة إلى اساس صلب للمعنى الاصطلاحي، إذ هو بمنزلة البذرة التي تبلور المعنى الاصطلاحي، الذي يأتي غير بعيد عن اللغوي، فيسهل بناء نظرية التفسير على نحو منسجم لا تتعارض فيه المعاني اللغوية والاصطلاحية والمفهومية لمقولة القدر والقضاء.
الترابط اللغوي والاصطلاحي

إن الانتقال من اللغوي إلى الاصطلاحي وتأسيس الدلالة المفهومية في ضوء الدلالة اللغوية سيبدو أكثر وضوحا مع محاولة أخرى لصاحب الميزان، السيد محمد حسين الطباطبائي الحكيم. فعندما يدرس القضاء في بحث من عدة فصول، يفتتح الفصل الأول بالعنوان التالي: "في تحصيل معناه وتحديده" حيث يقول: "إنا نجد الحوادث الخارجية والأمور التكوينية (أي الأمور المتكونة في الواقع الموضوعي الخارجي لا تكونها بصورة ذهنية فقط) بالقياس إلى عللها والأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين، فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها والشرائط وارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها وتحققها، لا يتعين لها التحقق والثبوت ولا عدمه، بل يتردد أمرها بين أن تتحقق وأن لا تتحقق من رأس.

فإذا ما تمت عللها الموجبة لها وكملت ما تتوقف عليه من الشرائط وارتفاع الموانع ولم يبق لها إلا أن تتحقق، خرجت من التدرر والإبهام وتعين لها أحد الطرفين وهو التحقق أو عدم التحقق. إن فرض انعدام شيء مما يتوقف عليه وجودها. ولا يفارق تعين التحقق نفس التحقق".

قبل متابعة النص حتى نهايته نقف دقيقة لإيضاحه من خلال المثال المشهور. فعندما نأخذ قطعة من ورق، فهي تحترق بالنار دون ريب، لكن متى؟ هي تحترق إذا توافرت لها جميع الشرائط وارتفعت عنها جميع الموانع ووجد المقتضي، وإلا فهي بلا مرجح لها حتى تحترق أو لا تحترق. فإذا ما وجدت النار، وتحقق الشرط بالتماس، وارتفع المانع متمثلا بالرطوبة أو البلل مثلا، فحينئذ يصير تحقق الاحتراق أمرا ضروريا بالطبيعة، لتخرج من عدم الترجيح إلى طرف التحقق الذي هو الاحتراق، وهذا مثال جيد على الاحتمال المشروط، فإن احتراق الورقة هو عبارة عن حادث مستقل عن الرطوبة والنار والتماس، وكل واحد منها هو حادث مستقل عن الآخر، فالنار هو حادث مستقل عن الرطوبة وكذلك عن التماس وعن الورقة، ولكن بحدوث الشرط وزوال المانع عن الاحتراق، يحدث الاحتراق أي الاحتمالية تزيد.

هذان الاعتباران كما يجريان في الفواعل الطبيعية والأمور التكوينية، فهما يسريان في أفعالنا الخارجية أيضا. فإذا وجدت الإرادة وتوافرت الشرائط وارتفعت الموانع، فإن المراد يتحقق خارجا بالضرورة. أما إذا انتفى جزء من هذه الأجزاء -أي جزء من أجزاء العلة التامة- فإن المعلول ينتفي في الخارج أيضا، حيث نقرأ في تتمة النص السالف: "والاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية. فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان مترددا بين أن يقع أو لا يقع. فإذا اجتمعت الاسباب والأوضاع المقتضية وأتممناها بالإرادة والإجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع والصدور، عينا له أحد الجاننبين فتعين له الوقوع".

لا تقتصر هذه القاعدة على أعمالنا الخارجية وحدها بل تطرد في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كذلك. فإذا اختصر اثنان في ملكية مال، كل يدعيه لنفسه، كان أمر ملكيته مرددا بين أن يكون لهذا أو ذاك. فإن رجع المتنازعان إلى حكم فحكم لأحدهما دون الآخر، فإن في الحكم فصلا للأمر وإخراجا له عن الإبهام والتردد وتعيين أحد الجانبين، بقطع رابطته مع الآخر.

هذا المعنى في الفصل والتعيين كما يسري في الفعل، يسري في القول أيضا، وهذه الممارسة المتمثلة بالبت والإمضاء هي التي نطلق عليها عنوان القضاء.

على أن المغزى نفسه بالاعتبارين المشار إليهما آنفا، يدخل في معنى القضاء الإلهي، على ما يوضحه صاحب الميزان بقوله الذي يأتي بعد تلك المقدمات: "ولما كانت الحوادث في وجودها وتحققها مستندة إليه سبحانه وهي فعله، جرى فيها الاعتباران بعينهما، فهي ما لم يرد الله تحققها ولم يتم لها العلل والشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع واللاوقوع. فإذا شاء الله وقوعها وأراد تحققها فتم لها عللها وعامة شرائطها ولم يبق لها إلا أن توجد، كان ذلك تعيينا منه تعالى وفصلا لها من الجانب الآخر وقطعا للإبهام، ويسمى قضاء من الله".

نفس المنحى نلمسه في بحث صاحب الميزان عن القدر، حيث ينسجم المعنى اللغوي مع المعنى الاصطلاحي. يقول انطلاقا من التحديدات اللغوية: "وهذا القدر هو الذي بسببه يتعين الشيء ويتميز من غيره، ففي زيد مثلا شيء به يتميز من عمرو وغيره من أفراد الإنسان، ويتميز من الفرس والبقر والأرض والسماء، ويجوز لنا به أن نقول: ليس هو بعمرو ولا بفرس والبقر والأرض والسماء، ولولا هذا الحد لكان هو هي وارتفع التمييز.

وكذلك ما عنده -أي زيد- من القوى والآثار والأعمال محدودة مقدرة، فليس إبصاره مثلا إبصارا مطلقا في كل حال وفي كل زمان وفي كل مكان ولكن شيء وبكل عضو مثلا، بل إبصار في حالة وزمان ومكان خاص ولشيء خاص وبعضو خاص وعلى شرائط خاصة، ولو كان إبصارا مطلقا لأحاط بكل إبصار خاص وكان الجميع له، ونظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده وتوابعه.

التفسير النظري وحل الإشكال

يقر الملحدون بمبدأ السببية، حيث إنه مبدأ مطرد في هذا الكون وقد وجده الإنسان بالبديهة وبالتجربة على حد سواء، ولولا إيماننا بهذا المبدأ لما استطعنا أن نثق بأي تجربة ناجحة أن تكون نتيجتها مطردة في جميع الأوقات.

فليس القدر والقضاء أكثر من كونهما جزءا من قانون السببية، وليسا شيئا وراء السنن الإلهية الجارية في الوجود. هذا هو جوهر نظرية التفسير التي تنحل على ضوئها إشكالية التعارض بين حرية الإنسان في الإرادة والاختيار وتحديد المصير من خلال فعله وبين الإيمان بالقدر والقضاء، بحيث لا يغدو هذا الإيمان منسجم مع الفعل الإنساني وحسب، وإنما يتحول إلى محفز للإنسان على بذل المزيد من الجهد عبر اكتشاف القوانين المودعة في الطبيعة، وفهم العلاقات العقلانية التي تنظم الحياة والوجود الإنساني والقوانين الفيزيائية التي تحكم الطبيعة.

ربما كان أفضل مؤشر يؤكد هذا المعنى للقدر والقضاء هو ما حفلت به النصوص الروائية من عدّهما جزءا من علل الفعل، كما في الحديث الشريف: "لا يكون شيء في الأرض ولا في السماء إلا بهذه الخصال السبع: بمشيئة وإرادة وقدر وقضاء وإذن وكتاب"، كذلك ما النبي والشريف: "إن الله عز وجل قدر المقادير ودبر التدابير قبل أن يخلق آدم بألفي عام"، وفي آخر: "قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة". ففي الحديث إشارة إلى أن الله سبحانه قد خلق العالم وأرساه على نظام مخصوص وقانون محدد، القدر والقضاء جزءان لا ينفكان من بنيانه التكويني.

والطابع أوضح حينما نرجع لآيات القرآن الكريم: (ولن تجد لسنة الله تبديلا ولن تجد لسنة الله تحويلا)، ليست قليلة هي الآيات التي تتحدث عن السنن التي تنظم عالم الخليقة ونظام التكوين وتضبط مسار التأريخ وحركة الاجتماع الإنساني على الأرض، إن هذه المسألة لها خلفية عريقة في فكر المسلمين، وقد ازدهرت في القرن الأخير كثيرا، إذ لا يكاد يخلو منها كتاب من كتب التفسير أو الفكر العام ذي الصلة بقضايا المجتمع والتغيير وفلسفة التاريخ. على مستوى التفسير ضمت مشروعات محمد عبدة وعبد الحميد بن باديس ومحمد حسين الطباطبائي والطاهر بن عاشور بحوثا لامعة على هذا الصعيد. أما على مستوى الفكر الاجتماعي وفلسفة التأريخ، فمن الحري الإشارة إلى: تفسير التأريخ، لعبد الحميد صديقي وهي محاولة رائدة كتبت باللغة الإنكليزية وصدرت مطلع الخمسنيات لتكون بمنزلة البذرة التأسيسية لهذا النحو من التنظير في ثقافة الإسلاميين المعاصرة. ثم جاءت محاولة السيد الشهيد محمد باقر الصدر: السنن التأريخية في القرآن التي صدرت في إطار المدرسة القرآنية، وكذلك المجتمع والتأريخ: للشيخ مرتضى مطهري.

إسهامات المفكرين الإسلاميين

بعد أن قورب القضاء والقدر بنظام السببية والنواميس والسنن التي تنظم الوجود وعالم الخليقة، وأن ذلك كله مسجل في اللوح المحفوظ، وبعد أن كان الإنسان مزودا بالعقل كي يكتشف هذه السنن ويعيها، وبحرية الاختيار التي بها يتبع من السنن ما يفضي به إلى السعادة ويجتنب به الشقاء. إن انبساط القضاء في كل شيء بما في ذلك الإنسان، وإيمان الإنسان بالقدر والقضاء وأن كل شيء مسجل في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى، لا يعني إبطال الإرادة وأن ينقلب الاختيار إلى ضده وتتحول المشيئة عن حقيقتها، لماذا، يجيب الشيخ كاشف الغطاء نصا: "فإنه كتب في سجل التكوين لا التشريع أن سيفعل كذا وأنه يختار كذا، لا عتب عليه أن يفعل كذا وأن يختار كذا... والفرق بين العبارتين كالفرق بين الحقيقتين في غاية الجلاء والوضوح. وقد أصبح اليوم من الجليات أن العلم لا أثر له في المعلوم وأن المعلوم يوجد بأسبابه وسلسلة علله لا بعلم العالم وجهل الجاهل"

ما دام القدر والقضاء تعبيرا عن نظام السببية، وما دام السعي والنشاط والجد والجهد والعزيمة الثبات والمداومة على الطلب "قد جعلها الله جل شأنه أسبابا للنجاح وقرن بها حصول الغايات المطلوبة في سائر الأعمال، وصيرها مجاري لرزقه وتوفيقه ومفاتيح رحمته، فإن العناية جلت حكمتها قضن وأبت إلا أن تكون الأمور منوطة بالأسباب المتكانفة والوسائط المترامية، وأن لا تحصل للإنسان غاية إلا بالسعي إليها من أبوابها وجرها بسلسلة أسبابها"، وما دام كذلك بلا يحتج بأنه لماذا الله يرزق الكافر وما إلى ذلك، فإن الله لا يجري الأشياء إلا بأسبابها وهو مقتضى الحكمة والإرادة الإلهية، "فإنه لا يجري القضاء والقدر على أمة أو فرد إلا على حسب مساعيها وقدر جدها واتفاق كلمتها". أجل، فإن الإنسان هو الذي يصنع مصيره بيده عبر التوسل بنظام الاسباب ومن خلال العقل المودع فيه وعبر إرادته، وإن الأمم هي التي تختار الحاضر والمستقبل الذي تريده عبر اكتشاف سنن الله الجارية في المجتمع والـتأريخ والطبيعة، ومن ثم يجوز القول إن الأفراد والأمم هم الذين يصنعون أقدارهم وأقضيتهم بأيديهم بما لا يشذ عن علم الله، من دون تناف بين الاثنين، لأن الله جل جلاله هو الذي يسر الإنسان للسعي وأوجد له الاسباب ومهد له السبل ووهبه العقل وحرية الاختيار.

وبتعبير جميل للسيد محمد باقر الصدر: إن جريان السنن والنواميس في الوجود وعالم الخليقة الإنسانية، وما تمليه من روابط وعلاقات بين أجزاء الوجود وفي حركة الإنسان والمجتمع ومسار التأريخ، إنما هو: "في الحقيقة تعبير عن حكمة الله سبحانه وتعالى، وحسن تقديره وبنائه التكويني" للوجود والطبيعة وعالم الخليقة. وبالتالي يكون القدر جزءا من البناء التكويني للطبيعة والوجود الإنساني، فإن ذلك لا يعني تجميد إرادة الإنسان وتعطيل حريته بالاختيار، عبر وهم مصادرة هذه الإرادة والحرية بفكرة السنة والناموس، خاصة على مستوى الفواعل الاختيارية التي يأتي الإنسان في طليعتها، وهو يصنع وجوده في التأريخ ويؤسس لمجتمعه، وذلك لأن هذه السنن "لا تجري من فوق رأس الإنسان، بل تجري من تحت يده".

لا أود أن أطيل على القارئ الكريم، فإن استقصاء جميع آثار المفكرين الإسلاميين في هذا الإطار طويلة الذيل، ويلا يتسع لها المقام. ولكني أريد أن أستلهم من مجموع النصوص للمفكرين الإسلاميين حلا للإشكال المطروح وهو تعطيل الفعل الإنساني.

حل الإشكالية

من خلال مساهمات الفكر الإسلامي، وفي ضوء المعالم التي رسمتها لنظرية التفسير يمكن العبور إلى معالجة الإشكالية المثارة. فبعد وضع القدر والقضاء في نطاق نظام السببية العام وتفسيرهما على أساس انبساط مبدأ العلية والمعلولية في العالم، ومقاربتهما بالسنن والنواميس الجارية في نظام الوجود وعالم الخليقة الإنسانية، لا معنى للتعارض بين الإيمان بهما كعقيدة راسخة لا مناص عنها وبين الإرادة والاختيار الإنساني.

وللتوضيح، أن الاختيار الإنساني هو بنفسه جزء من أجزاء هذا العالم يسري فيه القدر والقضاء، ومن ثم هو مشمول بنظام السببية العام وبسنن الله ونواميسه. ففعل الإنسان لا يقع خارجا إلا إذا اختاره الإنسان وأراده. إذا فافعل الإنساني ومن ورائه الإرادة والاختيار اللذان ينتجانه لا يتصادم مع الغيمان بعقيدة القدر والقضاء، لأنه يندرج في إطار مبدأ السببية ونظام السنن.

إن إثبات فاعلية الإنسان لا يتعارض مع الإرادة والمشيئة الإلهية، حيث قوله سبحانه: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين"، لأن المشيئة الإلهية تتحرك ضم نقانون القدر والقضاء، أي ضمن قانون الأسباب والمسببات ومن خلال مبدأ السنن الإلهية والنواميس الربانية المودعة في الوجود والحياة. أكثر من ذلك نجد أن العلاقة بين الاثنين تتجاوز تخوم عدم التعارض، إلى أن يتحول الإيمان بالقدر والقضاء إلى أساس لصيرورة الاختيار الإنساني ضروريا، لا أنه يسلب الإنسان اختياره، على ما هي عليه النظرة المألوفة الخاطئة، لأن من قضاء الله وقدره أن يكون الإنسان مختارا في أفعاله، فلو صدر منه فعل من غير اختيار لكان ذلك منافيا للقدر والقضاء الإلهي.

إشكالية فرعية

القول إن نظام الخليقة والوجود محكوم بسنن وقوانين ضرورية، هل يعني التفويض وأن الخالق جل وعلا كف يده عن الوجود؟ هذه الإشكالية قد تفضي إلى الإلحاد الربوبي إن صح التعبير، وذلك بنصب نظام السببية إلها، وذلك عين ما تورطت به بعض التيارات العقلانية الأوربية بعد عصر النهضة ومن تأثر بها من المسلمين.

إن إثبات قانون السببية وتفسير القدر والقضاء لا يعني أن هذه القوانين والسنن ضرورية في نفسها مستغنية عن الله تعالى، ومن ثم لا تعني قطع علاقة الكون والوجود والحاية بالله بعد أن استغنت عنه بهذه القوانين والسنن، كما أنها لا تعني أن لها من الحاكمية ما تفرض به إرادتها على خالقها سبحانه. لنتمعن مدلولات هذا النص جيدا للسيد الطباطبائي صاحب الميزان: "قد بين القرآن الشريف على ما فهم من ظواهره قوانين عامة كثيرة في المبدأ والمعاد وما رتبه الله تعالى من أمر السعادة والشقاوة، ثم خاطب النبي صلى الله عليه وآله بقوله: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء). لكنها جميعا قوانين كلية ضرورية، إلا أنها ضرورية لا في أنفسها وباقتضاء من ذواتها، بل بما أفاده الله سبحانه عليها من الضرورة واللزوم"

إن دوران قانون السببية العام في الظواهر وعملها من خلال نواميس وسنن، لا يعني أن الأمر قد خرج عن إرادة الله ومشيئته وقدرته وأن هذه القوانين والسنن تعمل بنفسها وعلى نحو مستقل من دون استعانة بالله أو بغير إذنه ومشيئته. كلا، ففي الوقت الذي لا نقبل النظرية الجبرية، فنحن في بحثنا عن الفواعل الاختيارية رفضنا نظرية التفويض، مع ما ثبت من أن هذا العالم هو عالم الأسباب والمسببات، وهذا ما نجده بالوجدان والتجربة، فإن كل شيء محتاج إليه حدوثا وبقاء، في كل آن آن، ولو انقطع الفيض الإلهي عنها لحظة لتلاشت وتحولت إلى الفناء والعدم، لأنها وجميع الوجودات الممكنة ليست مفتقرة محتاجة وحسب، بل هي عين الفقر والحاجة (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد).

سأكتفي بالبحث لهذا الحد ولن أدخل في الأبعاد الاجتماعية والسياسية لهذه النظرية، إن بحث الآثار التربوية والاجتماعية لابد أن يكون بحثا مستقلا ويأخذ مساحة كبيرة، ولهذا سنستغني عنه ما دامت النظرية قد اتضحت للقارئ الكريم.

بالدمج بين ما اتضح في بحث الفواعل الاختيارية وبحث القضاء والقدر نستطيع أن نفهم وبكل سهولة أن الاشكالات التي وردت في مدونة وليد في بحثه الأخير هي إشكالات نابعة من عدم فهم كامل للفكر الإسلامي بل وعدم اطلاع أيضا، وأعود مرة أخرى لأدعو وليد وجاد لقراءة الفكر الإسلامي مرة أخرى وأن يبتعدوا عن الطريقة التهكمية التي لا تفضي إلى نتيجة في بحث علمي، بل تجعلنا نتيه في مجاهيل التعصب.

بحثنا التالي سيدرس مسألة النظام الأحسن وإشكالية الشرور، وهي الإشكالية الماقبل الأخيرة للمدون وليد كان قد طرحها، وبعد ذلك فلسفة الخلق التي سنؤجل الحديث عنها حتى نتكلم عن الرؤية الإسلامية للعالم.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق