الحلقة السابعة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

الإيمان بالله

من المساحات الأساسية التي تأثرت بالمذهب الذاتي هي البحوث العقائدية حيث استطاعت هذه الدراسة أن تبرهن على حقيقة في غاية الأهمية ولعلها هي الهدف الحقيقي الذي حاول السيد الشهيد الصدر تحقيقه وهذه الحقيقة هي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر والخالق لهذا العالم عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير فان هذا الاستدلال كأي استدلال علمي أخر استقرائي بطبيعته وتطبيق للطريقة العامة التي حددت للدليل الاستقرائي في كلا مرحلتيه.

الإيمان بالله في ضوء المذهب التجريبي:

حينما بدأت التجربة تبرز على صعيد البحث العلمي كأداة للمعرفة وأدرك المفكرون أن تلك المفاهيم العامة لا تكفي بمفردها في مجال الطبيعة لاكتشاف قوانينها والتعرف على أسرار الكون آمنوا بأن الحس والملاحظة العلميين هما المنطق الأساس للبحث عن تلك الأسرار والقوانين وكان هذا الاتجاه الحسي في البحث مفيدا على العموم في تطوير الخبرة البشرية بالكون وتوسيعها إلى درجة كبيرة وقد بدأ هذا الاتجاه مسيرته بالتأكيد على أن الحس والتجربة أداتان من الأدوات التي ينبغي للعقل وللمعرفة البشرية أن تستعملهما في سبيل اكتشاف ما يحيط بالإنسان من أسرار الكون ونظامه الشامل وهذا الاتجاه الحسي يعني تشجيع الباحثين في قضايا الطبيعة وقوانين الظواهر الكونية على التوصل إلى ذلك عن طريق مرحلتين:
  1. مرحلة الحس والتجربة وتجميع معطياتهما.
  2. مرحلة عقلية وهي مرحلة الاستنتاج والتنسيق بين تلك المعطيات للخروج بتفسير عام مقبول.

ولم يكن الاتجاه الحسي في واقعه العلمي وممارسات العلماء له يعني الاستغناء عن العقل ولم يستطع أي عالم من علماء الطبيعة أن يكتشف سرا من أسرار الكون أو قانونا من قوانين الطبيعة عن طريق الحس والتجربة إلا بالعقل إذ كان يجمع في المرحلة الأولى الملاحظات التي تزوده بها تجاربه وملاحظاته ثم يوازن في المرحلة الثانية بينهما بعقله حتى يصل إلى النتيجة وكان بالإمكان لهذا الاتجاه الحسي والتجريبي في البحث عن نظام الكون أن يقدم دعما جديدا وباهرا للإيمان بالله سبحانه وتعالى بسبب ما يكشفه من ألوان الاتساق ودلائل الحكمة التي تشير إلى الصانع الحكيم غير أن العلماء الطبيعيين بوصفهم علماء طبيعة لم يكونوا معنيين بتجلية هذه القضية التي كانت ولا تزال مسألة فلسفية حسب التصنيف السائد لمسائل المعرفة البشرية وقضاياها.

وسرعان ما نشأت على الصعيد الفلسفي وخارج نطاق العلم وما يجري فيه نزعات فلسفية ومنطقية حاولت أن تفلسف أو تمنطق هذا الاتجاه الحسي فأعلنت أن الوسيلة الوحيدة للمعرفة هو الحس وحيث ينتهي الحس تنتهي معرفة الإنسان، فكل ما لا يكون محسوسا ولا يمكن تسليط التجربة عليه بشكل وأخر فلا يملك الإنسان وسيلة لإثباته، كالله مثلا.

وقد وقعت هذه النزعات المتطرفة في تناقض تدريجيا، فمن الناحية الفلسفية وجدت هذه النزعات نفسها مضطرة إلى إنكار الواقع الموضوعي أي إنكار الكون الذي نعيش فيه جملة وتفصيلا لأننا لا نملك سوى الحس والحس إنما يعرفنا على الأشياء كما نحسها ونراها لا كما هي فنحن حين نحس بشيء يمكننا أن نؤكد وجوده في إحساسنا وأما وجوده خارج نطاق وعينا وبصورة مستقلة وموضوعية ومسبقة على الإحساس فلا سبيل إلى إثباته تماما كالأحول الذي يرى أشياء لا وجود لها فهو يؤكد رؤيته لتلك الأشياء ولكنه لا يؤكد وجود تلك الأشياء في الواقع.

وبهذا قضت النزعة الحسية الفلسفية في النهاية على الحس نفسه كوسيلة للمعرفة، وأصبح هو الحد النهائي لها بدلا عن أن يكون وسيلة، وعادت المعرفة الحسية كلها مجرد ظاهرة لا وجود لها بصورة مستقلة عن وعينا وإدراكنا.

ومن الناحية المنطقية اتجهت النزعات الحسية في أحدث تيار من تياراتها إلى الوضعية القائلة: بأن كل جملة لا يمكن التأكد من صدق مدلولها أو كذبه بالحس والتجربة فهي كلام فارغ من المعنى، شأنها شأن حروف الهجاء المبعثرة، وعلى هذا الأساس لو قلت الله موجود لكان بمثابة أن تقول ديز موجود، فكما لا معنى لهذه الجملة كذلك تلك، لأن وجود الله تعالى لا يمكن التعرف عليه بالحس والتجربة. ونفس قولهم هذا يحمل تناقضا بسبب ما فيه من تعميم لا يمكن التعرف عليه بالحس والتجربة المباشرة فهو كلام فارغ من المعنى بحكم ما يحمل من في داخله من دليل.

فهذه النزعة المنطقية التي تدعي أن كل جملة لا يتاح للحس والتجربة اختبار مدلولها فهي فارغة من المعنى، تصدر بهذا الادعاء تعميما وكل تعميم فهو يتجاوز نطاق الحس لأن الحس لا يقع إلا على حالات جزئية محدودة، وهكذا تنتهي هذه النزعة إلى تناقض مع نفسها إضافة إلى تناقضها مع كل التعميمات العلمية التي يفسر بها العلماء ظواهر الكون تفسيرا شاملا، لأن التعميم – أي تعميم – لا يمكن الإحساس به مباشرة، وإنما يستنتج ويستدل عليه بدلالة ظواهر حسية محدودة، ومن حسن الحظ أن العلم لم يعبأ في مسيرته وتطوره المستمر بهذه النزعات فكان يمارس عمله الاكتشافي للكون دائما مبتدئا بالحس والتجربة ومتجاوزا بعد ذلك الحدود الضيقة التي فرضتها تلك النزعات الفلسفية والمنطقية ليبذل جهدا عقليا في تنسيق الظواهر ووضعها في أطر قانونية عامة والتعرف على ما بينها من روابط وعلاقات.

وقد تضاءل النفوذ الفلسفي والمنطقي لهذه النزعات المتطرفة على صعيد المذاهب الفلسفية المادية فالفلسفة المادية التي يمثلها بصورة رئيسية الماديون الجدليون ترفض تلك النزعات بكل وضوح وتعطي لنفسها الحق في أن تتجاوز نطاق الحس والتجربة التي يبدأ العالم بها بحثه وتتجاوز أيضا المرحلة الثانية التي يختم بها العالم بحثه وذلك لكي تقارن بين معطيات العلم المختلفة وتضع لها تفسيرا نظريا عاما وتعين أوجه العلاقات والروابط التي يمكن افتراضها بين تلك المعطيات وبهذا فان المادية الجدلية التي هي الوريث الحديث للفكر المادي على مر التاريخ أصبحت بنفسها غيبية من وجهة نظر تلك النزعات الحسية المتطرفة حين خرجت بتفسير شامل للكون ضمن إطار ديالكتيكي.

وهذا يعني أن المادية والإلهية معا قد اتفقتا على تجاوز النطاق الحسي الذي دعت تلك النزعات المادية المتطرفة إلى التقيد به وأصبح من المعقول أن تتخذ المعرفة مرحلتين: مرحلة لتجميع معطيات الحس والتجربة ومرحلة لتفسيرها نظريا وعقليا وإنما الخلاف بين المادية والإلهية على نوع التفسير الذي تستنتجه عقليا في المرحلة الثانية من معطيات العلم المتنوعة فالمادية تفترض تفسيرا ينفي وجود صانع حكيم والإلهية ترى أن تفسير تلك المعطيات لا يمكن أن يكون مقنعا ما لم يشتمل على الإقرار بوجود صانع حكيم وسنعرض فيما يلي نمطين من الاستدلال على وجود الصانع الحكيم سبحانه يتمثل في كل منهما معطيات الحس والتجربة من ناحية وتنظيمها عقليا واستنتاج أن للكون صانعا حكيما من خلال ذلك.

النمط الأول: نطلق عليه الدليل الفلسفي.
النمط الثاني: نطلق عليه اسم الدليل العلمي أو الاستقرائي.

وقبل أن ندخل في الحديث عنهما يجب أن نتساءل ما هو الدليل الفلسفي؟ وما الفرق بينه وبين الدليل العلمي؟ وما هي أقسام الدليل؟ إن الدليل ينقسم إلى ثلاثة أقسام هي:

  1. الدليل الرياضي
  2. الدليل العلمي
  3. الدليل الفلسفي.
الدليل الرياضي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال الرياضيات البحتة والمنطق الصوري الشكلي ويقوم هذا الدليل دائما على مبدأ أساسي وهو مبدأ عدم التناقض القائل إن ( أ ) هي ( أ ) ولا يمكن أن لا تكون ( أ ) فكل دليل يستند إلى هذا المبدأ وما يتفرع عنه من نتائج فقط يطلق عليه اسم الدليل الرياضي وهو يحظى بثقة من الجميع.

الدليل العلمي: هو الدليل الذي يستعمل في مجال العلوم الطبيعية ويعتمد على المعلومات التي يمكن إثباتها بالحس أو الاستقراء العلمي إضافة إلى مبادئ الدليل الرياضي.

الدليل الفلسفي: هو الدليل الذي يعتمد لإثبات واقع موضوعي في العالم الخارجي على معلومات عقلية والمعلومات العقلية هي المعلومات التي لا تحتاج إلى إحساس وتجربة إضافة إلى مبادئ الدليل الرياضي وهذا لا يعني بالضرورة أن الدليل الفلسفي لا يعتمد على معلومات حسية واستقرائية وإنما يعني أنه لا يكتفي بها بل يعتمد إلى جانب هذا أو بصورة مستقلة عن ذلك معلومات عقلية أخرى في إطار الاستدلال على القضية التي يريد إثباتها ولربما تساءل البعض عن إمكانية الاعتماد على المعلومات العقلية أي على الأفكار التي يوحي بها العقل بدون حاجة إلى إحساس وتجربة أو استقراء علمي؟ فالجواب هو نعم لما تقدم من أن هناك في معلوماتنا ما يحظى بثقة الجميع كمبدأ عدم التناقض الذي تقوم عليه كل الرياضيات البحتة وهو مبدأ يقوم إيماننا به على أساس عقلي وليس على أساس الشواهد والتجارب في مجال الاستقراء.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق