الإسلام والمشكلة الإجتماعية، تشخيص المشكلة، وكيفية علاجها

بسم الله الرحمن الرحيم

  • تشخيص المشكلة
لأجل أن نصل إلى الحلقة الاولى في تشخيص المشكلة الاجتماعية تشخيصا صحيحا، علينا أن نتساءل عن تلك المصلحة المادية الخاصة التي أقامها النظام الرأسمالي مقياساً ومبرراً وهدفنا وغاية، نتساءل: ما هي الفكرة التي صححت هذا المقياس في الذهنية الديمقراطية الرأسمالية وأوحت به؟ فان تلك الفكرة هي الأساس الحقيقي للبلاء الاجتماعي. وفشل الديمقراطية الرأسمالية في تحقيق سعادة الانسان وتوفير كرامته.

فإنه حتى لو استطاع النظام الرأسمالي توفير أرضية للتقدم التقني والتكنلوجي، فهو لم يستطع تقديم نموذج إلا لحظارة لا أخلاقية. نعم، فهو لم يوجد كفالة لسعادة الإنسان؛ لأنه لا يغطي كافة جوانب حاجاته، وتحولت بذلك الرأسمالية إلى شبيه بالحضارات القديمة التي كان يتسلط فيها الحاكم على رقاب الناس، فيصنع مجدا زائفا يزول ذكره بزوال سلطانه، فهذه الحضارات قدمت معجزات عمرانية، وأساطير في الحروب، كالحضارة البابلية والفرعونية، وقدمت شواهد التطور المادي في المجتمع، إلا إن ذلك التطور لم يكن قائما إلا على آلاف الجماجم البريئة التي لم يكفل لها أحد حقوقها

وإذا استطعنا ان نقضي على تلك الفكرة، فقد وضعنا حدا فاصلا لكل العقبات للوصول إلى الرفاه الاجتماعي، والالتواءات على حقوق المجتمع والمعنى الحقيقي لحريته، ووفقنا إلى استثمار الملكية الخاصة لخير الانسانية ورقيها، وتقدمها في المجالات الصناعية وميادين الإنتاج.

فما هي تلك الفكرة؟

ان تلك الفكرة تتلخص في التفسير المادي المحدود للحياة، الذي أشاد عليه الغرب صرح الرأسمالية الجبار؛ فإن كل فرد في المجتمع إذا آمن بأن ميدانه الوحيد في هذا الوجود العظيم هو: حياته المادية الخاصة، وآمن أيضا بحريته في التصرف بهذه الحياة واستثمارها، وأنه لا يمكن أن يكسب من هذه الحياة غاية إلا اللذة التي توفرها له المادة، وأضاف هذه العقائد المادية إلى حب الذات الذي هو من صميم طبيعته، فسوف يسلك السبيل الذي سلكه الرأسماليون وينفذ أساليبهم كاملة، ما لم تحرمه قوة قاهرة من حريته وتسد عليه السبيل.

وحب الذات هو الغريزة التي لا نعرف غريزة أعم منها وأقدم، فكل الغرائز تتفرع من هذه الغريزة. فان حب الانسان لذاته -الذي يعني: حبه للذة والسعادة لنفسه، وبغضه للألم والشقاء لنفسه- هو الذي يدفع الانسان إلى كسب معيشته، وتوفير حاجياته الغذائية والمادية.

ولذا قد يضع حدا لحياته بالانتحار، إذا وجد أن تحمل ألم الموت أسهل عليه من تحمل الآلام التي يواجهها في حياته، فالإنسان المادي يرد على ذهنه إشكال هو: في فقدان كل أمل في الحياة، فما هو الدافع المحفز لكي يستمر في حياته؟! والملحد واللاديني هنا على حد سواء، فكلاهما لا هدف أسمى وأعمق عنده يسند إليه كل تحركه اتجاه التكامل، فبفقدان الأمل، ينقطع عنده كل مبرر لهذه الحياة.

فالواقع الطبيعي الحقيقي الذي يكمن وراء الحياة الانسانية كلها، ويوجهها بأصابعه هو: حب الذات، الذي نعبر عنه بحب اللذة وبغض الألم. ولا يمكن تكليف الانسان أن يتحمل مختارا مرارة الألم دون شيء من اللذة، في سبيل أن يلتذ الآخرون ويتنعموا، إلا إذا سلبت منه إنسانيته، وأعطي طبيعة جديدة لا تعشق اللذة، ولا تكره الألم.

وحتى الألوان الرائعة من الإيثار، التي نشاهدها في الانسان، ونسمع بها عن تاريخه تخضع في الحقيقة أيضا لتلك القوة المحركة الرئيسية: (غريزة حب الذات). فالإنسان فد يؤثر ولده أو صديقه على نفسه، وقد يضحي في سبيل بعض المثل والقيم، ولكنه لن يقدم على شيء من هذه البطولات ما لم يحس فيها بلذة خاصة، ومنفعة تفوق الخسارة التي تنجم عن إيثاره لولده وصديقه، أو تضحيته في سبيل مبدأ من المبادئ التي يؤمن بها.

وهكذا يمكننا ان نفسر سلوك الانسان بصورة عامة، في مجالات الأنانية والإيثار على حد سواء. ففي الإنسان استعدادات كثيرة للالتذاذ بأشياء متنوعة: ماديّة كالالتذاذ بالطعام والشراب، وألوان المتعة الجنسية وما إليها من اللذائذ المادية. أو معنوية كالالتذاذ الخلقي والعاطفي بقيم خلقية أو عقيد معينة، حين يجد الإنسان أن تلك القيم أو هذه العقيدة جزء من كيانه الخاص.

وهذه الاستعدادات التي تهيئ الانسان للالتذاذ بتلك المتع المتنوعة، تختلف في درجتها عند الأشخاص، وتتفاوت في مدى فعاليتها باختلاف ظروف الإنسان وعوامل الطبيعية والتربية التي تؤثر فيه. فبينما نجد ان بعض تلك الاستعدادات تنضج عند الانسان بصورة طبيعية فتسمى الغرائز، كاستعداده للالتذاذ الجنسي مثلا، نجد أن ألوانا أخرى منها قد لا تظهر في حياة الانسان، وتبقى تنتظر عوامل التربية التي تساعد على نضجها وتفتحها فتسمى الفطرة.

وغريزة حب الذات من وراء هذه الاستعدادات جميعا، تحدد سلوك الانسان وفقا لمدى نضح تلك الاستعدادات. فهي تدفع إنسانا إلى الاستئثار بطعام على آخر وهو جائع، وهي بنفسها تدفع إنسانا آخر لإيثار الغير بالطعام على نفسه؛ لأن استعداد الانسان الأول للالتذاذ بالقيم الخلقية والعاطفية الذي يدفعه إلى الإيثار كان كامنا، ولم تتح له عوامل التربية المساعدة على تركيزه وتنميته. بينما حصل الآخر على هذا اللون من التربية، فأصبح يلتذ بالقيم الخلقية والعاطفية، ويضحي بسائر لذاته في سبيلها.

وهنا أود أن أن أعرج على أمر أرى من الضروري التنويه إليه، هو: الفطرة، فقد يكثير التشويش على هذه الفكرة، ويؤتى بأمثلة على أمم تكتشف تعيش بفطرتها، لا موحدة ولا تؤمن بعقيدة، ويتم التشنيع على فكرة الفطرة تبعا لذلك بكل سذاجة وعدم فهم.

إن الفطرة، وبطبيعة الحال فطرة التوحيد التي يؤمن بها الخط الإسلامي، إنما هي بالأصل استعداد في النفس البشرية، وهي تحتاج إلى من يخرجها من طور الاستعداد إلى طور الفعلية، وهذا هو الدور الرئيسي للشرائع السماوية، وما لم تجد من يخرجها إلى طور الفعلية فإنها تبقى كامنة لا تخرج من تلقاء ذاتها، بخلاف الغريزة التي ترتبط بالحس مباشرة، وبالتالي فإنها تنمو طبيعيا. فالفطرة تحتاج إلى تنمية عقلية وما لم يمد لها يد العون لتتجرد، فإنها تبقى خامدة بلا موازين.

فمتى أردنا إذن ان نغير من سلوك الانسان شيئا، يجب أن نغير من مفهوم اللذة والمنفعة عنده، ونُدخل السلوك المقترح ضن الاطار العام لغريزة حب الذات، لا أن نلغيها تماما.

فإذا كانت غريزة حب الذات بهذه المكانة في دنيا الإنسان، وكانت الذات في نظر الانسان عبارة عن طاقة مادية محدودة، وكانت اللذة عبارة عن ما تهيئه المادة من متع وسرور، فمن الطبيعي أن يشعر الانسان بأن مجال كسبه محدود، وأن شوط حياته قصير، وأن غايته في هذا الشوط أن يحصل على أكثر مقدار من اللذة المادية. وطريق ذلك ينحصر بطبيعة الحال في عصب الحياة المادية وهو: المال، الذي يفتح أمام الإنسان السبيل إلى تحقيق كل أغراضه وشهواته.

هذا هو التسلسل الطبيعي في المفاهيم المادية الذي يؤدي إلى عقيلة رأسمالية كاملة.

تُرى، هل أن المشكلة تحل حلا حاسما إذا رفضنا مبدأ الملكية الخاصة، وأبقينا تلك المفاهيم المادية عن الحياة، كما حاول المفكرون الماركسيون؟!

وهل يمكن أن ينجو المجتمع من مأساة تلك المفاهيم، بالقضاء على الملكية الخاصة فقط، ويحصل على ضمان لسعادته واستقراره؟! مع أن ضمان سعادته واستقراره يتوقف إلى حد بعيد على ضمان عدم انحراف المسؤولين عن مناهجهم وأهدافهم الإصلاحية في ميدان العمل والتنفيذ، والمفروض في هؤلاء المسؤولين أنهم يعتنقون نفس المفاهيم المادية الخالصة عن الحياة التي قامت عليها الرأسمالية، وإنما الفرق: أن هذه المفاهيم أفرغوها في قوالب فلسفية جديدة، وهذا ما يميز الماركسية على الرأسمالية كنظام قام على فلسفة، ومن الفرض المعقول الذي يتفق في كثير من الأحايين، أن تقف المصلحة الخاصة في وجه مصلحة المجموع، وأن يكون الفرد بين خسارة وألم يتحملها لحساب الآخرين، وبين ربح ولذة يتمتع بهما على حسابهم، فماذا تقدر للامة وحقوقها وللمذهب وأهدافه من ضمان في مثل هذه اللحظات الخطيرة التي تمر على الحاكمين؟! والمصلحة الذاتية لا تتمثل فقط في الملكية الفردية، ليقضى على هذا الفرض الذي افترضناه، بإلغاء مبدأ الملكية الخاصة، بل هي تتمثل في أساليب، وتتلون بألوان شتّى. ودليل ذلك ما كشف من خيانات الحاكمين السابقين الذين حكموا الدول الاشتراكية، والتوائهم على ما تبنوا من أهداف.

إن الثروة تسيطر عليها الفئة الرأسمالية في ظل الاقتصاد المطلق والحريات الفردية، وتتصرف فيها بعقليتها المادية تسلم -عند تأميم الدولة لجميع الثروات، وإلغاء الملكية الخاصة- إلى نفس جهاز الدولة، المكون من جماعة تسيطر عليهم نفس المفاهيم المادية عن الحياة، والتي تفرض عليهم تقييد المصالح الشخصية بحكم غريزة حب الذات، وهي تأبى أن يتنازل الانسان عن لذة ومصلحة بلا عوض. وما دامت المصلحة المادية هي القوة المسيرة، بحكم مفاهيم الحياة المادية، فسوف تستأنف من جديد ميادين للصراع والتنافس، وسوف يعرض المجتمع لاشكال من الخطر والاستغلال.

فالخطر على الإنسانية يكمن كله في تلك المفاهيم المادية، وما ينبثق عنها من مقاييس للأهداف والأعمال. وتوحيد الثروات الرأسمالية -الصغيرة أو الكبيرة- في ثروة كبرى يسلم أمرها للدولة، من دون تطوير جديد للذهنية الانسانية لا يدفع ذلك الخطر، بل يجعل من الأمة جميعا عمال شركة واحدة، ويربط حياتهم و كرامتهم بأقطاب تلك الشركة وأصحابها.

نعم ان هذه الشركة تختلف عن الشركة الرأسمالية في أن أصحاب تلك الشركة الرأسمالية هم الذين يملكون أرباحها، ويصرفونها في أهوائهم الخاصة. وأما أصحاب هذه الشركة فمن المفروض أنهم لا يملكون شيئا من ذلك، غير ان ميادين المصلحة الشخصية لا تزال مفتوحة، والفهم المادي للحياة -الذي يجعل من تلك المصلحة هدفا ومبررا- لا يزال قائما.

وفي النتيجة، فإن تشخيص المشكلة الحقيقي هو الطابع المادي للفكر الإنساني، لا كما شخصته الماركسية بالملكية، فكلا المذهبين ذهب إما إلى إفراط وإما إلى تفريط بالملكية الخاصة!

  • كيف تعالج المشكلة
والعالم أمامه سبيلان لعلاج المشكلة:

أحدهما: ان يبدل الانسان غير الانسان، أو تخلق فيه طبيعة جديدة تجعله يضحي بمصالحه الخاصة، ومكاسب حياته المادية المحدودة في سبيل المجتمع ومصالحه، مع ايمانه بأن لا قيم إلا تلك المصالح المادية، ولا مكاسب إلا مكاسب هذه الحياة المحدودة. وهذا إنما يتم إذا انتزع من صميم طبيعته حب الذات، وأبدل بحب الجماعة، فيولد الانسان وهو لا يحب ذاته إلا باعتبار كونه جزءا من المجتمع، ولا يلتذ لسعادته ومصالحه، إلا بما انها تمثل جانبا من السعادة العامة ومصلحة المجموع. فان غريزة حب الجماعة تكون ضامنة حينئذ للسعي وراء مصالحها وتحقيق متطلباتها، بطريقة ميكانيكية وأسلوب آلي.

والسبيل الآخر، الذي يمكن للعالم سلوكه لدرء الخطر عن حاضر الانسانية ومستقبلها هو أن يطور المفهوم المادي للإنسان عن الحياة، وبتطويره تتطور طبيعيا أهدافنا ومقاييسنا، وتتحقق المعجزة حينئذ من أيسر طريق.

  • (1) السبيل الاول: هو الذي حلم أقطاب الشيوعية بتحقيقه للانسانية في مستقبلها، ووعدوا العالم بأنهم سوف ينشؤونه إنشاءا جديدا، بجعل الإنسان يتحرك ميكانيكيا إلى خدمته الجماعة ومصالحها، ولعل التطور الداروني ما هو إلا مؤيد لمثل هذا الفكر، حيث إنه يؤمن بأن تغيير طبيعة غرائز الإنسان وميوله الطبيعية ممكن بمرور الزمن. ولأجل ان يتم هذا العمل الجبار، كان يجب ان نوكل قيادة العالم إليهم، كما يوكل المريض أمره إلى الجراح، ويفوض إليه علاجه. ولا يعلم أحد كم تطول هذه العملية الجراحية التي تجعل الانسانية تحت مبضع جراح! وإن استسلام الانسانية لذلك في فترة ما لهو أكبر دليل على مدى الظلم الذي قاسته في النظام الديمقراطي الرأسمالي، الذي خدعها بالحريات المزعومة، وسلب منها أخيرا كرامتها، وامتص دماءها، ليقدمها شرابا سائغا للفئة التي يمثلها الحاكمون.
والفكرة في هذا الرأي، القائل بمعالجة المشكلة عن طريق تطوير الانسانية وإنشائها من جديد ترتكز على مفهوم الماركسية عن حب الذات؛ فإن الماركسية تعتقد أن حب الذات ليس ميلا طبيعيا وظاهرة غريزية في كيان الانسان، وإنما هو نتيجة للوضع الاجتماعي القائم على أساس الملكية الفردية؛ فإن الحالة الاجتماعية للملكية الخاصة هي التي تكون المحتوى الروحي والداخلي للإنسان، وتخلق في الفرد حبه لمصالحه الخاصة ومنافعه الفردية. فإذا حدثت ثورة في الاسس التي يقوم عليها الكيان الاجتماعي، وحلت الملكية الجماعية والاشتراكية محل الملكية الخاصة، فسوف تنعكس الثورة في كل أرجاء المجتمع وفي المحتوى الداخلي للإنسان، فتنقلب مشاعره الفردية إلى مشاعر جماعية، ويتحول حبه لمصالحه ومنافعه الخاصة إلى حب لمنافع الجماعية ومصالحها، وفقا لقانون التوافق بين حالة الملكية الأساسية، ومجموع الظواهر الفوقية التي تتكيف بموجبها.

والواقع: أن هذا المفهوم الماركسي لحب الذات، يقدر العلاقة بين الواقع الذاتي (غريزة حب الذات)، وبين الأوضاع الاجتماعية بشكل مقلوب. وإلّا فكيف نستطيع أن نؤمن بأن الدافع الذاتي وليد الملكية الخاصة، والتناقضات الطبيعية التي تنتج عنها؟! فإن الانسان لو لم يكن يملك سلفا الدافع الذاتي، لما أوجد هذه التناقضات، ولا فكر في الملكية الخاصة والاستئثار الفردي. ولماذا يستأثر الانسان بمكاسب النظام، ويضعه بالشكل الذي يحفظ مصالحه على حساب الآخرين مادام لا يحس بالدافع الذاتي في أعماق نفسه؟!

فالحقيقة: بأن المظاهر الاجتماعية للإنسانية في الحقل الاقتصادي والسياسي لم تكن إلا نتيجة للدافع الذاتي، لغريزة حب الذات. فهذا الدافع أعمق منها في كيان الانسان، فلا يمكن أن يزول وتقتلع جذوره بازالة تلك الآثار، فان عملية كهذه لا تعدو أن تكون استبدالا لآثار بأخرى قد تختلف في الشكل والصورة، لكنها تتفق معها في الجوهر والحقيقة.

أضف إلى ذلك: أننا لو فسرنا الدافع الذاتي (غريزة حب الذات) تفسيراً موضوعياً، -بوصفه انعكاساً لظواهر الفردية في النظام الاجتماعي، كظاهرة الملكية الخاصة- كما صنعت الماركسية. فلا يعني هذا ان الدافع الذاتي سوف يفقد رصيده الموضوعي وسببه من النظام الاجتماعي، بإزالة الملكية الخاصة لأنها وإن كانت ظاهرة ذات طابع فردي، ولكنها ليست هي الوحيدة من نوعها، فهناك ظاهرة الإدارة الخاصة، التي يحتفظ بها حتى النظام الاشتراكي؛ فان النظام الاشتراكي وإن كان يلغي الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، غير أنه لا يلغي إدارتها الخاصة من قبل هيئات الجهاز الحاكم، الذي يمارس ديكتاتورية البروليتاريا، ويحتكر الإشراف على جميع وسائل الإنتاج وإداراتها. إذ ليس من المعقول ان تدار وسائل الإنتاج في لحظة تأميمها إدارة جماعية اشتراكية من قِبل أفراد المجتمع كافة. فالنظام الاشتراكي يحفظ اذن بظواهر فردية بارزة، ومن الطبيعي لهذه الظواهر الفردية ان تحافظ على الدفع الذاتي، وتعكسه في المحتوى الداخلي للإنسان باستمرار، كما كانت تصنع ظاهرة الملكية الخاصة.

وهكذا نعرف أن لا قيمة للسبيل الاول لحل المشكلة (السبيل الشيوعي) الذي يعتبر إلغاء تشريع الملكية الخاصة ومحوها من سجل القانون كفيلا وحده بحل المشكلة وتطوير الانسان.

  • (2) وأما السبيل الثاني: فهو الذي سلكه الاسلام؛ إيمانا منه بأن الحل الوحيد للمشكلة هو: تطوير المفهوم المادي للإنسان عن الحياة. فلم يتجه إلى مبدأ الملكية الخاصة ليلغيه، وإنما غزا المفهوم المادي عن الحياة ووضع للحياة مفهوما جديدا، وأقام على أساس ذلك المفهوم نظاما لم يجعل فيه الفرد آلة ميكانيكية في الجهاز الاجتماعي، ولا المجتمع هيئة قائمة لحساب الفرد، بل وضع لكل منهما حقوقه، وكفل للفرد كرامته المعنوية والمادية معا. فالإسلام وضع يده على نقطة الداء الحقيقية في النظام الاجتماعي للديمقراطية وما إليه من أنظمة، فمحاها محوا ينسجم مع الطبيعة الانسانية؛ فإن نقطة الارتكاز الأساسية لما ضجت به الحياة البشرية من أنواع الشقاء وألوان المآسي هي: النظرة المادية إلى الحياة التي نختصرها بعبارة مقتضبة في افتراض حياة الانسان في الدنيا هي كل ما في الحساب من شيء، واقامة المصلحة الشخصية مقياسا لكل فعالية ونشاط.

إن الديمقراطية الرأسمالية نظام محكوم عليه بالانهيار والفشل المحقق في نظر الاسلام، ولكن لا باعتبار ما يزعمه الاقتصاد الشيوعي من تناقضات رأس المال بطبيعته، وعوامل الفناء التي تحملها الملكية الخاصة في ذاتها؛ لأن الإسلام يختلف في طريقته المنطقية واقتصاده السياسي وفلسفته الاجتماعية عن مفاهيم هذا الزعم وطريقته الجدلية ويضمن وضع الملكية الفردية في تصميم اجتماعي، خال من تلك التناقضات المزعومة.

ولكن سبب الفشل والوضع المفجع الذي منيت به الديمقراطية الرأسمالية في نظر الاسلام، هو مفاهيمها المادية الخالصة، التي لا يمكن ان يسعد البشر بنظام يستوحي جوهره منها، ويستمد خطوطه العامة من روحها وتوجيهها.

وهذا الفشل المقدر للنظام الرأسمالي هو نفس الفشل الذي قدر للنظام الماركسي بعد أن اصطدم بالواقع، فخسر المعركة أمام النظام الرأسمالي، والنظام الرأسمالي هو في بداية النهاية، وسوف تتطلع شعوب العالم إلى البديل عما قريب، ولا يوجد بديل عملي يفي بالجانب العلمي إلا النظام الإسلامي.

فلابد إذن من مصدر آخر -غير المفاهيم المادية عن الكون- يأخذ منه النظام الاجتماعي، ولا بد من وعي سياسي صحيح ينتج عن مفاهيم حقيقية عميقة للحياة، ويتبنى القضية الانسانية الكبرى، ويسعى إلى تحقيقها على قاعدة تلك المفاهيم، ويدرس مسائل العالم من هذه الزاوية. وعند اكتمال هذا الوعي السياسي في العالم، واكتساحه لكل وعي سياسي آخر، وغزوه لكل مفهوم للحياة لا يندمج بقاعدته الرئيسية يمكن ان يدخل العالم في حياة جديده، مشرقة بالنور عامرة بالسعادة.

ان هذا الوعي السياسي العميق هو: رسالة السلام الحقيقي في العالم، وإن هذه الرسالة المنتقذة لهي رسالة الاسلام الخالدة، التي استمدت نظامها الاجتماعي -المختلف عن كل ما تعرضنا له من أنظمة- من قاعدة فكرية جديدة للحياة والكون، وسوف تتوجه إليها البشرية بعد عطش طويل لإرواء ذلك العطش.

وقد أوجد الاسلام بتلك القاعدة الفكرية النظرية الصحيحة للإنسان إلى حياته، فجعله يؤمن بأن حياته منبثقة عن مبدأ مطلق الكمال وهو الفطرة التي تنسجم بصورة كاملة مع طبيعة تطلع الإنسان، وإن حياته المادية ما هي إلّا إعداد للإنسان إلى عالم لا عناء فيه ولا شقاء، ووضع له مقياسا خلقيا جديدا في كل خطواته وأدواره، وهو: رضا الله تعالى والقرب الإلهي.

فليس 1. كل ما تفرضه المصلحة الشخصية فهو جائز، 2. وكل ما يؤدي إلى خسارة شخصية فهو محرم غير مستساغ، بل الهدف الذي رسمه الاسلام للإنسان في حياته هو: الرضا الإلهي. والمقياس الخلقي الذي توزن به جميع الأعمال إنما هو: مقدار ما يحصل بها من هذا الهدف المقدس. والانسان المستقيم هو: الانسان الذي يحقق هذا الهدف. والشخصية الإسلامية الكاملة هي: الشخصية التي سارت في شتى أشواطها على هدي هذا الهدف، وفي ضوء هذا المقياس، وضمن إطاره العام.

وليس هذا التحويل في مفاهيم الانسان الخلقية وموازينه وأغراضه يعني تغيير الطبيعة الإنسانية، وإنشائها إنشاءاً جديداً، كما كانت تعني الفكرة الشيوعية. فحب الذات (أي: حب الانسان لذاته وتحقيق مشتهياتها الخاصة) طبيعي في الانسان، ولا نعرف استقراء في الميدان تجريبي، أوضح من استقراء الإنسانية في تاريخها الطويل، الذي يبرهن على ذاتية حب الذات. بل لو لم يكن حب الذات طبيعيا وذاتيا للإنسان، لما اندفع الانسان الأول -قبل كل تكوين اجتماعي- إلى تحقيق حاجاته، ودفع الأخطار عن ذاته، والسعي وراء مشتهياته بالأساليب البدائية التي حفظ بها حياته وأبقى وجوده، وبالتالي خوض الحياة الاجتماعية والاندماج في علاقات مع الآخرين؛ تحقيقا لتلك الحاجات ودفعا لتلك الأخطار. ولمّا كان حب الذات يحتل هذا الموضع من طبيعة الانسان. فأي علاج حاسم للمشكلة الانسانية الكبرى يحب أن يقوم على أساس الايمان بهذه الحقيقة الموضوعية. وإذا قام على فكرة تطويرها أو التغلّب عليها ، فهو علاج مثالي لا ميدان له في واقع الحياة العلمية التي يعيشها الانسان، بل سيكون وهما يفسر الحياة بالوهم!

فما هي رسالة الدين؟، هذا ما سنعرض له في المقال القادم.

مع التحيات
ليث


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق