الله (الإيمان بالله سبحانه وتعالى)

بسم الله الرحمن الرحيم


توصل الإنسان إلى الإيمان باللّه منذ أبعد الأزمان وعبده وأخلص له وأحس بارتباط عميق به قبل أن يصل إلى أي مرحلة من التجريد الفكري الفلسفي أو الفهم المكتمل لأساليب الاستدلال.

ولم يكن هذا الإيمان وليد تناقض طبقي، أو من صنع مستغلين ظالمين تكريساً لاستغلالهم أو مستغلين مظلومين تنفيساً لهم، لان هذا الإيمان سبق في تاريخ البشرية أي تناقضات من هذا القبيل.

ولم يكن هذا الإيمان وليد مخاوف وشعور بالرعب تجاه كوارث الطبيعة وسلوكها المضاد، ولو كان الدين وليد خوف وحصيلة رعب لكان اكثر الناس تديناً على مر التاريخ هم أشدهم خوفاً وأسرعهم هلعاً، مع أن الذين حملوا مشعل الدين على مر الزمن كانوا من أقوى الناس نفسا وأصلبهم عودا.

وفي فترة تالية تفلسف الإنسان واستخلص من الأشياء التي تحوطه في الكون مفاهيم عامة كالوجود والعدم، والوجوب والإمكان والاستحالة، والوحدة والكثرة، والتركيب والبساطة، والجزء والكل، والتقدم والتأخروالعلة والمعلول - فاتجه على الأكثر إلى استخدام هذه المفاهيم وتطبيقها في مجال الاستدلال على نحو يدعم ذلك الإيمان الأصيل باللّه سبحانه وتعالى.

وحينما بدأت التجربة تبرز على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة وأدرك المفكرون أن تلك المفاهيم العامة لا تكفي بمفردها في مجال الطبيعة لاكتشاف قوانينها والتعرف على أسرار الكون، آمنوا بأن الحس والملاحظة العلميين هما المنطلق الأساس للبحث عن تلك الأسرار والقوانين.

وكان هذا الاتجاه الحسي في البحث مفيداً على العموم في تطوير الخبرة البشرية بالكون وتوسيعها إلى درجة كبيرة.

وقد بدأ هذا الاتجاه مسيرته بالتأكيد على أن الحس والتجربة أداتان من الأدوات التي ينبغي للعقل وللمعرفة البشرية أن تستعملهما في سبيل اكتشاف ما يحيط بالإنسان من أسرار الكون ونظامه الشامل، فبدلا عن أن يجلس مفكر إغريقي كارسطو مثلا في غرفته المغلقة الهادئة ويفكر في نوع العلاقة بين حركة الجسم في الفضاء من مكان إلى مكان والقوة المحركة فيقرر أن الجسم المتحرك يسكن فور انتهاء القوة المحركة، بدلا عن ذلك يباشر غاليليو تجاربه ويمارس ملاحظاته على الأجسام المتحركة ليستنتج علاقة من نوع آخر تقول: إن الجسم إذا تعرض لقوة تحركه فلن يكف عن الحركة حتى إذا انتهت تلك القوة إلى أن يتعرض إلى قوة توقفه.

وهذا الاتجاه الحسي يعني تشجيع علماء الطبيعة على التوصل إلى ذلك عن طريق مرحلتين:

أولاهما: مرحلة الحس والتجربة وتجميع معطياتها.
والأخرى: مرحلة عقلية وهي مرحلة الاستنتاج والتنسيق بين تلك المعطيات للخروج بتفسير عام مقبول.

ولم يكن الاتجاه الحسي في واقعة العلمي وممارسات العلماء له يعني الاستغناء عن العقل، ولم يستطع أي عالم من علماء الطبيعة أن يكتشف سراً من أسرار الكون أو قانوناً من قوانين الطبيعة عن طريق الحس والتجربة إلا بالعقل، إذ كان يجمع في المرحلة الأولى الملاحظات التي تزوده بها تجاربه وملاحظاته، ثم يوازن في المرحلة الثانية بينها بعقله حتى يصل إلى النتيجة، ولا نعرف فتحاً علمياً استغنى بالمرحلة الأولى عن الثانية ولم يمر بمرحلتين على هذا النحو حيث تكون قضايا المرحلة الأولى أموراً محسوسة وقضايا المرحلة الثانية أموراً مستنتجة ومستدلة يدركها العقل ولا تقع تحت الحس المباشر.

ففي قانون الجاذبية مثلا لم يحس نيوتن بقوة الجذب بين جسمين إحساساً مباشراً، ولم يحس بأنها تتناسب عكسياً مع مربع البعد بين مركزيهما وطردياً مع حاصل ضرب الكتلتين، وإنما أحس بالحجر وهو يسقط على الأرض إذا هوى، وبالقمر وهو يدور حول الأرض، وبالكواكب وهي تدور حول الشمس، وبدأ يفكر فيها معاً واستمر في محاولة عامة لتفسيرها جميعاً، مستعيناً بنظريات غاليليو في التعجيل المنتظم للأجسام الساقطة على الأرض والمتدرجة على السطوح المائلة، ومستفيداً من قوانين كبار التي تتحدث عن حركة الكواكب والتي يقول في أحدها:

إن مربع زمن دوران كل كوكب حول الشمس يتناسب مع مكعب بعده عنه.

وعلى ضوء كل ذلك. اكتشف قانون الجاذبية فافترض قوة جذب بين كل كتلتين تتناسب وتتأثر بحجم الكتلة ودرجة البعد.

وكان بالإمكان لهذا الاتجاه الحسي والتجريبي في البحث عن نظام الكون أن يقدم دعماً جديداً وباهراً للإيمان باللّه سبحانه وتعالى، بسبب ما يكشفه من ألوان الاتساق ودلائل الحكمة التي تشير إلى الصانع الحكيم غير أن العلماء الطبيعيين بوصفهم علماء طبيعة لم يكونوا معنيين بإيضاح هذه القضية التي كانت لا تزال مسألة فلسفية حسب التصنيف السائد لمسائل المعرفة البشرية وقضاياها.

وسرعان ما نشأت على الصعيد الفلسفي وخارج نطاق العلم وما يجرى فيه نزعات فلسفية ومنطقية حاولت أن تفلسف أو تمنطق هذا الاتجاه الحسي، فأعلنت أن الوسيلة الوحيدة للمعرفة هو الحس وحيث ينتهي الحس تنتهي معرفة الإنسان، فكل مالا يكون محسوساً ولا يمكن تسليط التجربة عليه بشكل وآخر فلا يملك الإنسان وسيلة لإثباته.

وبهذا استخدام الاتجاه الحسي والتجريبي لضرب فكرة الإيمان باللّه تعالى، فما دام اللّه سبحانه ليس كائناً محسوساً بالإمكان رؤيته والإحساس بوجوده فلا سبيل إذن إلى إثباته ولم يكن هذا الاستخدام على يد العلماء الذين مارسوا الاتجاه التجريبي بنجاح، بل على يد مجموعة من الفلاسفة ذوي النزعات الفلسفية والمنطقية التي فسرت هذا الاتجاه الحسي تفسيراً فلسفياً أو منطقياً خاطئاً.

وقد وقعت هذه النزعات المتطرفة تدريجاً في تناقص:

فمن الناحية الفلسفية وجدت هذه النزعات نفسها مضطرة إلى إنكار الواقع الموضوعي أي إنكار الكون الذي نعيش فيه جملة وتفصيلا، لأننا لا نملك سوى الحس والحس إنما يعرفنا على الأشياء كما نحسها ونراها لاكما هي، فحين نحس بشيء يمكننا أن نؤكد وجوده في إحساسنا، وأما وجوده خارج نطاق وعينا وبصورة مستقلة وموضوعية ومسبقة على الإحساس فلا سبيل إلى إثباته، فحينما ترى القمر في السماء تستطيع أن تؤكد فقط رؤيتك للقمر وإحساسك في هذه اللحظة، وأما هل أن القمر موجود في السماء حقاً وهل كان له وجود قبل أن تفتح عينك وتراه فهذا ما وجد أصحاب تلك النزعات أنفسهم غير قادرين على تأكيده وأتباعه، تماماً كالأحول الذي يرى أشياء لاوجود لها، فهو يؤكد رؤيته لتلك الأشياء ولكنه لا يؤكد وجود تلك الأشياء في الواقع.

وبهذا قضت النزعة الحسية الفلسفية في النهاية على الحس نفسه كوسيلة للمعرفة واصبح الحد النهائي لها بدلا عن أن يكون وسيلة: وعادت المعرفة الحسية كلها مجرد ظاهرة لاوجود لها بصورة مستقلة عن وعينا وإدراكنا.

ومن الناحية المنطقية اتجهت النزعة الحسية في احدث تيار من تياراتها إلى الوضعية القائلة، بأن كل جملة لا يمكن التأكد من صدق مدلولها أو كذبه بالحس والتجربة فهي كلام فارغ من المعنى (وهذه تماما ما يحاول رتشارد داوكنز اثباتها في الفصل من الثاني حتى الثامن من كتاب "وهم الآلهة") شأنها شأن حروف هجائية مبعثرة ترددها على غير هدى، وأما الجملة التي يمكن التأكد من صدق مفادها وكذبه فهي كلام لها معنى، فان أكد الحس تطابق مدلولها مع الواقع فهي جملة صادقة، وإن أكد العكس فهي كاذبة، فان قلت! المطر ينزل من السماء في الشتاء فهي جمله لها معنى وصادقه في مدلولها، وإن قلت: إن شيئاً لا يمكن أن يرى أو يحس به ينزل في ليلة القدر فهذه جملة ليس لها معنى فضلا عن أن تكون صادقة أو كاذبة، إذ لا يمكن التأكد من صدق المدلول وكذبه بالحس والتجربة فهي تماماً كما نقول ديز ينزل في ليلة القدر (ديز مقلوب زيد، وهي كلمة فارغة من المعنى تستخدم للإشارة إلى ما لا معنى له) فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك لا معنى لتلك.

وعلى هذا الأساس لو قلت اللّه موجود لكان بمثابة أن تقول ديز موجود فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك تلك لان وجود اللّه تعالى لا يمكن التعرف عليه بالحس والتجربة.

وتواجه هذه النزعة المنطقية تناقضاً أيضاً بسبب أن قولها هذا وما فيه من تعميم هو نفسه شيء لا يمكن التعرف عليه بالحسن والمباشرة، فهو كلام فارغ من المعنى بحكم ما يحمل من قرار، فهذه النزعة المنطقية - التي تدعى أن كل جملة لا يتاح للحس والتجربة اختبار مدلولها فهي فارغة من المعنى - تصدر بهذا الادعاء تعميماً. وكل تعميم فهو يتجاوز نطاق الحس لان الحس لا يقع إلا على حالات جزئية محدودة وهكذا تنتهي هذه النزعة إلى تناقض مع نفسها، إضافة إلى تناقضها مع كل التعميمات العلمية التي يفسر بها العلماء ظواهر الكون تفسيراً شاملا لان التعميم ـ أي تعميم ـ لا يمكن الإحساس به مباشرة وإنما يستنتج ويستدل بدلالة ظواهر حسية محدودة.

ومن حسن الحظ أن العلم لم يعبأ في مسيرته وتطوره المستمر بهذه النزعات، فكان يمارس عمله الاكتشافي للكون دائماً مبتدأ بالحس والتجربة ومتجاوزاً بعد ذلك الحدود الضيقة التي فرضته تلك النزعات الفلسفية والمنطقية، ليبذل جهداً عقلياً في تنسيق الظواهر ووضعها في أطر قانونية عامة والتعرف على ما بينها من روابط وعلاقات.

وقد تضاءل النفوذ الفلسفي والمنطقي لهذه النزعات المتطرفة حتى على صعيد المذاهب الفلسفية المادية، فالفلسفة المادية الحديثة التي يمثلها بصورة رئيسية الماديون الجدليون (ما نعرفه بالملحدين) ترفض تلك النزعات بكل وضوح، وتعطى لنفسها الحق في أن تتجاوز نطاق الحس والتجربة التي يبدأ العالم بها بحثه وتتجاوز أيضاً المرحلة الثانية التي يختم بها العالم بحثه، وذلك لكي تقارن بين معطيات العلم المختلفة وتضع لها تفسيراً نظرياً عاما، وتعين أوجه العلاقات والروابط التي يمكن افتراضها بين تلك المعطيات.

وبهذا فان المادية الجدلية التي هي الوريث الحديث للفكر المادي على مر التاريخ أصبحت بنفسها غيبية من وجهة نظر تلك النزعات الحسية المتطرفة - حين خرجت بتفسير شامل للكون ضمن إطار ديالكتيكي.
وهذا يعني أن المادية والإلهية ما قد اتفقنا على تجاوز النطاق الحسي الذي دعت تلك النزعات المادية المتطرفة إلى التقيد به، وأصبح من المقبول أن تتخذ المعرفة مرحلتين مرحلة لتجميع معطيات الحس والتجربة ومرحلة لتفسيرها نظرياً وعقلياً، وإنما الخلاف بين المادية والإلهية على نوع التفسير الذي تستنتجه عقلياً في المرحلة الثانية من معطيات العلم المتنوعة فالمادية تفترض تفسيراً ينفي وجود صانع حكيم والإلهية ترى أن تفسير تلك المعطيات لا يمكن أن يكون مقنعاً ما لم يشتمل على الإقرار بوجود صانع حكيم.

وسنعرض في المقال التالي لنوعين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه يتمثل في كل منهما معطيات الحس والتجربة من ناحية وتنظيمها عقلياً واستنتاج أن للكون صانعاً حكيماً من خلال ذلك.

والنمط الأول نطلق عليه اسم الدليل العلمي (الاستقرائي، وهو المبني على التجربة والاستنتاج) والنمط الثاني نطلق عليه اسم الدليل الفلسفي (أتمنى أن لا تخيفكم الكلمة، فهو بسيط جدا ويسير فهمه على المثقف العادي).

وسنبدأ بالدليل العلمي ولكن قبل هذا يجب أن نوضح ما نقصده بالدليل العلمي؟

إن الدليل العلمي هو: كل دليل يعتمد على الحس والتجربة ويتبع منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات. وعلى هذا فالمنهج الذي نتبعه في الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى هو منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات (منهج الدليل، غير الدليل نفسه، فأنت قد تستدل على الشمس، أكبر من القمر، بأن العلماء يقولون ذلك، والمنهج هنا هو اتخاذ قرارات العلماء دليلاً على الحقيقة. وقد تستدل على أن فلاناً سيموت بسرعة، بانك رأيت حلماً، ورأيت في ذلك الحلم أنه مات، والمنهج هنا هو اتخاذ الأحلام دليلاً على الحقيقة، وقد تستدل على ان الارض مزدوج مغناطيسي كبير، ولها قطبان سالب وموجب، وبأن الإبرة المغناطيسية الموضوعة في مستوى افقي، تتجه دائماً باحد طرفيها إلى الشمال وبالآخر إلى الجنوب، والمنهج هنا هو اتخاذ التجربة دليلاً. وصحة كل استدلال، ترتبط ارتباطاً اساسياً، بصحة المنهج الذي يعتمد عليه.) ومن أجل ذلك نعبر عن الدليل العلمي لإثبات الصانع بالدليل.

في المقال التالي سنتحدث عن: الاسْتدلال العلمي لإثبات اللّه تعالى

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق