الحلقة السادسة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

التوالد الذاتي :

ويقصد به أن تنشأ معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين وإنما يقوم التوالد على أساس التلازم بين المعرفتين نفسيهما فبينما كان المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى في حالات التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبين الموضوعيين للمعرفة وكان التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعيين نجد في حالات التوالد الذاتي أن المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة وأن هذا التلازم ليس تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعيين الفارق بين هذه المرحلة من الدليل الاستقرائي وسابقتها هو انه في مرحلة التوالد الموضوعي لا نستطيع أن نصل بالمعرفة المستدلة استقرائيا إلى مستوى اليقين وإنما نقتصر على منحها أكبر درجة من الاحتمال بخلافه في هذه المرحلة حيث نصل إلى مستوى الجزم واليقين إلا أن تحقق ذلك يتوقف على مصادرة يفترضها الدليل الاستقرائي في هذه المرحلة لكن قبل بيان تلك المصادرة لابد من توضيح نقطتين الأولى وهي أن مرحلة التوالد الموضوعي تقوم على أساس علم إجمالي والثانية أقسام اليقين.

  • مرحلة التوالد الموضوعي تقوم على أساس علم إجمالي:
العلم – أي علم – له معلوم والمعلوم قد يكون مشخصا محددا كما إذا علمت بان الشمس طالعة ويعتبر العلم في هذه الحالة علما تفصيليا ومرتبطا بشيء واحد ارتباط العلم بالمعلوم وليس في هوية العلم التفصيلي أي مجال للشك أو الاحتمال لان الشيء المحدد والمعلوم الذي يرتبط به العلم بوصفه معلوما لا يقبل الاحتمال وغيره من الأشياء لا ارتباط للعلم التفصيلي بها وقد يكون العلم غير محدد ولا مشخص كما إذا علمت بأن أحد أصدقائك الثلاثة – بدون تعيين- سوف يزورك ويعتبر العلم في هذه الحالة علما إجماليا وهو يرتبط ارتباط العلم بالمعلوم بشيء غامض غير محدد وعلى هذا الأساس نعرف أن علاقة العلم الإجمالي لكل طرف هي علاقة تستبطن بطبيعتها الاحتمال بينما علاقة العلم بالمعلوم تستبطن بطبيعتها نفي الاحتمال وعدد أطراف العلم الإجمالي يختلف باختلاف دائرة الترديد في المعلوم فقد يكون ثلاثة وقد يكون أكثر غير أن الحد الأدنى له هو اثنان لان حالة وجود طرف واحد فقط تعني انه هو المعلوم فيصبح العلم تفصيليا لا إجماليا والعلم الإجمالي على قسمين:

أحدهما: العلم الإجمالي الذي تكون أطرافه متنافية أي لا يحتمل أن يجتمع اثنان منهما في وقت واحد كما إذا كنت تعلم أن واحدا فقط من أصدقائك الثلاثة سوف يزورك فليس من المحتمل على أساس علمك هذا أن يزروك اثنان منهم.

والأخر: العلم الإجمالي الذي تكون أطرافه غير متنافية أي أن من المحتمل اجتماع اثنين منهما كما إذا كنت تعلم أن واحدا على الأقل من أصدقائك سوف يزورك فان هذا العلم لا يفرض التنافي بين أطرافه فيكون من الاحتمال أن يزورك اثنان منهم أو الثلاثة جميعا والمراد بالعلم الإجمالي – متى أطلق - هو العلم الإجمالي من القسم الأول الذي يفرض التنافي بين أطرافه وإذا أريد أحيانا العلم الإجمالي الذي لا يفرض التنافي بين أطرافه فلن يعبر عنه بالعلم الإجمالي.

  • أقسام اليقين:
  • اليقين المنطقي:
وهو المعنى الذي يقصده منطق البرهان الأرسطي بكلمة اليقين ويعني اليقين المنطقي العلم بقضية معينة والعلم بأن من المستحيل أن لا تكون القضية بالشكل الذي علم فاليقين المنطقي مركب من علمين وما لم ينضم العلم الثاني إلى العلم الأول لا يعتبر يقينا في منطق البرهان قال الطباطبائي في حواشيه على الحكمة المتعالية للأسفار العقلية الأربعة للملا صدر الدين الشيرازي: اليقين هو العلم بأن كذا كذا وأنه لا يمكن أن لا يكون كذا وقد عبر عنه الفيلسوف المعاصر الشيخ جواد آملي بأنه الجزم بثبوت المحمول للموضوع والجزم باستحالة سلب المحمول عن الموضوع وأن الجزم الأول لا يزول وأن الجزم الثاني أيضاً لا يزول.

  • اليقين الذاتي:
وهو جزم الإنسان بقضية من القضايا بشكل لا يراوده أي شك أو احتمال للخلاف فيها وليس من الضروري في اليقين الذاتي أن يستبطن أي فكرة عن استحالة الوضع المخالف لما علم له فالإنسان قد يرى خطاً شديد الشبه بما يعهده من خط رفيق له فيجزم بأن هذا هو خطه ولكنه في الوقت نفسه لا يرى أي استحالة في أن يكون هذا الخط لشخص أخر رغم أنه لا يحتمل ذلك لأن كونه غير محتمل لا يعني أنه مستحيل.

  • اليقين الموضوعي:
لتوضيح هذا المعنى لليقين يجب أن نميز في اليقين بين ناحيتين إحداهما التي تعلق بها اليقين والأخرى درجة التصديق التي يمثلها فحين توجد في نفسك يقين بأن جارك قد مات تواجه قضية تعلق بها اليقين وهي أن فلانا مات وتواجه درجة معينة من التصديق يمثلها هذا اليقين لأن التصديق له درجات تتراوح من أدنى درجة للاحتمال إلى الجزم واليقين يمثل أعلى تلك الدرجات وهي درجة الجزم الذي لا يوجد في إطاره أي احتمال للخلاف وإذا ميزنا بين القضية التي تعلق بها اليقين ودرجة التصديق التي يمثلها أمكننا أن نلاحظ أن هناك نوعين ممكنين من الحقيقة والخطأ في المعرفة البشرية احدهما الحقيقة والخطأ من الناحية الأولى أي من ناحية القضية التي تعلق بها والحقيقة والخطأ من هذه الناحية مردها إلى تطابق القضية التي تعلق بها اليقين مع الواقع وعدم تطابقها فإذا كانت متطابقة فاليقين صادق في الكشف عن الحقيقة وإلا فهو مخطئ والأخر الحقيقة والخطأ في اليقين من الناحية الثانية أي من ناحية الدرجة التي يمثلها من درجات التصديق فقد يكون اليقين مصيبا وكاشفا عن الحقيقة من الناحية الأولى ولكنه مخطئ في درجة التصديق التي يمثلها.

ومن هنا نصل إلى فكرة التمييز بين اليقين الذاتي واليقين الموضوعي :
  1. فاليقين الذاتي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة سواء كانت هناك مبررات موضوعية لهذه الدرجة ام لا.
  2. واليقين الموضوعي هو التصديق بأعلى درجة ممكنة على أن تكون هذه الدرجة متطابقة مع الدرجة التي تفرضها المبررات الموضوعية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق