الدليل العلمي على إثبات الصانع الحكيم

بسم الله الرحمن الرحيم

عرفنا في المقال السابق أن الدليل العلمي لإثبات الصانع تعالى يتخذ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

ونريد قبل أن نبدأ باستعراض هذا الدليل أن نشرح المنهج وبعد ذلك نقيمه (أوضحنا في المقال السابق الفرق بين الدليل نفسه ومنهج الدليل)، لكي نتعرف على مدى إمكانية الوثوق بهذا المنهج والاعتماد عليه في اكتشاف الحقائق والتعرف على الأشياء.

ومنهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات له صيغ معقدة وبدرجة عالية من الدقة وتقييمه الشامل الدقيق يتم من خلال دراسة تحليلية كاملة للأسس المنطقية للاستقراء ونظرية الاحتمال (للمزيد من التفصيل يرجى مراجعة كتاب الأسس المنطقية للاستقراء لمؤلفه السيد محمد باقر الصدر) ونحن نحرص هنا على تفادي الصعوبات والابتعاد عن أي صيغ معقدة أو تحليل عسير الفهم.

ولهذا سنقوم فيما يلي بتوضيح أمرين:
  1. المنهج الذي سنتبعه في الاستدلال وتوضيح خطواته بصورة مبسطة وموجزة.
  2. تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به لا عن طريق تحليله منطقياً واكتشاف الأسس المنطقية والرياضية التي يقوم عليها، لان هذا يضطرنا إلى الدخول في أشياء معقدة وأفكار على جانب كبير من الدقة، بل نقيم المنهج الذي سنتبعه في الاستدلال على الصانع الحكيم في ضوء تطبيقاته الأخرى العملية المعترف بها عموماً لكل إنسان سوي، فنوضح أن المنهج الذي يعتمده الدليل على وجود الصانع الحكيم هو نفس المنهج الذي نعتمده في استدلالاتنا التي نثق بها كل الثقة في حياتنا اليومية الاعتيادية أو في البحوث العلمية التجريبية على السواء.
إن ما يأتي سيوضح بدرجة كافية إن منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم هو المنهج الذي نستخدمه عادة لإثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية، فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق فمن الضروري أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق جميعاً.

فأنت في حياتك الاعتيادية حين تتسلم رسالة بالبريد فتتعرف بمجرد فراءتها على أنها من أخيك. وحين تجد أن طبيباً ينجح في علاج حالات مرضية كثيرة فتثق به وتتعرف على أنه طبيب جيد. وحين تستعمل إبرة بنسلين في عشر حالات مرضية وتصاب فور استعمالها في كل مرة بأعراض معينة متشابهة فتستنتج من ذلك أنك مصاب بحساسية خاصة من مادة البنسلين.

أنت في كل هذه الاستدلالات وأشباهها تستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات. والعالم الفلكي في بحثه العلمي حينما لاحظ خصائص معينة في المجموعة الشمسية فيتعرف في ضوء تلك الخصائص على أنها كانت أجزاء من الشمس وانفصلت عنها. وحينما استدل على وجود (نبتون) أحد كواكب هذه المجموعة واستخلص ذلك من ضبط مسارات حركات الكواكب قبل أن يكتشف نيوتن بالحس. وحينما استدل في ضوء ظواهر معينة على وجود الإلكترون قبل التوصل إلى المجهر الذري.
إن العلماء في كل هذه الحالات ونظائرها يستعملون في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات.

و هذا المنهج نفسه هو منهج الدليل الذي نجده: فيما يأتي لإثبات الصانع الحكيم، و هذا ما سنراه بكل وضوح عند استعراض ذلك الدليل.

  • تحديد المنهج و خطواته
أن منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه ببساطة ووضوح - في الخطوات الخمس التالية:

أولا: نواجه ظواهر عديدة دائما، نستطيع أن نلاحظها بالحس والتجربة.

ثانياً: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضية صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعاً ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر أنها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلا.

ثالثاً: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة تواجد تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جداً، بمعنى أنه على افتراض عدم صحة فرضية تكون نسبة احتمال وجودها جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل ضئيلة جداً كواحد في المائة أو واحد في الألف وهكذا.

رابعاً: نستلخص من ذلك أن الفرضية صادقة ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.

خامساً: إن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تتناسب عكسياً مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعاً إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على افتراض كذب الفرضية، فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية.

وفي الحقيقة هناك مقاييس وضوابط دقيقة لقيمة الاحتمال تقوم على أساس نظرية الاحتمال. وفي الحالات الاعتيادية يطبق الإنسان بصورة فطرية تلك المقاييس والضوابط تطبيقاً قريباً من الصواب بدرجة كبيرة، ولهذا سنكتفي هنا بالاعتماد على التقييم الفطري لقيمة الاحتمال دون أن ندخل في تفاصيل معقدة عن الأسس المنطقية والرياضية لهذا التقييم.

هذه هي الخطوات التي نتبعها عادة في كل استدلال استقرائي يقوم على أساس حساب الاحتمال، سواءاً في مجال الحياة الاعتيادية أو على صعيد البحث العلمي أو في مجال الاستدلال المقبل على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.

  • تقييم المنهج
ولنقيم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة كما وعدنا، وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتيادية أولاً.

قلنا آنفاً انك حين تتسلم رسالة بالبريد وتقرأها فتتعرف على أنها من أخيك مثلا تمارس بذلك استدلالا استقرائياً قائماً على حساب الاحتمال. ومهما كانت هذه القضية (وهي أن الرسالة من قبل أخيك) واضحة في نظرك فهي في الحقيقة قضية استنتجتها بدليل استقرائي وفقاً للمنهج المتقدم.

فالخطوة الأولى تواجه فيها ظواهر عديدة من قبيل أن الرسالة تحمل اسماً يتطابق مع اسم أخيك تماماً، وقد كتبت فيها الحروف جميعاً بنفس الطريقة التي يكتب بها أخوك الألف والباء والجيم والدال والراء إلى آخر الحروف، وقد نسقت الكلمات والفوارق بينها بنفس الطريقة التي إعتادها أخوك، وأسلوب التعبير ودرجة متانته وما يشتمل عليه من نقاط‍ قوة أو ضعف يتلائم مع ما تألفه من أساليب التعبير لدى أخيك، وطريقة الإملاء وبعض الأخطاء الإملائية المتواجدة في الرسالة هي نفس الطريقة ونفس الأخطاء التي إعتادها أخوك في كتابته، والمعلومات التي تتحدث عنها الرسالة هي معلومات يعرفها أخوك عادة، والرسالة تطلب منك أشياء وتعلن عن آراء تتوافق تماماً مع حاجات أخيك وآرائه التي تعرفها عنه. هذه هي الظواهر.

وفي الخطوة الثانية تتساءل هل الرسالة قد أرسلها آخي إلي حقاً أو أنها من شخص آخر يحمل نفس الاسم؟

وهنا تجد أن لديك فرضية صالحة لتفسير وتبرير كل تلك الظواهر وهي أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقاً، فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعي أن تتوافر كل تلك المعطيات التي لاحظتها في المرحلة الأولى.

وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التالي: إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي بل كانت من شخص آخر فما هي فرصة أن تتواجد فيها كل تلك المعطيات والخصائص التي لاحظتها في الخطوة الأولى؟
إن هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات، لأننا لكي نحصل على كل تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة يجب أن تفترض أن شخصاً آخر يحمل نفس الاسم، ويشابه أخاك تماماً في طريقة رسم كل الحروف من الألف والباء والجيم والدال وغيرها وتنسيق الكلمات ويشابهه أيضاً في أسلوب التعبير وفي مستوى الثقافة اللغوية والإملائية، وفي عدد من المعلومات والحاجات وفي كثير من الظروف والملابسات. وهذه مجموعة من الصدف يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جداً وكلما ازداد عدد هذه الصدف التي لابد من افتراضها تضاءل الاحتمال اكثر فأكثر.

والأسس المنطقية للاستقراء تعلمنا كيف تقيس الاحتمال وتفسر لنا كيف يتضاءل هذه الاحتمال، ولماذا يتضاءل تبعاً لازدياد عدد الصدف التي يفترضها ولكن ليس من الضروري أن ندخل في تفاصيل ذلك لأنها معقدة وصعبة الفهم على القارئ الاعتيادي و من حسن الحظ أن ضآلة الاحتمال لا تتوقف على فهم تلك التفاصيل كما لا يتوقف سقوط الإنسان من أعلى إلى الأرض على فهمه لقوة الجذب واطلاعه على المعادلة العلمية لقانون الجاذبية، فلست بحاجة إلى شيء لكي تحس بأن احتمال أن يتواجد شخص يشابه أخاك في كل تلك الظروف والحالات بعيد جداً، كما أن البنك ليس بحاجة إلى استيعاب الأسس المنطقية للاستقراء لكي يعرف أن درجة احتمال أن يسحب كل زبائنه ودائعهم في وقت واحد ضئيل جداً بينما احتمال أن يسحب واحد أو اثنان ليس كذلك.

وفي الخطوة الرابعة تقول مادام تواجد كل هذه الظواهر في الرسالة أمراً غير محتمل إلا بدرجة ضئيلة جداً على افتراض أن الرسالة ليست من أخيك فمن المرجح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا أن تكون الرسالة من أخيك.

وفي الخطوة الخامسة تربط بين الترجيح الذي قررته في الخطوة الرابعة ((ومؤداه أن الرسالة قد أرسلت من أخيك)) وبين ضآلة الاحتمال التي قررتها في الخطوة الثالثة ((وهي ضآلة احتمال أن تتواجد كل تلك الظواهر
في الرسالة بدون أن تكون من أخيك)) ويعني الربط بين هاتين الخطوتين إن درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسياً مع ضآلة هذا الاحتمال فكلما كان هذا الاحتمال أقل درجة كان ذلك الترجيح أكبر قيمة وأقوى إقناعاً.

وإذا لم تكن هناك دلائل تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة أن الرسالة من أخيك.

هذا مثال من الحياة اليومية لكل إنسان.

ولنأخذ مثالا آخر للمنهج من طرق العلماء في الاستدلال على النظرية العلمية وإثباتها. وليكن هذا المثال نظرية نشوء الكواكب ونصها أن الكواكب السيارة التسع أصلها من الشمس حيث انفصلت عنها كقطع ملتهبة قبل ملايين السنين، والعلماء يتفقون على العموم في أصل النظرية ويختلفون في سبب انفصال تلك القطع عن الشمس.

والاستدلال على أصل النظرية التي يتفقون عليها يتم ضمن الخطوات التالية.

الخطوة الأولى لاحظ فيها العلماء عدة ظواهر أدركوها بوسائل الحس والتجربة.

منها: أن حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسها كل منها من الغرب إلى الشرق.
ومنها: إن دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها أي من الغرب إلى الشرق.
ومنها: إن الأرض تدور حول الشمس في مدار يوازي خط استواء الشمس بحيث تكون الشمس كقطب والأرض نقطة واقعة على الرحى.
ومنها: إن نفس العناصر التي تتألف منها الأرض موجودة في الشمس تقريباً.
ومنها: أن هناك توافقاً بين نسب العناصر من ناحية الحكم بين الشمس والأرض، فالهيدروجين مثلا هو العنصر السائد فيهما معاً.
ومنها: أن هناك انسجاماً بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها.
ومنها: أن هناك انسجاماً بين عمري الأرض والشمس حسب تقدير العلم لعمر كل منهما.
ومنها: أن باطن الأرض ساخن وهذا يثبت أن الأرض في بداية نشوئها كانت حارة جداً.

هذه بعض الظواهر التي لاحظها العلماء في الخطوة الأولى بوسائل الحس والتجربة.

الخطوة الثانية - وجد العلماء أن هناك فرضية يمكن أن تفسر بها كل تلك الظواهر التي لوحظت في الخطوة الأولى، بمعنى أنها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن هذه الظواهر جميعاً وتبررها وهذه الفرضية هي أن الأرض كانت جزاءاً من الشمس وانفصلت عنها لسبب من الأسباب فانه على هذا التقدير يتاح لنا أن نفسر على أساس ذلك الظواهر المتقدمة.

أما الظاهرة الأولى ((وهي أن حركة الأرض حول الشمس منسجمة مع حركة الشمس حول نفسهما لان كلا منهما من الغرب إلى الشرق)) فلأن سبب هذا التوافق في الحركة يصبح واضحاً على تقدير صحة تلك الفرضية لأن أي جسم يدور إذا انفصلت منه قطعة وبقيت منشدة إليه بجاذبية فإنها تدور بنفس اتجاه الأصل بمقتضى قانون الاستمرارية.

وأما الظاهرة الثانية ((وهي أن دوران الأرض حول نفسها متوافق مع دوران الشمس حول نفسها أي من الغرب إلى الشرق)) فالفرضية المذكورة تكفي لتفسيرها أيضاً، لان الجسم المنفصل من جسم يدور من الغرب إلى الشرق يأخذ نفس حركته بمقتضى قانون الاستمرارية.

وكذلك الأمر في الظاهرة الثالثة أيضاً.

وأما الظاهرة الرابعة والخامسة اللتان تعبران عن توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها فهما مفهومتان بوضوح على أساس أن الأرض جزء من الشمس لان عناصر الجزء نفس عناصر الكل.

وأما الظاهرة السادسة ((وهي الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها)) فقد عرفنا أن فرضية انفصال الأرض من الشمس تعني أن حركة الأرض والقمر ناشئتان من حركة الشمس وهذا يفسر لنا الانسجام المذكور ويحدد سببه.

وأما الظاهرة السابعة ((وهي الانسجام بين عمري الأرض والشمس)) فمن الواضح تفسيرها على أساس نظرية الانفصال، وكذلك الأمر في الظاهرة الثامنة التي يبدو منها أن الأرض في بداية نشوئها كانت حارة جداً فان فرضية انفصالها عن الشمس تستبطن ذلك.

الخطوة الثالثة - يلاحظ أنه على افتراض أن نظرية انفصال الأرض من الشمس ليست صحيحة فمن البعيد أن تتواجد كل تلك الظواهر وتتجمع لأنها تكون مجموعة من الصدف التي ليس بينها ترابط مفهوم فاحتمال تواجدها جميعاً على تقدير عدم صحة النظرية المذكورة ضئيل جداً، لان هذا الاحتمال يتطلب منا مجموعة كبيرة من الافتراضات لكي نفسر تلك الظواهر جميعاً.

فبالنسبة إلى انسجام حركة الأرض حول الشمس مع حركة الشمس حول نفسها في أنها من الغرب إلى الشرق لابد أن نفترض أن الأرض كانت جرماً بعيداً عن الشمس سواء خلقت وحدها أو كانت جزءً من شمس أخرى انفصلت عنها ثم اقتربت من الشمس، ونفترض أيضاً أن الأرض المنطلقة دخلت في مدارها حول الشمس دخلت في نقطة تقع في غرب الشمس فتدور حينئذٍ من الغرب إلى الشرق، أي مع اتجاه حركة الشمس حول نفسها، إذا لو كانت قد دخلت في مدار الشمس في نقطة تقع في شرق الشمس لكانت تدور من الشرق إلى الغرب.

وبالنسبة إلى التوافق بين حركة الأرض حول نفسها ودوران الشمس حول نفسها في أن الاتجاه من الغرب إلى الشرق نفترض مثلا أن الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض افتراضاً كانت تدور من الغرب إلى الشرق.

وبالنسبة إلى دوران الأرض حول الشمس في مدار يوازي خط استواء الشمس نفترض مثلا أن الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض كانت واقعة في نقطة عمودية على خط الاستواء للشمس.

وبالنسبة إلى توافق الأرض والشمس في العناصر وفي نسبها لابد أن نفترض أن الأرض أو الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض قد كانت تشتمل على نفس عناصر هذه الشمس وبنسب متشابهة.

وبالنسبة إلى الانسجام بين سرعة دوران الأرض حول الشمس وحول نفسها وبين سرعة دوران الشمس حول نفسها نفترض مثلا أن الشمس الأخرى التي انفصلت عنها الأرض انفجرت بنحو أعطت للأرض المنفصلة نفس السرعة التي تتناسب مع حركة شمسنا.

وبالنسبة إلى الانسجام بين عمري الأرض والشمس وحرارة الأرض في بداية نشوئها نفترض مثلا أن الأرض كانت قد انفصلت من شمس أخرى لها نفس عمر شمسنا وأنها انفصلت على نحو أدى إلى حرارتها بدرجة كبيرة جداً.

وهكذا نلاحظ: أن تواجد جميع تلك الظواهر على تقدير عدم صحة فرضية الانفصال يحتاج إلى افتراض مجموعة من الصدف التي يعتبر احتمال وجودها جميعاً ضئيلا جداً، بينما فرضية الانفصال وحدها كافية لتفسير كل تلك الظواهر والربط بينها.

وفي الخطوة الرابعة نقول: مادام تواجد كل هذه الظواهر الملحوظة في الأرض أمراً غير محتمل إلا بدرجة ضئيلة جداً على افتراض أن الأرض ليست منفصلة عن هذه الشمس، فمن المرجح بدرجة كبيرة بحكم تواجد هذه الظواهر فعلا أن تكون الأرض منفصلة عن الشمس.

وفي الخطوة الخامسة يربط بين ترجيح فرضية انفصال الأرض عن هذه الشمس كما تقرر في الخطوة الرابعة وبين ضآلة احتمال أن تتواجد كل تلك الظواهر في الأرض بدون أن تكون منفصلة عن هذه الشمس كما تقرر في الخطوة الثالثة - ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أنه كلما كانت ضآلة الاحتمال الموضحة في الخطوة الثالثة أشد كان الترجيح الموضح في الخطوة الرابعة اكبر.

وعلى هذا الأساس نستدل على نظرية انفصال الأرض والشمس وبهذا المنهج حصل العلماء على قناعة كاملة بذلك.

  • كيف نطبق المنهج لإثبات الصانع
بعد أن عرفنا المنهج العام للدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات. وبعد أن قيمنا هذا المنهج من خلال تطبيقاته المتقدمة نمارس تطبيقه الآن على الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم وذلك باتباع نفس الخطوات السابقة.

الخطوة الأولى: نلاحظ توافقاً مطرداً بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة الإنسان ككائن حي وتيسير الحياة له على نحو نجد أن أي بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلها.

وفيما بلي نذكر عدداً من تلك الظواهر كأمثلة:

تتلقى الأرض من الشمس كمية من الحرارة تمدها بالدف للكافي لنشوء الحياة وإشباع حاجة الكائن الحي إلى الحرارة لا اكثر ولا أقل: وقد لوحظ‍ علمياً أن المسافة التي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقا كاملا مع كمية الحرارة المطلوبة من أجل الحياة على هذه الأرض، فلو كانت ضعف ما عليها الآن لما وجدت حرارة بالشكل الذي يتيح الحياة ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة التي لا تطيقها حياة.

ونلاحظ أن قشرة الأرض والمحيطات تحتجز - على شكل مركبات -‍ الجزء الأعظم من الأوكسجين حتى أنه يكوّن ثمانية من عشرة من جميع المياه في العالم، وعلى الرغم من ذلك ومن شدة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيماوية للاندماج على هذا النحو فقد ظل جزءً محدود منه طليقاً بساهم في تكوين الهواء. وهذا الجزء يحقق شرطاً ضرورياً من شروط الحياة، لان الكائنات الحية من إنسان وحيوان بحاجة ضرورية إلى أوكسجين لكي تتنفس ولو قدر له أن يحتجز كله ضمن مركبات لما أمكن للحياة أن توجد.

وقد لوحظ أن نسبة ما هو طليق من هذا العنصر تتطابق تماماً مع حاجة الإنسان وتيسير حياته العملية، فالهواء يشتمل على 21% من الأوكسجين ولو كان يشتمل على نسبة كبيرة لتعرضت البيئة إلى حرائق شاملة باستمرار ولو كان يشتمل على نسبة صغيرة لتعذرت الحياة أو أصبحت صعبة ولما توفرت النار بالدرجة الكافية لتيسير مهماتها.

ونلاحظ ظاهرة طبيعية تتكرر باستمرار ملايين المرات على مر الزمن تنتج الحفاظ على قدر معين من الأوكسجين باستمرار، وهي أن الإنسان -‍ والحيوان عموماً - حينما يتنفس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقاه الدم ويوزع في جميع أرجاء الجسم ويباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام وبهذا يتولد ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسلل إلى الرئتين ثم يلفظه الإنسان وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار، وهذا الغاز بنفسه شرط ضروري لحياة كل نبات. والنبات بدوره حين يستمد ثاني أوكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويبعثه في الهواء ليعود نقياً صالحاً للاستنشاق من جديد.

وبهذا التبادل بين الحيوان والنبات أمكن الاحتفاظ بكمية من الأوكسجين ولولا ذلك لتعذر هذا العنصر وتعذرت الحياة على الإنسان نهائياً، إن هذا التبادل نتيجة آلاف من الظواهر الطبيعية التي تجمعت حتى أنتجت هذه الظاهرة التي تتوافق، صورة كاملة مع متطلبات الحياة.

ونلاحظ أن النتروجين بوصفه غازاً ثقيلا أقرب إلى الجمود يقوم عند انضمامه إلى الأوكسجين في الهواء بتخفيفه بالصورة المطلوبة للاستفادة منه. ويلاحظ هنا أن كمية الأوكسجين التي ظلت ضيقة في الفضاء وكمية النتروجين التي ظلت كذلك منسجمتان تماماً بمعنى أن الكمية الأولى هي التي يمكن للكمية الثانية أن تخففها فلو زاد الأوكسجين أو قل النتروجين لما تمت عملية التخفيف المطلوبة، ولتجمدت الأرض بسبب سيلان النيتروجين.

ونلاحظ أن الهواء كمية محدودة في الأرض قد لا يزيد على جزء من مليون من كتلة الكرة الأرضية، وهذه الكمية بالضبط تتوافق مع تيسير الحياة للإنسان على الأرض فلو زادت نسبة الهواء على ذلك أو قلت لتعذرت الحياة أو تعسرت، فان زيادتها تعني فسح المجال للشهب التي تتساقط في كل يوم لإهلاك من على الأرض واختراقها بسهولة، وكذلك لكان الضغط الجوي إما قويا جدا أو ضعيفا بحيث لا يمكن للإنسان التفس، وقد تؤدي زيادة الضغط الجوي إلى تفجير الرئتين، وضعفه يؤدي إلى عدم إمكانية التنفس أيضا، وذلك أن عضلة الحجاب الحاجز لن تتمكن من سحب الهواء للرئتين.

ونلاحظ أن قشرة الأرض التي كانت تمتص ثاني أوكسيد الكربون والأوكسجين محددة على نحو لا يتيح لها أن تمتص كل هذا الغاز، ولو كانت اكثر سمكاً لامتصته ولهلك النبات والحيوان والإنسان.

ونلاحظ أن القمر يبعد عن الأرض مسافة محددة وهي تتوافق تماماً مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض، ولو كان يبعد عنا مسافة قصيرة نسبياً لتضاعف المد الذي يحدثه وأصبح من القوة على نحو يزيح يتسبب بالفيضانات الهائلة.

ونلاحظ وجود غرائز كثيرة في الكائنات الحية المتنوعة، ولئن كانت الغريزة مفهوماً غيبياً لا يقبل الملاحظة والإحساس المباشر فما تعبر عنه تلك الغرائز من سلوك ليس غيبياً بل يعتبر ظاهرة قابلة للملاحظة العلمية تماماً. وهذا السلوك الغريزي في آلاف الغرائز التي تعرف عليها الإنسان في حياته الاعتيادية أو في بحوثه العلمية يتوافق باستمرار مع تيسير الحياة وحمايتها وانه يبلغ أحياناً إلى درجة كبيرة من التعقيد والإتقان، وحينما نقسم ذلك السلوك إلى وحدات نجد أن كل وحدة قد وضعت في الموضع المنسجم تماماً مع مهمة تيسير الحياة وحمايتها.

والتركيب الفسلجي للإنسان يمثل ملايين من الظواهر الطبيعية والفسلجية وكل ظاهرة في تكوينها ودورها الفسيولوجي وترابطها مع سائر الظواهر تتوافق باستمرار مع مهمة تيسير الحياة وحمايتها. فمثلا نأخذ مجموعة الظواهر التي ترابطت على نحو يتوافق تماماً مع مهمة الإبصار وتيسير الإحساس بالأشياء بالصورة المفيدة.

إن عدسة العين تلقي صورة على الشبكية التي تتكون من تسع طبقات وتحتوي الطبقة الأخيرة منها على ملايين الأعواد والمخروطات قد رتبت جميعاً في تسلسل يتوافق مع أداء مهمة الإبصار من حيث علاقات بعضا بالبعض الآخر وعلاقاتها جميعاً بالعدسة، إذا استثنينا شيئاً واحداً وهو أن الصورة تنعكس عليها مقلوبة، غير أنه استثناء موقت فان الأبصار لم يربط بهذه المرحلة لكي نحس بالأشياء وهي مقلوبة بل أعيد تنظيم الصورة في ملايين أخرى من شعيرات الأعصاب المؤدية إلى المخ حتى أخذت وضعها الطبيعي، وعند ذلك فقط تتم عملية الإبصار وتكون عندئذ متوافقة بصورة كاملة مع تيسير الحياة.

حتى الجمال والعطر والبهاء كظواهر طبيعية تجد أنها تتواجد في المواطن التي يتوافق تواجدها فيها مع مهمة تيسير الحياة ويؤدى دوراً في ذلك، فالأزهار يتم تلقيحها بواسطة الحشرات، لوحظ أنها قد زودت بعناصر الجمال والجذب من اللون الزاهي والعطر المغري بنحو يتفق مع جذب الحشرة إلى الزهرة وتيسير عملية التلقيح بينما لا تتميز الأزهار التي يحمل الهواء أو لقاحها عادة بعناصر الإغراء وظاهرة الزوجية على العموم والتطابق الكامل بين التركيب الفسلجي للذكر والتركيب الفسلجي لأنثاه في الإنسان وأقسام الحيوان والنبات على النحو الذي يضمن التفاعل واستمرار الحياة مظهر كوني آخر للتوافق بين الطبيعة ومهمة تيسير الحياة.

[و إن تعدوا نعمة اللّه لا تحصوها إن اللّه لغفور رحيم - النحل (18)].

هذه هي الخطوة الأولى.

الخطوة الثانية: نجد أن هذا التوافق المستمر بين الظاهرة الطبيعية ومهمة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يمكن أن يفسر في جميع هذه المواقع بفرضية واحدة، وهي أن تفترض صانعاً حكيماً لهذا الكون قد استهدف أن يوفر في هذه الأرض عناصر الحياة وتيسير مهمتها فان هذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات.

الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتة في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كل تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمة تيسير الحياة دون أن يكون هناك هدف مقصود، ومن الواضح أن احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف أو الانتخابات العشوائية، وإذا كان احتمال أن تكون الرسالة المرسلة إليك في مثال سابق من شخص آخر غير أخيك ولكنه يشابهه في كل الصفات بعيداً جداً، لان افتراض المشابهة في ألف صفة ضئيل بدرجة كبيرة في حساب الاحتمالات فما ظنك باحتمال أن تكون هذه الأرض التي نعيش عليها بكل ما تضمه من دقة في العلاقات بين الظواهر لاستمرار الحياة عليها، أن تكون من صنع مادة غير هادفة، أو من تراكمات لتغيرات بسيطة تحتمل الصدفة ولكنها تشابه الفاعل الهادف الحكيم في ملايين ملايين الصفات، ولو كانت البيئة سابقة للإنسان وأن الإنسان تطور لكي ينسجم مع هذه البيئة، فلماذا لا نجد أي حياة عضوية على أي كوكب آخر غير كوكب الأرض في مجموعتنا الشمسية؟

الخطوة الرابعة: نرجح بدرجة لا يشوبها لاشك أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحة، أي أن هناك صانعاً حكيماً.

الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضآلة الاحتمال التي قررناها في الخطوة الثالثة. ولما كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضآلة كلما ازداد عدد الصدف التي لابد من افتراضها فيه -كما عرفنا سابقاً- فمن الطبيعي أن يكون هذا الاحتمال ضئيلا بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أي قانون علمي، لان عدد الصدف التي لابد من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أي احتمال مناظر وكل احتمال من هذا القبيل فمن الضروري أن يزول.

وهكذا تصل إلى النتيجة القاطعة، وهي أن للكون صانعاً حكيماً بدلالة كل ما في هذا الكون من آيات الاتساق والتدبير.

[سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء وشهيد] فصلت 53.

[إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل اللّه من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين المساء والأرض لآيات لقوم يعقلون] البقرة 159.

[فارجع البصر هل ترى من فطور ثم ارجع البصر كرتين ينقلب إليك البصر خاسئاً وهو حسير] الملك: 5.

بقيت مشكلتان لا بد من تذليلهما:

  • الإشكال الأول:
إنه قد يلاحظ أن البديل المحتمل لفرضية الصانع الحكيم، تبعاً لمنهج الدليل الاستقرائي. هو أن تكون كل ظاهرة من الظواهر المتوافقة، مع مهمة تيسير الحياة، ناتجة عن ضرورة عمياء في المادة، بان تكون المادة بطبيعتها، وبحكم تناقضاتها الداخلية، وفاعليتها الذاتية، هي السبب فيما يحدث لها من تلك الظواهر، والمقصود من الدليل الإستقرائي تفضيل فرضية الصانع الحكيم، على البديل المحتمل، لان تلك لا تستبطن الا إفتراضاً واحداً وهو افتراض الذات الحكيمة، بينما البديل يفترض ضرورات عمياء في المادة، بعدد الظواهر موضوعة البحث، فيكون إحتمال البديل، احتمال لعدد كبير من الوقائع والصدف، فيتضائل حتى يفنى غير ان هذا إنما يتم، إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم مستبطنة لعدد كبير من الوقائع والصدف أيضاً، مع انه قد يبدو انها مستبطنة لذلك، لان الصانع الحكيم الذي يفسر كل تلك الظواهر في الكون يجب ان نفترض فيه علوماً وقدرات بعدد تلك الظواهر، وبهذا كان العدد الذي تستنبطه هذه الفرضية، من هذه العلوم والقدرات، بقدر ما يستبطنه البديل من افتراض ضرورات عمياء فاين التفضيل؟

الجواب: إن التفضيل ينشأ من ان هذه الضرورات العمياء، غير مترابطة. بمعنى ان افتراض أي واحدة منها يعتبر حيادياً، تجاه افتراض الضرورة الاخرى وعدمها، وهذا يعني في لغة حساب الإحتمال، انها حوادث مستقلة، وأن احتمالاتها مستقلة، واما العلوم والقدرات التي يتطلبها افتراض الصانع الحكيم للظواهر، موضوعة البحث، فهي ليس مستقلة لان ما يتطلبه صنع بعض الظواهر من علم وقدرة هو نفس ما يتطلبه صنع بعض آخر من علم وقدر، فافتراض بعض تلك العلوم والقدرات، ليس حيادياً تجاه افتراض الآخر، بل يستنبطه، أو يرجحه بدرجة كبيرة, وهذا يعني بلغة حساب الإحتمال ان احتمالات هذه المجموعة من العلوم والقدرات، مشروطة، أي ان احتمال بعضها على تقدير افتراض بعضها الآخر، كبيراً جداً وكثيراً ما يكون يقيناً.

وحينما نريد ان نقيم احتمال مجموعة هذه العلوم والقدرات، واحتمال مجموعة تلك الضرورات، ونوازن بين قيمتي الإحتمالين، يجب ان نتبع قاعدة ضرب الإحتمال المقررة في حساب الإحتمال، بان نضرب قيمة احتمال كل عضو في المجموعة، بقيمة احتمال عضو آخر فيها، وهكذا، والضرب كما نعلم، يؤدي إلى تضاءل الإحتمال، وكلما كانت عوامل الضرب اقل عدداً، كان التضاءل أقل، وقاعدة الضرب في الإحتمالات المشروطة والإحتمالات المستقلة تبرهن رياضياً على ان في الاحتمالات المشروطة، يجب ان نضرب قيمة احتمال عضو، بقيمة احتمال عضو آخر، على افتراض وجود العضو الاول، وهو كثيراً ما يكون يقيناً أو قريباً من اليقين، فلا يؤدي الضرب إلى تقليل الاحتمال اطلاقاً، أو إلى تقليله بدرجة ضئيلة جداً، خلافاً للاحتمالات المستقلة، التي يكون كل واحد منها حيادياً تجاه الاحتمال الآخر، فان الضرب هناك يؤدي إلى تناقص القيمة بصورة هائلة، ومن هنا ينشأ تفضيل احد الإفتراضين على الآخر (من اجل توضيح قاعدة الضرب في الإحتمالات المشروطة والمستقلة راجع كتاب الاسس المنطقية للاستقراء ص153 – 154 ).

  • والمشكلة الاخرى:
هي المشكلة التي تنجم عن تحديد قيمة الاحتمال القبلي، للقضية المستدلة استقرائياً، ولتوضيح ذلك يقارن بين تطبيق الدليل الإستقرائي لاثبات الصانع ونظيره في المثال السابق لإثبات ان الرسالة التي تسلمتها بالبريد هي من اخيك ويقال بصدد هذه المقارنة، ان سرعة اعتقاد الإنسان في هذا المثال بان الرسالة قد أرسلها اخوه، تتأثر بدرجة هذه القضية، قبل ان يفض الرسالة ويقرأها - وهو ما نسميه بالاحتمال القبلي للقضية - فإذا كان قبل ان يفتح الرسالة، يحتمل بدرجة خمسين في المائة مثلاً، ان اخاه يبعث إليه برسالة، فسوف يكون اعتقاده بان الرسالة من اخيه وفق الخطوات الخمس للدليل الاستقرائي سريعاً، بينما إذا كان مسبقاً، لا يحتمل ان يتلقى رسالة من اخيه بدرجة معتد بها، إذ يغلب على ظنه مثلاً بدرجة عالية الإحتمال انه قد مات فلن يسرع إلى الاعتقاد بان الرسالة من اخيه، ما لم يحصل على قرائن مؤكدة، فما هو السبيل في مجال اثبات الصانع لقياس الاحتمال القبلي للقضية؟

والحقيقة ان قضية الصانع الحكيم، سبحانه، ليست محتملة، وانما هي مؤكدة بحكم الفطرة والوجدان، ولكن لو افترضنا انها قضية محتملة، نريد اثباتها بالدليل الاستقرائي فيمكن ان نقدر قيمة الاحتمال القبلي بالطريقة التالية:

نأخذ كل ظاهرة من الظواهر، موضوعة البحث بصورة مستقلة، فنجد ان هناك افتراضين، يمكن ان نفسرها بأي واحد منهما: احدهما افتراض صانع حكيم، والآخر افتراض ضرورة عيماء في المادة أو وجود انتخاب تراكمي، وما دمنا امام افتراضين، ولا نملك أي مبرر مسبق لترجيح احدهما على الآخر، فيجب ان ان نقسم رقم اليقين عليهما بالتساوي، فتكون كل واحد منهما خمسين في المائة، ولما كانت الإحتمالات التي في صالح فرضية الصانع الحكيم مترابطة ومشروطة، والاحتمالات التي في صالح فرضية الضرورة العمياء أو الانتخاب التراكمي مستقلة وغير مشروطة، فالضرب يؤدي باستمرار إلى تضاءل شديد، في احتمال فرضية الضرورة العيماء، وتصاعد مستمر في احتمال فرضية الصانع الحكيم.

ومن اجل التوسع في كيفية تطبيق مناهج الدليل الاستقرائي لاثبات الصانع مع التغلب على هاتين النقطتين، يمك ان يراجع كتاب الاسس المنطقية للاستقراء ص441 – 451.


والحمد لله رب العالمين
ليث

هناك 4 تعليقات:

  1. السلام عليكم الأخ ليث
    ق1 - كل شيء به تصميم أو إبداع ، لابد له من مُصمم أو مُبدع
    ق2 - العالم به تصميم أو إبداع
    ن - التصميم أو الإبداع في العالم نتاج لعمل مصمم أو مبدع

    إن الاستدلال الغائي لا يعبر بوضوح على أن إيجاد مادة الكون وليس بالضرورة التصميم هو نتاج لعمل مصمم مبدع . أي أن الاستدلال لا يتضمن مسألة خلق المادة . وبعبارة أخرى أن المادة ( التي بدأ عليها التصميم) ليست بالضرورة مادة الكائن الذي لم يكن له وجود . فالتصميم تم على مادة الكائن الذي كان موجود. ومن هنا فالاستدلال يترك مسألة حدوث المادة بدون معالجة

    إن الاستدلال الاستناجي ينتج عنه الظن فقط ولا يضمن الحصول على العلم . فنحن لا نعلم بالضرورة حقيقة النتيجة حتى لو كان الاستدلال الاستناجي سليم . فمن أجل أن تكون النتيجة (صادقة) نحن بحاجة إلى إثبات أن المقدمات (صادقة). فكيف لنا إثبات أن المقدمات (صادقة) ؟

    إن الاستدلال الغائي يتضمن وجود كائنان :( الله ) و(الكون) ، والثنائية هنا بين (الله) و(كل الكون) وليس بين (الله) و (كيانات تجريبية). ذلك لأن الله والكون كلاهما كائن على نفس المستوى . في حين أن الكيانات التجريبية هي فقط مكونات من ذلك الكائن (الكون) .

    والمحصلة هنا أنه ليست النتيجة فقط باطلة بل الاستناج غير صالح . فالاستدلال الاستناجي السليم يستلزم مقدمة كبرى تحتوي على طبقة كل الكيانات المُخبر عنها ، والمقدمة الصغرى تحتوي على كيان يُعرف على أنه عضو من تلك الطبقة ، ثم تأتي النتيجة التي تتضمن ذلك العضو الذي أُخبر عنه أو عُرَف في المقدمة الكبرى.

    وللقيام بعملية تحسين في هذا الاستدلال .

    ق1 - كل العوالم التي بها تصميم أو إبداع ، لابد لها من مُصمم أو مُبدع
    ق2 - العالم به تصميم أو إبداع
    ن - هذا العالم له مصمم أو مبدع

    بالرغم من أن التحسين الحاصل على الاستدلال الغائي قد أفاد في صحة الاستدلال إلا أن (ق1 ) و( ق2 ) مازالا في حاجة إلى إثبات صدقهما . ولنركز على ( ق2 ) العالم به تصميم أو إبداع ، ولنتحقق من أن العالم به تصميم وإبداع أو لا ، علينا التحقق من أن كل مكونات العالم بها إبداع و تصميم ، وبهذا المعنى المسألة تجريبية ، وهذا ينطبق أيضا على (ق1 ) علينا التحقق من أن كل العوالم بها إبداع و تصميم .
    وإذا أخدنا في الاعتبار مدى اتساع رقعة العالم ومدى محدودية الإدراك الحسي للإنسان . سيكون من المستحيل تحقيق هذا الهدف. ومن المستحيل أيضا اختبار أي عوالم أخرى من خلال التجربة والمشاهدة.
    والشيء الممكن هو الالتجاء إلى الاستقراء لتحقيق مثل هذه المقدمات . ومن الواضح هنا أن ما يسمى بالاستدلال الاستناجي ما هو إلا استقراء مقلوب . (ق1 ) كل العوالم التي بها تصميم أو إبداع ، لابد لها من مُصمم أو مُبدع ، ما هي في الأصل إلا نتيجة لاستدلال استقرائي ، بينما ( ق2 ) هو حالة داعمة للاستقراء . ويجب علينا أن نلاحظ أنه حتى في حالة صحة الاستقراء تظل النتيجة احتمالية فقط.
    إن عمليات الاستدلال الاستقرائية قائمة على عينات تمثيلية ، وليست على كل الحالات المطلوب اختبارها. وأي عملية استدلال استناجي تأخذ نتيجة استقرائية كمقدمة لها سوف ترث تلك السمات الاحتمالية بداخلها. وبذلك ستكون النتيجة احتمالية الصدق حتما. وهذا يقضي على هدف الاستدلال وهو العلم بوجود الله وليس الظن بوجوده.

    ردحذف
  2. تابع العليق (ابراهيم)
    فهنا ( ق-2 - العالم به تصميم أو إبداع )تتكون من حالة مفردة وهذه الحالة المفردة تم تعميمها على كل الحالات ( كل العوالم الاحتمالية يجب ن تكون مصممة) . هذا يظهر أن محتوى الاستدلال ليس ناتجا حتى عن استقراء سليم . فالعينة التمثيلية المستخدمة تتكون فقط من حالة مفردة ! والاستدلال يفشل حتى في تحقيق الوصول إلى نتيجة ظنية لأنه لا يفي بشروط الاستدلال الاستقرائي.

    إن المثال المستخدم في القياس الغائي قابل للنقاش والدحض من منظور فكرة التصميم والغاية نفسها أيضاً.
    فهناك حاجة إلى تقرير ما إذا كان فهم التصميم/ الغاية من منظور الإنسان أم من منظور غيره.

    وبمعنى أخر أنه يمكن أن يقال أن سمة التصميم هي لكل ما هو موجود طالما كل ما هو موجود مركب وبمصطلح التركيب لن يكون هناك فرق بين الساعة وأي صخرة. وبهذا فالتصميم لا يعني أكثر من التركيب.وهو سمة لكل مادة مركبة . وبذلك فمصطلح التصميم لن يكون له أي علاقة بوجود الله لأنه سيكون نتيجة لعمل مبدع أو الصدفة.
    ففي البداية أردنا أن نعلم ما إذا كان الكيان به تصميم أم لا . وما يقال هنا أن كل كيان به تصميم بالتعريف.
    فهنا أصبح التصميم والتركيب مترادفان. وهذا يزيح التساؤل من سبب التصميم إلى سبب التركيب .
    والحقيقة نفسها ستنطبق على الغاية.فإذا كانت الغاية المقصود بها هنا ما نسبته إلى الإنسان. وبذلك ستكون سمة لكل ما هو موجود. وهذا يقدونا إلى نقطة الصفر من جديد.
    فسيكون من غير المبرر الادعاء بأن العالم له غاية . بسبب أنه هناك أوجه أخرى للعالم وهي التي يمكن أن تبطل وتلغي التصميم والغاية. والإشارة هنا إلى تلك الأوجه المهددة لحياة وسعادة الإنسان ، مثل : الزلازل والجفاف والأمراض و الخ... وإضافة إلى ذلك فإن طبقة النوع البشري يجب أن يعاد تقييمها وفقاً لأعضائها الذين قد يشكلون خطراً على بعضهم البعض.فإذا أخدنا في الاعتبار حالات : القتل والسرقة و الخ..فذلك يعني أنه بدلا من وصف العالم على أن (ذو غاية أو غير ذو غاية ) ، يجب علينا وصفه بكلا الوجهين اللذان يشكلان طبيعته . ويجب الأخذ في الاعتبار أن نظام الفوضى ربما يحتوي على بعض عناصر النظام داخله. و من هنا (ووفقا للنظام من المنظور البشري) فالعالم فوضوي وبدون غاية بالتعريف.

    وإذا أصر المؤمن بالرغم من ذلك على أن للعالم غاية وهدف فهو ينتهك بذلك حرمة اللغة ويهجر مبدءا التمييز بين الغائية و الآغائية.
    وإذا تم الاعتراض بأن الفوضى جزء من التصميم ، فهذا سيتضمن بأن كل ما هو موجود بغض النظر عن طبيعته مصمم . وسيكون من العبث اعتبار أوجه التصميم في الكون تدل على وجود الله . وسيكون الاستدلال كالتالي :
    "العالم المصمم موجود ، إذا الله موجود " . وهذا سيظهر مدى الإفلاس الفكري للمعترض.

    ردحذف
  3. وعليكم السلام أخي إبراهيم

    إن الدليل العلمي لإثبات الصانع الحكيم، يعتمد على أسس المنطق الإستقرائي وفق المذهب الذاتي في نظرية المعرفة. ولذلك فهو لا يخضع لأسس المنطق الصوري التي تحدد آلية الاسقراء وكيفية أخذ النتيجة عنها. إن المذهب الذاتي في نظرية المعرفة يحل إشكال الاستقراء الناقص الذي مني به المنطق الصوري المنتقد في تعليقاتكم.

    ولذلك فإننا ذكرنا خطوات خمس تبسيطا للعملية، وإلا فإن عملية الإستقراء تمر بمرحلتين:

    1. مرحلة التوالد الموضوعي
    2. مرحلة التوالد الذاتي

    إن ما قمنا بعمله في المثال هو ليس قياس غائي كما عبرتم عنه، بل هو استقراء وفق أسس منطقية تعتمد على المرحلتين المذكورتين.

    وللإيضاح: ليس البرهان الاستقرائي متضمنا لقياس مبطن، إن هذا هو ما حاول المنطق الصوري علاجه حينما واجه الاستقراء ووجد بأنه ملزم بتكوين صورة منطقية لقبوله باعتباره حلقة أوسع من المجربات. ولكن المذهب الذاتي يذهب أبعد من ذلك، فبدل الإنطلاق من العام إلى الخاص، فإننا ننطلق من الخاص إلى العام بخلاف المذهب العقلي المبتني على المنطق الصوري.

    لقد قدمتم مقدمتين هما: 1. كل شيء به تصميم أو إبداع ، لابد له من مُصمم أو مُبدع، 2. والعالم به تصميم وإبداع. هذان الحدان في القياس ليسا داخلين في الدليل الاستقرائي وفق المذهب الذاتي، ولا وجود لهما من الأساس، ولذلك فإن كل الإشكالات الواردة تكون لا معنى لها.

    إن المنطق الصوري يفترض ثلاث معرفات قبلية أو مسبقة يجعلها أساسا لعملية القياس التي تنتج اليقين المنطقي في الاستقراء، وهي:

    * قانون السببية بمفهومه العقلي، أي علاقة الضرورة المفهومية.
    * مبدأ: الصدفة أو الاتفاق لا يكون أكثريا ولا دائميا.
    * التماثل بين العلل والمعلولات.

    المذهب الذاتي بخلاف المذهب العقلي لا يفترض قبلية هذه المعارف الثلاث، بل يعتبرها قضايا استقرائية، وشرطه الوحيد هو أن لا نفترض مبررا مسبقا لرفض علاقة السببية بمفهومها العقلي، وذلك حتى تكون مسألة السببية مسألة احتمالية تخضع بالتالي لقوانين الاحتمال ببديهياتها المفترضة ويتم الاستدلال عليها استقرائيا. أما إذا رفضت تماما فإن ذلك الرفض يفتقر إلى دليل أولا، وثانيا لن يتمكن المذهب التجريبي أو التجربة من تنمية أي احتمال بعد ذلك الرفض فتسقط قيمة الاستقراء الذي بني عليه العلم، وهو ما نجد بالوجدان أنه لا معنى له، لاعتماد العلم عليه كليا.

    أما مبدأ الصدفة لا تكون أكثرية ولا دائمية، التي يفترضها المذهب العقلي معرفة قبلية، يرفض المذهب الذاتي أساسا افتراضها كمعرفة قبلية، بل تدخل هي الأخرى في نطاق الاستدلال الاستقرائي. وكذلك التماثل. أدلة كل واحد منها موكول إلى كتاب الأسس المنطقية للاستقراء، إن أحببت التوسع بإمكانك مراجعة الكتاب.

    مرحلة التوالد الموضوعي بطبيعتها مرحلة احتمالية، فهي تنمي الاحتمال إلى درجات كبيرة ولا يمكن أن تضفي عليه صفة اليقين مهما كبر كما ذكرتم فهي تبقى احتمالية، وهنا يأتي دور المرحلة الثانية وهي مرحلة التوالد الذاتي، وهذه المرحلة تفرض مصادرة تقوم بدورها بإضفاء صفة اليقين على ذلك الإحتمال.

    المنطق الاستقرائي وفقا لمبادئ المذهب الذاتي في المعرفة، يولد اليقين الموضوعي، ولذلك فإن نتائج الاستقراء وفق هذا المذهب ليست ظنية بل يقينية، والهدف الأساس من وراء هذا المذهب هو فتح الباب أمام المنطق الصوري لكي يدخل مجال الاستدلال، ويبدأ بأداء دوره في إنتاج اليقين المنطقي. إذن إنه يشكل القاعدة الأساس للمنطق الصورة في تأصيل المقدمات المنطقية وتأسيسها.

    أدعوك لقراءة المقالات العشر في باب المذهب الذاتي في نظرية المعرفة في هذه المدونة للاطلاع أكثر على ذينك المرحلتين وتفاصيلهما، وإذا أحببت التوسع أكثر، فبإمكانك مراجعة كتاب الأسس المنطقية للاستقراء لمؤلفه السيد محمد باقر الصدر..

    مع التحيات
    ليث

    ردحذف
  4. ملاحظة مهمة: إحدى أهم النتائج المترتبة على الدليل الاستقرائه ومدى ضمانه لليقين، هو أن نفس المنطق المستخدم في الدليل العلمي والتجربة العلمية، يمكن استخدامه في إثبات الصانع الحكيم، أي أنه بمثابة الأساس المشترك للعلوم الحديثة وللإيمان بالله تبارك وتعالى.

    فالمنطق التجريبي أو الملحد أو اللاديني الذي يؤمن بالعلم، يكون أمام خيارين: إما رفض الاستقراء وجميع أسسه وبالتالي انهيار الصرح العلمي بتمامه، وإما القبول به والقبول بالتالي بالدليل العلمي لإثبات الصانع الحكيم تبارك وتعالى.

    سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [فصلت : 53]

    تحياتي
    ليث

    ردحذف