الرسُول

بسم الله الرحمن الرحيم

  • تمهيد عن الظاهرة العامة للنبوة
كل شيء في هذا الكون الواسع يحمل معه قانونه الرباني الصارم الذي يوجهه ويرتفع به مدى ما يتاح له من ارتفاع وتطور، فالبذرة يتحكم فيها قانونها الذي يحولها ضمن شروط معينة إلى شجرة، والنطفة يتحكم فيها قانونها الذي يطورها إلى إنسان، وكل شيء من الشمس إلى البروتون ومن الكواكب السيارة في مدار الشمس إلى الإلكترونات السيارة في مدار البروتون يسير وفق خطة ويتطور وفق إمكاناته الخاصة.

وهذا التنظيم الرباني الشامل امتد بحكم الاستقراء العلمي إلى كل جوانب الكون وظواهره. وقد تكون أهم ظاهرة في الكون هي ظاهرة الاختيار لدى الإنسان (الإرادة الحرة)، فان الإنسان كائن مختار، ويعني ذلك أنه كائن هادف أي يعمل من أجل هدف يتوخى تحقيقه بذلك العمل، فهو يحفر الأرض من أجل أن يستخرج ماء، ويطهي الطعام من أجل أن يأكل طعاماً لذيذاً ويجرب ظاهرة طبيعية من أجل أن يتعرف على قانونها وهكذا، بينما الكائنات الطبيعية البحتة تعمل من أجل أهداف مرسومة من قبل واضع الخطة لا من أجل أهداف تعيشها هي وتتوخى تحقيقها، فالرئة والمعدة والأعصاب في ممارسة وظائفها الفسيولوجية تعمل عملا هادفاً ولكن الهدف هنا لا تعيشه هي من خلال نشاطها الطبيعي والفسيولوجي الخاص، وإنما هو هدف الصانع الخبير.

ولما كان الإنسان كائناً هادفاً ترتبط مواقفه العملية بأهداف يعيها ويتصرف بموجبها فهذا يفترض ضمنا أن الإنسان في مواقفه العملية هذه ليس مسيرا وفق قانون طبيعي صارم كما نسقط‍ قطرة المطر في مسار محدد وفقا لقانون الجاذبية، لأنه في حالة من هذا القبيل لا يمكن أن يكون هادفاً (أي يعمل من أجل هدف يعيش في داخل نفسه).

فلكي يكون الإنسان هادفاً، لابد أن يكون حرا في التصرف، لكي يتاح له أن يتصرف وفقاً لما تنشأ في نفسه من أهداف، فالترابط بين المواقف العملية والأهداف هو القانون الذي ينظم ظاهرة الاختيار لدى الإنسان، كما إن الهدف بدوره لا يتواجد بصورة عشوائية فان كل إنسان يحدد أهدافه وفقاً لما تتطلبه مصلحته وذاته من حاجات، وهذه الحاجات تحددها البيئة والظروف الموضوعية التي تحيط بالإنسان غير أن هذه الظروف الموضوعية لا تحرك الإنسان مباشرة كما تحرك العاصفة أوراق الشجر لان هذا يعطل دوره ككائن هادف، فلابد للظروف الموضوعية إذن من تحريك الإنسان عن طريق الإثارة والإيحاء بتبني أهداف معينة، وهذه الإثارة ترتبط بادراك الإنسان للمصلحة في موقف عملي معين.

ولكن ليست كل مصلحة تحقق إثارة للفرد وإنما تحققها تلك المصالح التي يدرك الفرد أنها مصالح له بالذات، وذلك أن المصالح على قسمين: فهناك مصالح على خط قصير تعود بالنفع غالباً على الفرد الهادف العامل نفسه، ومصالح على خط طويل تعود بالنفع على المجتمع، وكثيراً ما تتعارض مصالح الفرد ومصالح المجتمع، وهكذا نلاحظ -من ناحية- أن الإنسان غالباً لا يتحرك من أجل المصلحة لقيمها الإيجابية، بل بقدر ما تحقق له من نفع خاص، ونلاحظ من -ناحية أخرى- أن خلق الظروف الموضوعية لضمان تحرك الإنسان وفق مصالح الجماعة شرط ضروري لاستقرار الحياة ونجاحها على الخط الطويل.

وعلى هذا الأساس واجه الإنسان تناقضاً بين ما تفرضه سنة الحياة واستقرارها من سلوك موضوعي واهتمام بمصالح الجماعة وما تدعو إليه نوازع الفرد واهتمامه بشخصه من سلوك ذاتي واهتمام بالمنافع الآنية الشخصية. وكان لابد صيغة تحل هذا التناقض وتخلق تلك الظروف الموضوعية التي تدعو إلى تحرك الإنسان وفق مصالح الجماعة.

والنبوة بوصفها ظاهرة ربانية في حياة الإنسان، هي القانون الذي يتجاوز الخط القصير لحياة الإنسان ومصالحه فيها، إلى مصالح الفرد على خطه الطويل، وذلك عن طريق إشعاره بالامتداد بعد الموت والانتقال إلى ساحة العدل والجزاء التي يحشر الناس فيها ليروا أعمالهم [فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره]. وبذلك تصبح مصالح المجتمع مصالح للفرد نفسه على هذا الخط الطويل.

وصيغة الحل هذه تتألف من نظرية وممارسة تربوية معينة للإنسان على أساسها، والنظرية هي المعاد (يوم القيامة)، والممارسة التربوية على هذه النظرية، هي عبارة عن عملية قيادية ربانية ولا يمكن إلا أن تكون ربانية، لأنها عملية تعتمد على اليوم الآخر أي على الغيب فلا توجد إلا بوحي السماء وهي النبوة.

ومن هنا كانت النبوة والمعاد واجهتين لصيغة واحدة هي الحل الوحيد لذلك التناقض الشامل في حياة الإنسان وتشكل الشرط الأساسي لتنمية ظاهرة الاختيار وتطويرها في خدمة المصالح الحقيقية للإنسان.

  • إثبات نبوة الرسول الأعظم محمد(ص)
كما ثبت الصانع الحكيم بالدليل الاستقرائي ومناهج الاستدلال العلمي كذلك تثبت نبوة محمد (صلى اللّه عليه وآله) بالدليل العلمي الاستقرائي وبنفس المناهج التي نستخدمها في الاستدلال على الحقائق المختلفة في حياتنا الاعتيادية وحياتنا العلمية.

ولنمهد لذلك بأمثلة أيضاً:

إذا تسلم الإنسان رسالة من أحد أقاربه وكان هذا القريب صبياً يدرس في مدرسة ابتدائية بأحد الأرياف، فلاحظ الإنسان الذي تسلم الرسالة أنها قد كتبت بلغة حديثة وبعبارات مركزة وبليغة وبقدرة فنية فائقة على تنسيق الأفكار وعرضها بصورة مثيرة، إذا تسلم الإنسان رسالة من هذا القبيل فسوف يستنتج أن شخصاً مثقفاً واسع الاطلاع قوي العبارة قد أملى الرسالة على هذا الصبي أو شيئاً من هذا القبيل، وإذا أردنا أن نحلل هذا الاستنتاج والاستدلال نجد أن بالإمكان تجزئته إلى الخطوات التالية:

الأولى: إن كاتب الرسالة صبي ريفي ويدرس في مدرسة ابتدائية.
الثانية: إن الرسالة تتميز باسلوب بليغ ودرجة كبيرة من الإجادة الفنية وقدرة فائقة على تنسيق الأفكار.
الثالثة: إن الاستقراء يثبت في الحالات المماثلة أن صبياً بتلك المواصفات التي تقدمت في الخطوة الأولى لا يمكنه أن يصوغ رسالة بالمواصفات التي لوحظت في الخطوة الثانية.
الرابعة: يستنتج من ذلك إذن إن الرسالة من نتاج شخص آخر استطاع ذلك الصبي بشكل وآخر أن يستفيد منه ويسجله في رسالته.

ومثال آخر للفكرة نفسها من الأدلة العلمية وهو الدليل الذي اثبت به العلماء وجود الإلكترون، فقد درس بعض العلماء أشعة الكاثود، تم توليدها في انبوب أشعة الكاثود ، ثم سلط على وسط الانبوب قطعة مغناطيس على شكل حدوة حصان، ووضع لوحة حساسة في مقابل الأشعة لتظهر نقطة اصطدام الأشعة باللوحة كنقطة، فلاحظ أن الأشعة تميل إلى القطب الموجب من المغناطيس وتبتعد عن القطب السالب منه وكرر التجربة في ظروف مختلفة حتى تأكد من أن تلك الأشعة تنجذب بالمغناطيس وان القطب الموجب في المغناطيس هو الذي يجذبها، ولما كان هذا العالم يعرف باستقرائه ودراسته للإشعاعات الأخرى كالضوء الاعتيادي أنها لا تتأثر بالمغناطيس ولا تنجذب إليه وان المغناطيس يجذب الأجسام لا الأشعة، أمكنه أن يدرك أن انجذاب الأشعة التي كان يجري عليها تجاربه وميلها إلى القطب الموجب من المغناطيس لا يمكن أن يفسر على أساس المعلومات المفترضة، أي أنها ليست أشعة متعادلة، ومن هنا اكتشف عاملا إضافياً وحقيقة جديدة وهي أن هذه الأشعة تتألف من أجسام دقيقة سالبة موجودة في جميع المواد لأنها تنبعث من مختلف المواد وسميت هذه الجسيمات بالإلكترونات.

وتتخلص عملية الاستدلال في كلا هذين المثالين -مثال الرسالة ومثال الإلكترون- في أنه كلما لوحظت ظاهرة معينة ضمن عوامل وظروف محسوسة ولوحظ استقرائياً إن هذه العوامل والظروف المحسوسة في الحالات المماثلة لا تؤدي إلى نفس الظاهرة فيدل ذلك على وجود عامل آخر غير منظور لابد من افتراضه لتفسير تلك الظاهرة.

وبكلمة أخرى إن النتيجة إذا كانت اكبر من الظروف والعوامل المحسوسة بحكم الاستقراء للحالات المماثلة، كشفت عن وجود شيء غير منظور وراء تلك الظروف والعوامل المحسوسة.

وهذا ما يصدق تماماً على نبوة الرسول الأعظم محمد (صلى اللّه عليه وآله وسلم) والرسالة باسم السماء وذلك ضمن الخطوات التالية:

  • الأولى: إن هذا الشخص الذي أعلن رسالته على العالم باسم السماء ينتسب إلى شبه الجزيرة العربية التي كانت من أشد أجزاء الأرض تخلفاً في ذلك الحين من الناحية الحضارية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وينتمي إلى الحجاز بالذات من أقطار تلك الجزيرة وهو قطر لم يمر حتى تاريخياً بمثل الحضارات التي نشأت قبل ذلك بمئات السنين في مواضع أخرى محددة من تلك الجزيرة، ولم يعرف أي تجربة اجتماعية متكاملة، ولم ينل هذا القطر من ثقافة عصره -على الرغم من انخفاضها عموماً- شيئاً يذكر، ولم ينعكس على أدبه وشعره شيء ملحوظ من أفكار العالم وتياراته الثقافية وقتئذ، وكان منغمساً من الناحية العقائدية في فوضى الشرك والوثنية، ومفككاً اجتماعياً تسيطر عليه عقلية العشيرة (أي القَبَلِيّة) وتلعب فيه الانتماءات إلى هذه العشيرة أو تلك الدور الأساسي في أكثر أوجه النشاط بكل ما يؤدي إليه ذلك من التناقضات وألوان الغزو والصراع الرخيص، ولم يكن البلد الذي نشأ فيه هذا الرسول قد عرف أي شكل من أشكال الحكم سوى ما يفرضه الولاء للقبيلة.

ولم يكن وضع القوى المنتجة والظروف الاقتصادية في ذلك الجزء من العالم يتميز عن اكثر بقاع العالم المتخلف حينذاك.

وحتى القراءة والكتابة بوصفها أبسط أشكال الثقافة كانت حالة نادرة نسبياً في تلك البيئة إذ كان المجتمع أمياً على العموم [هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم للكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل في ضلال مبين].

وكان شخص النبي (ص) يمثل الحالة الاعتيادية من هذه الناحية فلم يكن قبل البعثة يقرأ ويكتب ولم يتلق أي تعليم منظم أو غير منظم [وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون].

وهذا النص القرآني دليل واضح على مستوى ثقافة الرسول قبل البعثة وهو دليل حاسم حتى في حق من لا يؤمن بربانية القرآن لأنه على أي حال نص أعلنه النبي (ص) على بني قومه وتحدث به إلى اعرف الناس بحياته وتاريخه فلم يعترض أحد على ما قال، ولم ينكر أحد ما ادعى، بل نلاحظ‍ أن النبي لم يساهم قبل البعثة حتى في ألوان النشاط الثقافي الذي كان شائعاً في قومه من شعر وخطابة، ولم يعرف عنه أي تميز عن أبناه قومه إلا في التزاماته الخلقية وأمانته ونزاهته وصدقه وعفته، وقد عاش أربعين سنة قبل البعثة في قومه دون أن يحس الناس من حوله بأي شيء يميزه عنهم سوى ذلك السلوك النظيف، ودون أن تبرز في حياته أي بذور عملية أو اتجاهات جادة نحو عملية التغيير الكبرى التي طلع بها على العالم فجأة بعد أربعين عاماً من عمره الشريف.

[قل لو شاء اللّه ما تلوته عليكم ولا أدريكم به فقد لبثت فيكم عمراً من قبله أفلا تعقلون].

و كان النبي (ص) قد ولد في مكة وظل فيها طيلة الفترة التي سبقت البعثة ولم يغادرها إلى خارج الجزيرة العربية إلا في سفرتين قصيرتين إحداهما: مع عمه أبي طالب وهو صبي في أوائل العقد الثاني، والأخرى: بأموال خديجة وهو في أواسط العقد الثالث.

ولم يتيسر له بحكم عدم تعلمه للقراءة والكتابة أن يقرأ شيئاً من النصوص الدينية لليهودية أو المسيحية، كما لم يتسرب إليه أي شيء ملحوظ من تلك النصوص عن طريق البيئة لان مكة كانت وثنية في أفكارها وعاداتها ولم يتسرب إليها الفكر المسيحي أو اليهودي ولم يدخل الدير إلى حياتها بشكل من الأشكال، وحتى أولئك الحنفاء الذين رفضوا عبادة الأصنام من عرب مكة لم يكونوا قد تأثروا باليهودية أو المسيحية ولم ينعكس شيء من الأفكار اليهودية والمسيحية على ما خلّفه قس بن ساعدة أو غيره من تراث أدبي وشعري.

ولو كان النبي (ص) قد بذل أي جهد للاطلاع على مصادر الفكر اليهودي والمسيحي للاحظ ذلك أبناء قومه، إذ في بيئة ساذجة ومنقطعة الصلة بمصادر الفكر اليهودي والمسيحي، لا يمكن أن تمر محاولة من هذا القبيل دون أن تلفت الأنظار ودون أن تترك بصماتها على كثير من التحركات والعلاقات.

  • الثانية: إن الرسالة التي طلع بها النبي (ص) على العالم متمثلة في القرآن الكريم والشريعة الإسلامية تميزت بخصائص كثيرة:
منها: أنها جاءت بنمط فريد من الثقافة الإلهية عن اللّه سبحانه وتعالى وصفاته وعلمه وقدرته، ونوع العلاقات بينه وبين الإنسان، ودور الأنبياء في هداية البشرية ووحدة رسالتهم وما تميزوا به من قيم ومثل وسنن اللّه تعالى مع أنبيائه والصراع المستمر بين الحق والباطل والعدل والظلم والارتباط الوثيق المستمر لرسالات السماء بالمظلومين والمضطهدين وتناقضها المستمر مع أصحاب المصالح والامتيازات غير المشروعة.

وهذه الثقافة الإلهية لم تكن اكبر من الوضع الفكري والديني لمجتمع وثني منغمس في عبادة الأصنام فحسب، بل كانت اكبر من كل الثقافات الدينية التي عرفها العالم يومئذ، حتى أن أي مقارنة تبرز بوضوح أنها جاءت لتصحح ما في تلك الثقافات من أخطاء وتعدل ما أصابها من انحراف وتعيدها إلى حكم الفطرة والعقل السليم.

وقد جاء كل ذلك على يد إنسان أمي في مجتمع وثني شبه معزول لا يعرف من ثقافة عصره وكتبه الدينية شيئاً يذكر فضلاً عن أن يكون بمستوى القيمومة والتصحيح والتطوير.

ومنها: أنها جاءت بقيم ومفاهيم عن الحياة والإنسان والعمل والعلاقات الاجتماعية وجسدت تلك القيم والمفاهيم في تشريعات وأحكام، وكانت تلك القيم والمفاهيم وهذه التشريعات والأحكام حتى من وجهة نظر من لا يؤمن بربانيتها، من أنفس وأروع ما عرفه تاريخ الإنسان من قيم حضارية وتشريعات اجتماعية.

فأبن مجتمع القبيلة ظهر على مسرح العالم والتاريخ فجأة لينادي بوحدة البشرية ككل. وابن البيئة التي كرست ألواناً من التمييز والتفضيل على أساس العرق والنسب والوضع الاجتماعي ظهر ليحطم كل تلك الألوان ويعلن أن الناس سواسية كأسنان المشط، و [إنَّ أكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أتْقَاكَمْ]، وليحول هذا الإعلان إلى حقيقة يعيشها الناس انفسهم، ويرفع المرأة الموؤدة إلى مركزها الكريم كإنسان تكافئ الرجل في الإنسانية والكرامة. وابن الصحراء التي لم تكن تفكر إلا في همومها الصغيرة وسد جوعتها والتفاخر بأبنائها ضمن تقسيمها العشائري ظهر ليقودها إلى حمل اكبر الهموم ويوحدها في معركة تحرير العالم وإنقاذ المظلومين في شرق الدنيا وغربها من استبداد كسرى وقيصر.

وابن ذلك الفراغ الشامل سياسياً واقتصادياً بكل ما يضج به من تناقضات الربا والاحتكار والاستغلال، ظهر فجأة ليملا ذلك الفراغ ويجعل من ذلك المجتمع الفارغ مجتمعاً ممتلئاً له نظامه في الحكم وشريعته في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية ويقضي على الربا والاحتكار والاستغلال، ويعيد توزيع الثروة على أساس أن لا تكون دولة بين الأغنياء، ويعلن مبادئ التكافل الاجتماعي والضمان الاجتماعي التي لم تناد بها التجربة الاجتماعية البشرية إلا بعد ذلك بمئات السنين. وكل هذه التحولات الكبيرة تمت في مدة قصيرة جداً نسبياً في حساب التحولات الاجتماعية.

ومنها: إن الرسالة في نصوص قرآنية كثيرة تحدثت عن تاريخ الأنبياء وأممهم وما مرت بهم من وقائع وأحداث بتفاصيل لم تكن بيئة النبي العربي الوثنية والأمية تعرف شيئاً عنها، وقد تحدى علماء الكتاب (علماء اليهود والنصارى) النبي (صلى اللّه عليه وآله) اكثر من مرة وطالبوه بالحديث عن تاريخ تراثهم الديني فواجه التحدي بكل شجاعة وجاء القرآن بما طلبوا دون أن تكون هناك أي وسيلة اعتيادية لتفسير اطلاع النبي شخصياً على تلك التفاصيل.

[وما كنت بجانب الغربي إذ قضينا إلى موسى الأمر وما كنت من الشاهدين، ولكنا أنشأنا قروناً فتطاول عليهم العمر وما كنت ثاوياً في أهل مدين تتلوا عليهم آياتنا ولكنا كنا مرسلين، وما كنت بجانب الطور إذ نادينا ولكن رحمة من ربك لتنذر قوماً ما أتيهم من نذير من قبلك لعلهم يتذكرون] القصص: 44-46.

ومما يبهر الملاحظ أن القصص الحق في القرآن لا يمكن أن تكون مجرد استنساخ لما جاء في كتب العهدين (العهد القديم التوراة، والعهد الجديد الإنجيل) حتى لو افترضنا أن أفكار هذه الكتب كانت شائعة ومنتشرة في الوسط الذي ظهر فيه النبي، لان الاستنساخ يمثل دوراً سلبياً فقط دور الأخذ والعطاء بينما دور القرآن في عرض القصة إيجابي فانه يصحح ويعدل، ويفصل القصة عما الصقه بها من ملابسات لا تتفق مع فطرة التوحيد والعقل المستنير والرؤية الدينية السليمة.

ومنها: إن القرآن بلغ في روعة بيانه وبلاغته وتجديده في أساليب البيان إلى درجة جعلت منه -حتى من وجهة نظر غير المؤمنين بربانيته- حداً فاصلا بين مرحلتين من تاريخ اللغة العربية وأساساً لتحول هائل في هذه اللغة وأساليبها.

وقد أحس العرب الذين حدثهم النبي بالقرآن بأنه لا يشبه إطلاقاً ما تعودوا عليه من أساليب البيان وما نشأوا عليه واتقنوه من طرق التعبير حتى قائل قائلهم حين استمع إلى القرآن: "واللّه لقد سمعت كلاماً ما هو من كلام الأنس ولا من كلام الجن وان له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وان أعلاه لمثمر وإن أسلفه لمغدق وانه ليعلو وما يعلى وانه ليحطم ما تحته".

وكانوا لا يسمحون لأنفسهم بالاستماع إلى القرآن إحساساً منهم بأثره الهائل وخوفاً من قدرته الفائقة على تغيير نفوسهم، وهذا دليل على التميز الهائل للبيان القرآني وعدم كونه استمراراً منظوراً لما تعودوا عليه.

وقد استسلموا أمام التحدي المستمر والمتصاعد الذي واجههم النبي به، إذ أعلن تارة عجزهم مجتمعين عن الإتيان بعشر سور مفتريات من مثله، وأكد ثانية على عجزهم عن الإتيان بعشر سور مفتريات من مثله وشدد ثالثة على عجزهم عن الإتيان بما يناظر سورة واحدة من القرآن الكريم.

أعلن النبي ذلك وكرره على مجتمع لم يعرف صناعة كما عرف صناعة الكلام، ولم يتقن فناً كما أتقن فن الحديث، ولم يتعود على شيء كما تعود على مجابهة التحدي والتغني بالأمجاد، ولم يحرص على أمر كما حرص على إطفاء نور الرسالة الجديدة وتطويقها، ومع ذلك كله لم يشأ هذا المجتمع الذي واجه تلك التحديات الكبيرة أن يجرب نفسه ولم يحاول أن يعارض القرآن بشيء إيماناً منه بأن الأدب القرآني فوق قدرته اللغوية والفنية.

والطريف، إن الذي كان يحمل إليهم هذا الزاد الأدبي الجديد على حياتهم إنسان مكث فيهم أربعين سنة فلم يعهدوا له مشاركة في حلبة أدبية ولا تميزاً في أي فن من فنون القول.

هذا عدد من خصائص الرسالة التي أعلنها النبي صلى اللّه عليه وآله على العالم.

وهنا يأتي دور الخطورة الثالثة لنؤكد على أساس الاستقراء العلمي في تاريخ المجتمعات، إن هذه الرسالة بتلك الخصائص التي درسناها في الخطوة الثانية هي أكبر بدرجة هائلة من الظروف والعوامل التي مر استعراضها في الخطوة الأولى فان تاريخ المجتمعات وإن كان قد شهد في حالات كثيرة إنساناً يبرز على صعيد مجتمعه فيقوده ويسير به خطوة إلى الأمام غير انا هنا لا نواجه حالة من تلك الحالات لوجود فوارق كبيرة.

فمن ناحية نحن نواجه هنا طفرة هائلة وتطوراً شاملا في كل جوانب الحياة وانقلاباً في القيم والمفاهيم التي تتصل بمختلف مجالات الحياة إلى الأفضل بدلاً عن مجرد خطوة إلى الأمام. إن مجتمع القبيلة قفز مباشرة على يد النبي إلى الإيمان بفكرة المجتمع العالمي الواحد، وإن المجتمع الوثني قفز قفزة واحدة إلى دين التوحيد الخالص للذي صحح كل أديان التوحيد الأخرى وأزال عنها ما علق بها من زيف وأساطير.

وان المجتمع الفارغ تماماً تحول إلى مجتمع ممتلئ تماماً، بل إلى مجتمع قائد يشكل الطليعة لحضارة أنارت الدنيا كلها.

ومن ناحية أخرى إن أي تطور شامل في مجتمع إذا كان وليد الظروف والمؤثرات المحسوسة فلا يمكن أن يكون مرتجلاً ومفاجئاً ومنقطع الصلة عن مراحل تمهد له، وعن تيار يسبقه ويظل ينمو ويمتد فكرياً وروحياً حتى تنضج في داخله القيادة الكفوءة لتزعمه وللعمل من أجل تطوير المجتمع على أساسه.

إن دراسة مقارنة لتاريخ عمليات التطور في مختلف المجتمعات، يوضح أن كل مجتمع يبدأ فيه هذا التطور فكرياً على شكل بذور متفرقة في أرضية ذلك المجتمع، وتتلافى هذه البذور فتكون تياراً فكرياً وتتحدد بالتدريج معالم هذا التيار وتنضج في داخله القيادة التي تتزعمه حتى يبرز على المسرح كواجهة لجزء يعيش في المجتمع تناقض الواجهة الرسمية التي يحملها المجتمع ومن خلال الصراع يتسع هذا التيار حتى يسيطر على الموقف.

وخلافاً لذلك نجد أن محمداً(ص) في تاريخ الرسالة الجديدة لم يكن حلقة من سلسلة، ولم يكن يمثل جزاً من تيار ولم تكن للأفكار والقيم والمفاهيم التي جاء بها بذور أو رصيد في أرضية المجتمع الذي نشأ فيه، وأما التيار الذي تكون من صفوة المسلمين الأوائل على يد النبي فقد كان من صنع الرسالة والقائد ولم يكن هو المناخ المسبق الذي ولدت فيه الرسالة وتكون فيها القائد، ومن أجل ذلك نجد أن الفارق بين عطاء النبي وعطاء أي واحد من هؤلاء لم يكن فارق درجة كالفوارق التي تبدو بين عنصر في حركة ما وعنصر آخر في نفس الحركة، بل كان فارقاً أساسياً، وهذا يبرهن على أن محمداً لم يكن جزاً من تيار بل كان التيار الجديد جزاً منه.

ومن ناحية ثالثة يبرهن التاريخ على أن القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية لتيار جديد إذا تركزت كلها في محور واحد (أي تتمركز حول شخص واحد) من خلال حركة تطور فكري واجتماعي معين، فلابد أن يكون في هذا المحور من القدرة والثقافة والمعرفة ما يتناسب مع ذلك، ولابد من أن يكون تواجدها فيه طبقاً لما يعرف عادة من أساليب في حياة الناس، ولابد من ممارسة متدرجة أنضجته ووضعته على خط القيادة لذلك التيار، وخلافاً لذلك نجد أن محمداً (ص) قد مارس بنفسه القيادة الفكرية والعقائدية والاجتماعية دون أن يكون تاريخه كانسان أمي لم يقرأ ولم يكتب ولم يعرف شيئاً من ثقافة عصره وأديانه المتقدمة يرشحه لذلك من الناحية الثقافية، ودون أن تكون له أي ممارسات تمهيدية لهذا العمل القيادي المفاجئ.

وعلى ضوء ذلك كله ننتهي إلى الخطوة الرابعة التي نواجه فيها التفسير الوحيد المعقول والمقبول للموقف وهو افتراض عامل إضافي وراء الظروف والعوامل المحسوسة وهو عامل الوحي، عامل النبوة الذي يمثل
تدخل السماء في توجيه الأرض.

[وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهتدي إلى صراط‍ مستقيم] الشورى : 52.

  • دور العوامل والمؤثرات
ولا يعني تفسير الرسالة على أساس الوحي والإمداد من السماء بدلاً عن العوامل والظروف المحسوسة إلغاء هذه العوامل والظروف عن التأثير نهائياً، بل إنها مؤثرة وفقاً للسنن الكونية والاجتماعية العامة ولكن تأثيرها إنما هو في سير الأحداث ومدى ما ينجم عنها من مؤثرات لصالح نجاح الرسالة أو لإعاقتها عن النجاح.

فالرسالة -كمحتوى- حقيقة ربانية فوق الشروط والظروف المادية ولكنها بعد أن تحولت إلى حركة، وإلى عمل متواصل في سبيل التغيير يصبح بالإمكان ربطها بظروفها وما يحيط من ملابسات وأحاسيس.

فإذا قيل مثلاً: إن شعور الإنسان العربي بالتمزق والضياع وهو يجد آلهته ومثله الأعلى متجسدا في حجر يحطمه في لحظة غضب أو حلوى يلتهمها في لحظة جوع جعله يتطلع إلى الرسالة الجديدة.

أو قيل مثلاً: إن شعور البائس والكادح في المجتمع العربي بالظلم والتعسف من قبل المرابين والمستغلين دفعه إلى تأييد حركة جديدة ترفع راية العدالة وتقضي على رأس المال الربوي.

أو قيل: إن الشعور القبلي لعب دوراً مهماً في حياة الرسالة سواءاً ما كان منها على مستوى محلي كمشاعر الصراع والتنافس بين قبائل قريش وما أسبغه انتماء النبي إلى عشيرته من حصانة وهيبة حمته من الأعداء، أو ما كان منها على مستوى قومي كمشاعر عرب جنوب الجزيرة تجاه شمالها.

أو قيل: إن ظروف العالم المتداعي والأحوال المحرجة التي مرت بها الدولتان العظيمتان الرومانية والفارسية على المسرح الدولي وقتئذ أشغلت هاتين القوتين الكبيرتين بنفسيهما وحالات دون تدخلها السريع في إجهاض الحركة الجديدة في الجزيرة العربية.

إذا قيل شيء من هذا القبيل فهو أمر معقول وقد يكون مقبولا غير إن هذا إنما يفسر سير الأحداث ولا يفسر الرسالة نفسها.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق