الحلقة العاشرة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

مشكلتان:

الملاحظ أن الدليل الاستقرائي العلمي لإثبات الصانع تعالى لم يلق قبولا عاما على صعيد الفكر الأوربي وأنكره فلاسفة كبار أمثال "رسل" ولعل السبب في ذلك يعود إلى عدم قدرة هؤلاء المفكرين التغلب على مشكلتين أساسيتين تعترضان هذا النحو من الدليل:

المشكلة الأولى: انه قد يلاحظ أن البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم تبعا لمنهج الدليل الاستقرائي هو أن تكون كل ظاهرة من الظواهر المتوافقة مع مهمة تيسير الحياة ناتجة عن ضرورة عمياء في المادة بان تكون المادة بطبيعتها وبحكم تناقضاتها الداخلية وفاعليتها الذاتية هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر والمقصود من الدليل الاستقرائي تفضيل فرضية الصانع الحكيم على البديل المحتمل لأن تلك لا تستبطن إلا افتراضا واحدا وهو افتراض الذات الحكيمة بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة بعدد الظواهر موضوعة البحث فيكون احتمال البديل احتمالا لعدد كبير من الوقائع والصدف فيتضاءل حتى يفنى غير أن هذا إنما يتم إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنة لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضا مع انه قد يبدو أنها مستبطنة لذلك لان الصانع الحكيم الذي يفسر كل تلك الظواهر في الكون يجب أن نفترض فيه علوما وقدرات بعدد تلك الظواهر وبهذا يكون العدد الذي تستبطنه هذه الفرضية من هذه العلوم والقدرات بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء فأين التفضيل؟ وقبل الإجابة على هذه المشكلة لابد من بيان الفرق بين الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلة.

الاحتمالات المشروطة والمستقلة:

إذا كان ( أ ) و ( ب ) حالتين محتملتين فقد تكون قيمة احتمال ( ب ) إذا افترضنا وجود ( أ ) اكبر من قيمة احتمال ( ب ) إذا لم نفترض وجود أ مثال ذلك إن نجاح الطالب في المنطق حالة محتملة ونجاحه في الرياضيات حالة محتملة أيضا غير إنا إذا افترضنا أن الطالب قد نجح في المنطق فسوف يكبر احتمال أن ينجح في الرياضيات على أساس ما يكشف عنه النجاح في المنطق من كفاءة عالية والعكس صحيح أيضا بمعنى إنا إذا افترضنا أن الطالب قد نجح في الرياضيات فعلا فسوف يكبر احتمال أن ينجح في المنطق وكل احتمال يتأثر بافتراض صدق احتمال أخر يسمى احتمالا مشروطا فإذا أردنا أن نعرف قيمة احتمال أن ينجح الطالب في المنطق والرياضيات معا فلابد أن نضرب قيمة احتمال نجاحه في المنطق بقيمة احتمال نجاحه في الرياضيات على افتراض نجاحه في المنطق وفقا لبديهة الاتصال القائلة أن درجة احتمال تفوق الطالب في المنطق والرياضيات في وقت واحد يساوي درجة احتمال تفوقه في المنطق متفوقا في الرياضيات فإذا رمزنا إلى النجاح في المنطق ب ( أ ) والى النجاح في الرياضيات ب ( ب ) والى الانتماء إلى المدرسة ب ( ج ) حصلنا على المعادلة التالية: قيمة احتمال ( أ ) و ( ب ) معا= قيمة احتمال أ/ح ضرب ب/ ج+ أ وهناك احتمالات غير مشروطة لا يتأثر بعضها بافتراض صدق الأخر من قبيل احتمال أن ينجح خالد في المنطق واحتمال أن ينجح في الرياضيات ويسمى هذا النوع من الاحتمالات بالاحتمالات المستقلة.

إذا اتضحت هذه المقدمة نقول جوابا عن المشكلة الأولى إن التفضيل ينشأ من أن هذه الضرورات العمياء غير مترابطة، بمعنى أن افتراض أي واحدة منها يعتبر حياديا تجاه افتراض الضرورة الأخرى وعدمها وهذا يعني في لغة حساب الاحتمال أنها حوادث مستقلة وان احتمالاتها احتمالات مستقلة وأما العلوم والقدرات التي يتطلبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر موضوعة البحث فهي ليست مستقلة لأن ما يتطلبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلبه صنع بعض أخر من علم وقدرة فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات ليس حياديا تجاه افتراض بعضها الأخر بل يستبطنه أو يرجحه بدرجة كبيرة وهذا يعني بلغة حساب الاحتمال أن احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات مشروطة أي إن احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الأخر كبير جدا وكثيرا ما يكون يقينا وحينما نريد أن نقيم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات واحتمال مجموعة تلك الضرورات ونوازن بين قيمتي الاحتمالين يجب أن نتبع قاعدة ضرب الاحتمال المقرر في حساب الاحتمال بان نضرب قيمة احتمال كل عضو في المجموعة بقيمة احتمال عضو أخر فيها وهكذا والضرب كما نعلم يؤدي إلى تضاؤل الاحتمال وكلما كانت عوامل الضرب اقل عددا كان التضاؤل اقل وقاعدة الضرب في الاحتمالات المشروطة والاحتمالات المستقلة تبرهن رياضيا على انه في الاحتمالات المشروطة يجب أن نضرب قيمة احتمال عضو بقيمة احتمال عضو أخر على افتراض وجود العضو الأول وهو كثيرا ما يكون يقينا او قريبا من اليقين فلا يؤدي الضرب إلى تقليل الاحتمال إطلاقا أو إلى تقليله بدرجة ضئيلة جدا خلافا للاحتمالات المستقلة التي يكون كل واحد منها حياديا تجاه الاحتمال الأخر فان الضرب هناك يؤدي إلى تناقص القيمة بصورة هائلة ومن هنا ينشا تفضيل احد الافتراضين على الأخر.

المشكلة الثانية: هي المشكلة التي تنجم عن تحديد قيمة الاحتمال القبلي للقضية المستدلة استقرائيا ولتوضيح ذلك يقارن بين تطبيق الدليل الاستقرائي لإثبات الصانع وتطبيقه في المثال السابق لإثبات أن الرسالة التي تسلمتها بالبريد هي من أخيك ويقال بصدد هذه المقارنة أن سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بأن الرسالة قد أرسلها أخوه تتأثر بدرجة احتمال هذه القضية قبل أن يفض الرسالة ويقرأها وهو ما نسميه بالاحتمال القبلي للقضية فإذا كان قبل أن يفتح الرسالة يحتمل بدرجة خمسين في المائة مثلا أن أخاه يبعث إليه برسالة فسوف يكون اعتقاده بأن الرسالة من أخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعا بينما إذا كان مسبقا لا يحتمل أن يتلقى رسالة من أخيه بدرجة معتد بها إذ يغلب على ظنه مثلا بدرجة عالية من الاحتمال انه قد مات فلن يسرع إلى الاعتقاد بان الرسالة من أخيه ما لم يحصل على قرائن مؤكدة فما هو السبيل في مجال إثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟ والحقيقة إن قضية الصانع الحكيم سبحانه وتعالى ليست محتملة وإنما هي مؤكدة بحكم الفطرة والوجدان ولكن لو افترضنا أنها قضية محتملة نريد إثباتها بالدليل الاستقرائي فانه يمكن أن نقدر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية:

نأخذ كل ظاهرة من الظواهر موضوعة البحث بصورة مستقلة فنجد أن هناك افتراضين يمكن أن نفسرها بأي واحد منهما:

  1. افتراض صانع حكيم.
  2. افتراض ضرورة عمياء في المادة.

وما دمنا أمام افتراضين ولا نملك أي مبرر مسبق لترجيح احدهما على الأخر فيجب أن نقسم رقم اليقين عليهما بالتساوي فتكون قيمة كل واحد منهما خمسين في المائة ولما كانت الاحتمالات التي في صالح فرضية الصانع الحكيم مترابطة ومشروطة والاحتمالات التي في صالح فرضية الضرورة العمياء مستقلة وغير مشروطة فالضرب يؤدي باستمرار إلى تضاؤل شديد في احتمال فرضية الضرورة العمياء وتصاعد مستمر في احتمال فرضية الصانع الحكيم.

وهكذا ننتهي إلى حقيقة أساسية هي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير فان هذا الاستدلال كأي استدلال علمي أخر استقرائي بطبيعته وتطبيق للطريقة العامة التي حددها السيد الشهيد الصدر للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه فالإنسان بين أمرين فهو إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل وإما أن يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي.

ختاما

يتبرهن أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي ولا يمكن من وجهة النظر المنطقية للاستقراء الفصل بينهما وهذا الارتباط المنطقي بين مناهج الاستدلال العلمي والمنهج الذي يتخذه الاستدلال على إثبات الصانع بمظاهر الحكمة قد يكون هو السبب الذي أدى بالقران الكريم إلى التركيز على هذا الاستدلال من بين ألوان الاستدلال المتنوعة على إثبات الصانع تأكيدا للطابع التجريبي والاستقرائي للدليل على إثبات الصانع، إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما انزل الله من السماء من ماء فأحيى به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون.

والحمد لله رب العالمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق