الحلقة التاسعة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بالله في ضوء المذهب الذاتي

عرفنا سابقا أن الدليل العلمي لإثبات الصانع سبحانه وتعالى يتخذ منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات وهذا المنهج له صيغ معقدة وبدرجة عالية من الدقة وتقييمه الشامل يتم من خلال دراسة تحليلية كاملة للأسس المنطقية للاستقراء ونظرية الاحتمال وهذا ما حاول السيد الشهيد الصدر التوفر عليه في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء، ولكننا حاولنا قدر الإمكان أن نختصر قدر الإمكان الدراسة هنا، لكي يؤخذ هذا الاستدلال لإثبات الصانع الحكيم طابعا عموميا ويمكن الاستفادة منه بنحو أوسع فنحرص هنا على تفادي تلك الصعوبات والابتعاد عن أي صيغ معقدة أو تحليل عسير الفهم ولهذا سنقوم فيما يلي بأمرين:

  1. تحديد المنهج الذي سنتبعه في الاستدلال وتوضيح خطواته بصورة مبسطة وموجزة.
  2. تقييم هذا المنهج وتحديد مدى إمكان الوثوق به لا عن طريق تحليله منطقيا واكتشاف الأسس المنطقية والرياضية التي يقوم عليها بل نقيمه في ضوء تطبيقاته الأخرى العملية المعترف بها عموما لكل إنسان سوى.

فنوضح أن المنهج الذي يعتمده الدليل على وجود الصانع الحكيم هو نفس المنهج الذي نعتمده في استدلالاتنا التي نثق بها كل الثقة في حياتنا اليومية الاعتيادية أو في البحوث العلمية التجريبية على السواء. إن ما يأتي سيوضح بدرجة كافية إن منهج الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه وتعالى هو المنهج الذي نستخدمه عادة لإثبات حقائق الحياة اليومية والحقائق العلمية فما دمنا نثق به لإثبات هذه الحقائق فمن الضروري أن نثق به بصورة مماثلة لإثبات الصانع الحكيم الذي هو أساس تلك الحقائق جميعا فأنت في حياتك الاعتيادية حين تجد طبيبا نجح في علاج حالات مرضية كثيرة فتثق به وتتعرف على انه طبيب حاذق وحين تستعمل إبرة البنسلين في عشر حالات مرضية وتصاب فور استعمالها في كل مرة بأعراض متشابهة تستنتج من ذلك أن في جسمك حساسية خاصة تجاه مادة البنسلين أنت في كل هذه الاستدلالات وأشباهها تستعمل في الحقيقة منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات وهذا المنهج نفسه هو منهج الدليل الذي نجده فيما يأتي لإثبات الصانع الحكيم وهذا ما سنراه بكل وضوح عند استعراض ذلك الدليل.

تحديد المنهج وخطواته :

إن منهج الدليل الاستقرائي القائم على حساب الاحتمالات يمكن تلخيصه إذا توخينا البساطة والوضوح في الخطوات الخمس التالية:

أولا : نواجه في مجال الحس والتجربة ظواهر عديدة
ثانيا: ننتقل بعد ملاحظتها وتجميعها إلى مرحلة تفسيرها والمطلوب في هذه المرحلة أن نجد فرضية صالحة لتفسير تلك الظواهر وتبريرها جميعا ونقصد بكونها صالحة لتفسير تلك الظواهر أنها إذا كانت ثابتة في الواقع فهي تستبطن أو تتناسب مع وجود جميع تلك الظواهر التي هي موجودة فعلا.
ثالثا: نلاحظ أن هذه الفرضية إذا لم تكن صحيحة وثابتة في الواقع ففرصة وجود تلك الظواهر كلها مجتمعة ضئيلة جدا.
رابعا: نستخلص من ذلك أن الفرضية صادقة ويكون دليلنا على صدقها وجود تلك الظواهر التي أحسسنا بوجودها في الخطوة الأولى.
خامسا: إن درجة إثبات تلك الظواهر للفرضية المطروحة في الخطوة الثانية تناسب عكسيا مع نسبة احتمال وجود تلك الظواهر جميعا إلى احتمال عدمها أو عدم واحد منها على الأقل على افتراض كذب الفرضية فكلما كانت هذه النسبة أقل كانت درجة الإثبات أكبر حتى تبلغ في حالات اعتيادية كثيرة إلى درجة اليقين الكامل بصحة الفرضية وفقا للمرحلة الثانية من الدليل الاستقرائي.

هذه هي الخطوات التي نتبعها عادة في كل استدلال استقرائي يقوم على أساس حساب الاحتمال سواء في مجال الحياة الاعتيادية أو على صعيد البحث العلمي أو في مجال الاستدلال المقبل على الصانع الحكيم سبحانه وتعالى.

تقييم المنهج:

ولنقيم هذا المنهج من خلال التطبيقات والأمثلة، وسنبدأ بالأمثلة من الحياة الاعتيادية فحينما تتسلم رسالة بالبريد وتقراها فتتعرف على أنها من أخيك لا من شخص أخر ممن يرغب في مراسلتك تمارس بذلك استدلالا استقرائيا قائما على حساب الاحتمال ومهما كانت هذه القضية – وهي أن الرسالة من قبل أخيك – واضحة في نظرك فهي في الحقيقة قضية استنتجتها بدليل استقرائي وفقا للمنهج المتقدم.

فالخطوة الأولى تواجه فيها ظواهر عديدة من قبيل أن الرسالة تحمل اسما يتطابق مع اسم أخيك تماما وقد كتبت فيها الحروف جميعا بنفس الطريقة التي يكتب بها أخوك كذلك نفس طريقة الإملاء وبعض الأخطاء الإملائية الموجودة في الرسالة هي نفس الطريقة ونفس الأخطاء التي اعتادها أخوك في كتابته الخ.

وفي الخطوة الثانية تتساءل هل الرسالة قد أرسلها أخي إلى حقا أم هي من شخص أخر يحمل نفس الاسم؟ وهنا تجد أن لديك فرضية صالحة لتفسير وتبرير تلك الظواهر وهي أن تكون هذه الرسالة من أخيك حقا فإذا كانت من أخيك فمن الطبيعي أن تتوافر كل تلك المعطيات التي لاحظتها في المرحلة الأولى.

وفي الخطوة الثالثة تطرح على نفسك السؤال التالي إذا لم تكن هذه الرسالة من أخي بل كانت من شخص أخر فما هي فرصة أن تتوافر فيها كل تلك المعطيات والخصائص التي لاحظتها في الخطوة الأولى؟ إن هذه الفرصة بحاجة إلى مجموعة كبيرة من الافتراضات لأننا لكي نحصل على كل تلك المعطيات والخصائص في هذه الحالة يجب أن نفترض أن شخصا أخر يحمل نفس الأسلوب ويشابه أخاك تماما في طريقة إملاءه وأسلوبه الخ وهذه مجموعة من الصدف يعتبر احتمال وجودها جميعا ضئيلا جدا وكلما ازداد عدد هذه الصدف التي لابد من افتراضها تضاءل الاحتمال أكثر فأكثر والأسس المنطقية للاستقراء تعلمنا كيف نقيس الاحتمال وتفسر لنا كيف يتضاءل هذا الاحتمال ولماذا يتضاءل تبعا لازدياد عدد الصدف التي يفترضها (إلا إذا كان هناك تدخل من طرف آخر يقوم بعملية دقيقة لتقليد أسلوب خط أخيك وطريقته في الكتابة وما إلى ذلك، ويدل ذلك على انعدام الصدفة بل إن الدراسة الدقيقة والعمل الحذر هو الذي قاد الرسالة إلى أن تكون مزورة بشكل غاية في الدقة).

وفي الخطوة الرابعة تقول ما دام توافر كل هذه الظواهر في الرسالة أمر غير محتمل إلا بدرجة ضئيلة جدا على افتراض أن الرسالة ليست من أخيك فمن المرجح بدرجة كبيرة بحكم توافر هذه الظواهر فعلا أن تكون الرسالة من أخيك.

وفي الخطوة الخامسة تربط بين الترجيح الذي قررته في الخطوة الرابعة ومؤداه أن الرسالة قد أرسلت من أخيك وبين ضآلة الاحتمال التي قررتها في الخطوة الثالثة وهي ضآلة احتمال أن تتوافر كل تلك الظواهر في الرسالة بدون أن تكون من أخيك ويعني الربط بين هاتين الخطوتين أن درجة ذلك الترجيح تتناسب عكسيا مع ضالة هذا الاحتمال فكلما كان هذا الاحتمال أقل درجة كان ذلك الترجيح اكبر قيمة وأقوى إقناعا وإذا لم تكن هناك قرائن عكسية تنفي أن تكون الرسالة من أخيك فسوف تنتهي من هذه الخطوات الخمس إلى القناعة الكاملة بأن الرسالة من أخيك.

الاعتقاد بعقل الآخرين:

يتضح منشأ الاعتقاد بأن للناس الآخرين الذين نعاشرهم أو نطلع على إنتاج متسق ومفهوم لهم عقلا وتفكيرا فإذا ما قرأنا لشخص كتابا متسق المعنى نسلم بأنه عاقل ونرفض احتمال انه مجنون قد تجمعت لديه خواطر جنونية فأنتجت على سبيل الصدفة ذلك الكتاب وقد يخيل للإنسان الأرسطي التفكير أن الاستدلال على عقل هذا المؤلف عن طريق ما يتمثل في كتابه من اتساق ونضج فكري من نوع الاستدلال على وجود السبب بوجود مسببه ولكن الواقع أن الكتاب بقدر ما يتصل بمبدأ السببية لا يمكن أن يبرهن منطقيا- على أساس هذا المبدأ- على أن المؤلف إنسان يتمتع بمعرفة منظمة إذ كما يمكن أن يكون المؤلف لكتاب في اللغة على قدر من المعرفة باللغة أتاح له أن يكتب ذلك الكتاب كذلك يمكن أن يكون مجنونا تتابعت خواطر عشوائية في ذهنه فادت إلى تكون ذلك الكتاب وفي كلتا الحالتين يجد مبدأ السببية تطبيقه الضروري غير أن الدليل الاستقرائي هو الذي يعين الفرضية الأولى وينفي الفرضية الثانية وذلك لان الفرضية الثانية تتضمن عددا كبيرا من الافتراضات المستقلة بقدر فقرات الكتاب لأن كل فقرة من الكتاب إذا كانت نتيجة لخاطر جنوني فلا توجد أي علاقة تلازم بين كل فقرة والفقرات الأخرى وعلى العكس من ذلك الفرضية الأولى فإنها تتضمن عددا أقل من الافتراضات لأن المعرفة التي تفسر على أساس الفرضية الأولى فقرة معينة في الكتاب قد تكون بنفسها تفسر عددا أخر من الفقرات وهكذا تصبح المجموعة من الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الأولى أقل كثيرا من مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الثانية وينشأ على هذا الأساس علمان إجماليان:

أحدهما: العلم الإجمالي الذي يستوعب احتمالات مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الأولى لأن هذه الافتراضات إذا كانت ثلاثة مثلا رمزنا إليها ب ( أ , ب , ج ) ففيها ثمانية احتمالات هي احتمالات الصدق والكذب فيها، إذ قد يصدق الافتراض ( أ ) فقط وقد يصدق الافتراض ( ب ) فقط وقد يصدق الافتراض ( ج ) فقط، وقد تصدق كل هذه الافتراضات الثلاثة وهذا العلم الإجمالي ينفي الفرضية الأولى بقيمة احتمالية كبيرة لأن كل أطرافه باستثناء طرف واحد وهو افتراض أن يصدق أ و ب و ج جميعا في صالح نفي الفرضية الأولى وهذا الطرف الوحيد حيادي تجاه ذلك لأن أ و ب وج إذا كانت جميعا صادقة فقد يكون الكتاب نتيجة لمعرفة وقد يكون نتيجة لجرة قلم عشوائية.

والأخر: العلم الإجمالي الذي يستوعب احتمالات مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الثانية ولما كانت هذه المجموعة أكبر عددا من مجموعة الافتراضات المستقلة التي تتطلبها الفرضية الأولى فسوف يكون عدد أطراف هذا العلم الإجمالي أكثر وهذا العلم ينفي الفرضية الثانية بقيمة احتمالية أكبر من القيمة التي أعطاها العلم الإجمالي الأول لنفي الفرضية الأولى.

إثبات الصانع بالدليل الاستقرائي:

بدلا عن الكتاب يمكن أن نفترض مجموعة من الظواهر في العالم موضوعا للاستقراء وبدلا عن استخدام الدليل الاستقرائي لإثبات أن مؤلف الكتاب إنسان عالم لا إنسان مجنون يمكننا أن نستخدمه لإثبات صانع حكيم لتلك المجموعة من الظواهر وذلك بإتباع نفس الخطوات الخمس السابقة:

الخطوة الأولى: نلاحظ توافقا مطردا بين عدد كبير وهائل من الظواهر المنتظمة وبين حاجة الإنسان ككائن حي وتيسير الحياة له على نحو نجد أن أي بديل لظاهرة من تلك الظواهر يعني انطفاء حياة الإنسان على الأرض أو شلها وفيما يلي نذكر عددا من تلك الظواهر كأمثلة: تتلقى الأرض من الشمس كمية من الحرارة تمدها بالدفء الكافي لنشوء الحياة وتوفير حاجة الكائن الحي إلى الحرارة لا أكثر ولا أقل وقد لوحظ علميا أن المسافة التي تفصل بين الأرض والشمس تتوافق توافقا كاملا مع كمية الحرارة المطلوبة من اجل الحياة على هذه الأرض فلو كانت ضعف ما عليها الآن لما وجدت حرارة بالشكل الذي يتيح الحياة ولو كانت نصف ما عليها الآن لتضاعفت الحرارة إلى الدرجة التي لا تطيقها حياة ونلاحظ ظاهرة طبيعية تتكرر باستمرار ملايين المرات على مر الزمن تنتج الحفاظ على قدر معين من الأوكسجين باستمرار وهي أن الإنسان والحيوان عموما حينما يتنفس الهواء ويستنشق الأوكسجين يتلقاه الدم ويوزع في جميع أرجاء الجسم ويباشر هذا الأوكسجين في حرق الطعام وبهذا يتولد ثاني أوكسيد الكربون الذي يتسلل عبر الدم إلى الرئتين ثم يلفظه الإنسان وبهذا ينتج الإنسان وغيره من الحيوانات هذا الغاز باستمرار وهذا الغاز بنفسه شرط ضروري لحياة كل نبات والنبات بدوره حين يستمد ثاني اوكسيد الكربون يفصل الأوكسجين منه ويلفظه ليعود نقيا صالحا للاستنشاق من جديد ونلاحظ أن القمر الذي يبعد عن الأرض مسافة محددة وهي تتوافق تماما مع تيسير الحياة العملية للإنسان على الأرض ولو كان يبعد عنا مسافة قصيرة نسبيا لتضاعف المد الذي يحدثه وأصبح من القوة على نحو يزيح الجبال من مواضعها ونلاحظ أن قشرة الأرض والمحيطات تحتجز على شكل مركبات الجزء الأعظم من الأوكسجين حتى انه يكون ثمانية من عشرة من جميع المياه في العالم وعلى الرغم من ذلك ومن شدة تجاوب الأوكسجين من الناحية الكيماوية للاندماج على هذا النحو فقد ظل جزء محدود منه طليقا يساهم في تكوين الهواء وهذا الجزء يحقق شرطا ضروريا من شروط الحياة.

الخطوة الثانية: نجد أن هذا التوافق المستمر بين الظاهرة الطبيعية ومهمة ضمان الحياة وتيسيرها في ملايين الحالات يمكن أن يفسر جميع هذه المواقع بفرضية واحدة وهي أن نفترض صانعا حكيما لهذا الكون قد استهدف أن يوفر في هذه الأرض عناصر الحياة وييسر مهمتها فان هذه الفرضية تستبطن كل هذه التوافقات

الخطوة الثالثة: نتساءل إذا لم تكن فرضية الصانع الحكيم ثابتة في الواقع فما هو مدى احتمال أن تتواجد كل تلك التوافقات بين الظواهر الطبيعية ومهمة تيسير الحياة دون أن يكون هناك هدف مقصود؟ ومن الواضح أن احتمال ذلك يعني افتراض مجموعة هائلة من الصدف.

الخطوة الرابعة: نرجح بدرجة لا يشوبها الشك أن تكون الفرضية التي طرحناها في الخطوة الثانية صحيحة أي أن هناك صانعا حكيما.

الخطوة الخامسة: نربط بين هذا الترجيح وبين ضالة الاحتمال التي قررناها في الخطوة الثالثة ولما كان الاحتمال في الخطوة الثالثة يزداد ضالة كلما ازداد عدد الصدف التي لابد من افتراضها فيه كما عرفنا سابقا فمن الطبيعي أن يكون هذا الاحتمال ضئيلا بدرجة لا تماثلها احتمالات الخطوة الثالثة في الاستدلال على أي قانون علمي لأن عدد الصدف التي لابد من افتراضها في احتمال الخطوة الثالثة هنا أكثر من عددها في أي احتمال مناظر وكل احتمال من هذا القبيل فمن الضروري أن يزول.

وبذلك نصل إلى دليل استقرائي على إثبات الصانع الحكيم، ومنه نستطيع أن نقول بأن رفض هذا الاستدلال المبني على نظرية الاحتمال إنما ينفي جميع العلوم التجريبية، لأنها جميعا قائمة على نظرية الاحتمال والدليل الاستقرائي لتصل إلى نتائجها، وبذلك لا يمكن أن نفصل بيها وبين إثبات الصانع بهذا الطريق العلمي، والحمد لله رب العالمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق