رسالة الدين.

بسم الله الرحمن الرحيم

يقوم الدين برسالته الكبرى التي لا يمكن أن يضطلع بأعبائها غيره، ولا أن تحقق أهدافها البناءة وأغراضها الرشيدة إلا على أسسه وقواعده، فيربط بين المقياس الخلقي الذي يضعه للإنسان وحب الذات المتركز في فطرته.

وفي تعبير آخر: إن الدين يوحّد بين المقياس الفطري للعمل والحياة، وهو حب الذات، والمقياس الذي ينبغي ان يقام للعمل والحياة، ليضمن السعادة والرفاه والعدالة. أي أن يجمع بين الطبيعة البشرية والقانون بما ينسجم تماما فلا يحصل تناقض ولا تخالف فطري مع القانون.

إن المقياس الفطري يتطلب من الانسان أن يقدم مصالحة الذاتية على مصالح المجتمع ومقومات التماسك فيه، والمقياس الذي ينبغي ان يحكم ويسود هو: المقياس الذي تتعادل فيه المصالح كلها، وتتوازن في مفاهيمه القيم الفردية والاجتماعية.

فكيف يتم التوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزانين؛ لتعود الطبيعة الإنسانية في الفرد عاملا من عوامل الخير والسعادة للمجتمع، بعد أن كانت مثار المأساة والنزعة التي تتفنن في الأنانية وأشكالها؟

ان التوفيق والتوحيد يحصل بعملية يضمنها الدين للبشرية التائهة، وتتخذ العملية أسلوبين:

(1) - الأسلوب الاول: هو تركيز التفسير الواقعي للحياة، وإشاعة فهم الحياة في معناها الصحيح كمقدمة تمهيدية إلى حياة أخروية، يكسب الإنسان فيها من السعادة على مقدار ما يسعى في حياته المحدودة هذه في سبيل تحصيل رضا الله والقرب الإلهي. فالدين برسالته يجعل للحياة الإنسانية معنى عميق وهدف أسمى، وهو يروي عطش النفس الإنسانية التي تتطلع للمطلق، فتشخيص المفهوم غريزي وفطري، إلا أن الاختلاف بين البشر يحصل في تشخيص المصداق لهذا الكمال المطلق الذي تنشده النفس الإنسانية.

فالمقياس الخلقي -أو رضا الله تعالى والقرب الإلهي- يضمن المصلحة الشخصية، في نفس الوقت الذي يحقق فيه أهدافه الاجتماعية الكبرى. فالدين يأخذ بيد الانسان إلى المشاركة في إقامة المجتمع السعيد، والمحافظة على قضايا العدالة فيه التي تحقق رضا الله تعالي والقرب الإلهي؛ لأن ذلك يدخل في حساب ربحه الشخصي ما دام كل عمل ونشاط في هذا الميدان يعوض عنه بأعظم العوض وأجلّه.

فمسألة المجتمع تصبح مسألة الفرد أيضا في مفاهيم الدين عن الحياة وتفسيرها. ولا يمكن أن يحصل هذا الأسلوب من التوفيق في ظل فهم مادي للحياة؛ فإن الفهم المادي للحياة يجعل الإنسان بطبيعته لا ينظر إلّا إلى ميدانه الحاضر وحياته المحدودة، على عكس التفسير الواقعي للحياة الذي يقدّمه الاسلام؛ فإنه يوسع من ميدان الإنسان، ويفرض عليه نظرة أعمق إلى مصالحه ومنافعه، ويجعل من الخسارة العاجلة ربحا حقيقيا في هذه النظرة العميقة، ومن الأرباح العاجلة خسارة حقيقية في نهاية المطاف:

مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ [فصلت : 46]
مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ [النحل : 97]
وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ [غافر : 40]

هذه بعض الصور الرائعة التي يقدمها الدين مثالا على الأسلوب الأول الذي يتبعه للتوفيق بين المقياسين وتوحيد الميزان فيربط بين الدوافع الذاتية وسبل الخير في الحياة، ويطور من مصلحة الفرد تطويرا يجعله يؤمن بأن مصالحه الخاصة والمصالح الحقيقية العامة للانسانية -التي يحددها الاسلام- مترابطتان أشد الترابط.

(2) - وأما الأسلوب الثاني: الذي يتخذه الدين، للتوفيق بين الدافع الذاتي والقيم أو المصالح الاجتماعية فهو: التعهد بتربية أخلاقية خاصة تعنى بتغذية الإنسان روحيا، وتنمية العواطف الانسانية والمشاعر الخلقية فيه. أي توفير المقدار الكافي الذي يفي من القيم والموازين والقوانين بما ينسجم مع جميع طبقات المجتمع، سواء كانت هذه الموازين والقيم أخلاقية أو تشريعية.

فإن في طبيعة الانسان طاقات واستعدادات لميول متنوعة: بعضها ميول مادية تتفتح شهواتها بصورة طبيعية كشهوات الطعام والشراب والجنس والتي أسميناها بالغرائز في المقال السابق، وبعضها ميول معنوية تتفتح وتنمو بالتربية والتعاهد وهي التي أسميناها بالفطرة؛ ولأجل ذلك كان من الطبيعي للإنسان -إذا ترك لنفسه- أن تسيطر عليه الميول المادية لأنها تتفتح بصورة طبيعية، وتظل الميول المعنوية واستعداداتها الكامنة في النفس مستترة.

والدين باعتباره يؤمن بقيادة معصومة مسددة من الله، فهو يوكل أمر تربية الانسانية وتنميه الميول المعنوية فيها إلى هذه القيادة وفروعها، فتنشأ بسبب ذلك مجموعة من العواطف والمشاعر النبيلة داخل الإنسانية، ويصبح الانسان يحب القيم الخلقية والمثل التي يربيه الدين على احترامها، ويستبسل في سبيلها، ويزيح عن طريقها ما يقف أمامها من مصالحه ومنافعه الشخصية. وليس معنى ذلك ان حب الذات يمحى من الطبيعية الانسانية بل ان العمل في سبيل تلك القيم والمثل تنفيذ كامل لإرادة حب الذات؛ فان القيم بسبب التربية الدينية تصبح محبوبة للإنسان، ويكون تحقيق المحبوب بنفسه معبرا عن لذة شخصية خاصة، فتفرض طبيعة حب الذات بذاتها السعي لأجل القيم الخلقية المحبوبة تحقيقها للذة خاصة بذلك.

  • ملخص

فهذان هما الطريقان اللذان ينتج عنهما ربط المسألة الخلقية بالمسألة الفردية.

ويتلخص (1) أحدهما: في إعطاء التفسير الواقعي لحياة أبدية، لا لأجل أن يزهد الإنسان في هذه الحياة، ولا لأجل أن يخنع للظلم ويقر على غير العدل، بل لأجل ضبط الإنسان بالمقياس الخلقي الصحيح الذي يمده ذلك التفسير بالضمان الكافي.

ويتلخص (2) الآخر: في التربية الخلقية التي ينشأ عنها في نفس الإنسان مختلف المشاعر والعواطف التي تضمن إجراء المقياس الخلقي بوحي من الذات.

فالفهم المعنوي للحياة، والتربية الخلقية للنفس في رسالة الإسلام، هما السببان المجتمعان على معالجة السبب الأعمق للمأساة الإنسانية.

ولنعبر دائما عن فهم الحياة على أنها تمهيد لحياة أبدية بالفهم المعنوي للحياة. ولنعبر أيضا عن المشاعر والأحاسيس التي تغذيها التربية الخلقية بالإحساس الخلقي بالحياة.

(1) فالفهم المعنوي للحياة، (2) والإحساس الخلقي بها، هما الركيزتان اللتان يقوم على أساسهما المقياس الخلقي الجديد الذي يضعه الإسلام للإنسانية، وهو: رضا الله تعالى والقرب الإلهي. ورضا الله -هذا الذي يقيمه الإسلام مقياسا عاما في الحياة- هو الذي يقود السفينة البشرية إلى ساحل الحق والخير والعدالة.

فالميزة الاساسية للنظام الإسلامي تتمثل فيما يرتكز عليه من فهم معنوي للحياة، وإحساس خلقي بها. والخط العريض في هذا النظام هو: اعتماد الفرد هو القاعدة المركزية في التشريع والحكم، وليس الكائن الاجتماعي الكبير هو الشيء الوحيد الذي تنظر إليه الدولة وتشرّع لحسابه.

  • تشخيص وجه النقص في النظم الاجتماعية

إن كل نظام اجتماعي لا ينبثق عن ذلك الفهم والإحساس، فهو إما (1) نظام يجري مع الفرد في نزعته الذاتية، فتتعرض الحياة الاجتماعية لأقسى المضاعفات وأشد الأخطار كما في النظام الرأسمالي، (2) وإما نظام يحبس في الفرد نزعته ويشل فيه طبيعته؛ لوقاية المجتمع ومصالحه كما في النظام الماركسي. فينشأ الكفاح المرير الدائم بين النظام وتشريعاته، والأفراد ونزعاتهم، بل يتعرض الوجود الاجتماعي للنظام دائما للانتكاس على يد منشئه ما دام هؤلاء ذوي نزعات فردية أيضا، وما دامت هذه النزعات تجد لها مجالا واسعا وميدانا لا نظير له للانطلاق والاستغلال.

وكل فهم معنوي للحياة وإحساس خلقي بها لا ينبثق عنهما نظام كامل للحياة يحسب فيه لكل جزء من المجتمع حسابه، وتعطى لكل فرد حريته التي هذبها ذلك الفهم والإحساس، والتي تقوم الدولة بتحديدها في ظروف الشذوذ عنها، إن كل عقيدة لا تلد للإنسانية هذا النظام فهي لا تخرج عن كونها تلطيفا للجو وتخفيفا من الويلات، وليست علاجا محدودا وقضاء حاسما على أمراض المجتمع ومساوئه. وإنما يشاد البناء الاجتماعي المتماسك على فهم معنوي للحياة وإحساس خلقي بها، ينبثق عنهما، يملأ الحياة بروح هذا الإحساس وجوهر ذلك الفهم.

  • تعريف الإسلام كنظام اجتماعي

وهذا هو الإسلام في أخصر عبارة وأروعها. فهو عقيدة (1) معنوية و (2) خلقية، ينبثق عنها نظام كامل للإنسانية، يرسم لها شوطها الواضح المحدد، وضع لها هدفا أعلى في ذلك الشوط، ويعرفها على مكاسبها منه.

وأما أن يقضى على الفهم المعنوي للحياة، ويجرد الإنسان عن إحساسه الخلقي بها، وتعتبر المفاهيم الخلقية أوهاما خالصة خلقتها المصالح المادية، والعامل الاقتصادي هو الخلّاق لكل القيم والمعنويات، وترجى بعد ذلك سعادة للإنسانية واستقرار اجتماعي لها!، فهذا هو الرجاء الذي لا يتحقق إلا إذا تبدل البشر إلى أجهزة ميكانيكية يقدم على تنظيمها عدة من المهندسين الفنيين.

وليست إقامة الإنسان على قاعدة ذلك الفهم المعنوي للحياة والإحساس الخلقي بها، عملا شاقا وعسرا؛ فإن الأديان في تأريخ البشرية قد قامت بأداء رسالتها الكبيرة في هذا المضمار، وليس لجميع ما يحفل به العالم اليوم من مفاهيم معنوية، وأحاسيس خلقية، ومشاعر وعواطف نبيلة تعليل أوضح وأكثر منطقية من تعليل ركائزها وأسسها بالجهود الجبارة التي قامت بها الأديان لتهذيب الإنسانية والدافع الطبيعي في الإنسان، وما ينبغي له من حياة وعمل.

  • موضع الرسالة التأريخي

وقد حمل الإسلام المشعل المتفجر بالنور بعد أن بلغ البشر درجة خاصة من الوعي، فبشّر بالقاعدة المعنوية والخلقية على أوسع نطاق وأبعد مدى، ورفع على أساسها راية الإنسانية، وأقام دولة فكرية أخذت بزمام العالم ربع قرن، واستهدفت إلى توحيد البشر كله، وجمعه على قاعدة فكرية واحدة ترسم أسلوب الحياة ونظامها.

فالدولة الإسلامية لها وظيفتان: إحداهما تربية الإنسان على القاعدة الفكرية، وطبعه في اتجاهه وأحاسيسه بطابعها، والأخرى مراقبته من خارج، وإرجاعه إلى القاعدة إذا انحرف عنها عمليا.

ولذلك فليس الوعي السياسي للإسلام وعيا للناحية الشكلية من الحياة الإجتماعية فحسب، بل هو وعي سياسي عميق، مرده إلى نظرة كلية كاملة نحو الحياة والكون والاجتماع والسياسة والاقتصاد والأخلاق، فهذه النظرة الشاملة هي الوعي الإسلامي الكامل.

وكل وعي سياسي آخر فهو إما أن يكون وعيا سياسيا سطحيا لا ينظر إلى العالم من زاوية معينة، ولا يقيم مفاهيمه على نقطة ارتكاز خاصة، أو يكون وعيا سياسيا يدرس العالم من زاوية المادة البحتة، التي تمون البشرية بالصراع والشقاء في مختلف أشكاله وألوانه.

  • أخيرا

وأخيرا، وفي نهاية مطافنا على المذاهب الاجتماعية، نخرج بنتيجة، هي: أن المشكلة الاساسية التي تتولد عنها كل الشرور الاجتماعية وتنبعث منها مختلف ألوان الآثام، لم تعالج المعالجة الصحيحة التي تحسم الداء وتستأصله من جسم المجتمع البشري في غير المذهب الاجتماعي للإسلام من مذاهب.

فلابد أن نقف عند المبدأ الإسلامي في فلسفته عن الحياة والكون، حيث يختص الإسلام بقاعدة فكرية عن الحياة لها طريقتها الخاصة في فهم الحياة وموازينها المعينة لها.

والقاعدة التي يرتكز عليها المبدأ تحتوي على الطريقة والفكرة، أي: على تحديد طريقة التفكير، وتحديد المفهوم للعالم والحياة. فسوف ندرس طريقة التفكير، والمفهوم الإسلامي الفلسفي للعالم.

وطريقة التفكير هي بتعبير آخر نظرية المعرفة، حيث إننا سنخصص قسما في المدونة لدراسة نظرية المعرفة وهو: "المذهب الذاتي في نظرية المعرفة"، أما هذا القسم "الرؤية الإسلامية للعالم" فسوف يختص بدراسة المفهوم الإسلامي الفلسفي للعالم.

تحياتي
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق