الحركة والتطور بين المادية والإلهية

بسم الله الرحمن الرحيم
  • مقدمة (ضرورية جدا لفهم معنى التطور في المنطق المادي)
الجدل في المفهوم الكلاسيكي يعني طريقة خاصة في البحث، وأسلوبا للحوار والمناظرة التي تطرح فيها وجهات النظر المختلفة والمتعارضة.

والجدل في المفهوم المادي الجديد لا يقتصر كونه منهجا في البحث وأسلوبا لتبادل الآراء، بل أصبح طريقة لتفسير الواقع الموضوعي، وقانونا كونيا عاما ينطبق على مختلف حقائق الوجود والتاريخ. فالتناقض ليس بين الآراء المختلفة فحسب، بل هو ثابت في صميم كل واقع وحقيقة، فما من قضية إلا وتنطوي في ذاتها على نقيضها ونفيها! كما في نواة الذرة وما يدور حولها من شحنات سالبة، فالذرة هي وحدة بناء المادة، وهي تنطوي في داخلها على مجموعة من المتناقضات.

وكان (هيكل) أوّل من أشاد منطقاً كاملا على هذا الأساس، فكان التناقض الديالكتيكي هو النقطة المركزية في ذلك المنطق الهيكلي، والقاعدة الأساسية التي يقوم عليها فهم جديد للعالم، وتنشأ على أساسه نظرية جديدة نحوه، تختلف كلّ الاختلاف عن النظرة الكلاسيكية التي اعتادها البشر منذ قُدّر له أن يدرِك ويفكّر.

وليس (هيكل) هو الذي ابتدع اُصول الديالكتيك ابتداعاً؛ فإنّ لتلك الاُصول جذوراً وأعماقاً في عدّة من الأفكار التي كانت تظهر بين حين وآخر على مسرح العقل البشري، غير أنها لم تتبلور على اُسلوب منطق كامل واضح في تفسيره ونظرته للكون، محدّد في خططه وقواعده، إلاّ على يد (هيكل). فقد أنشأ فلسفته المثالية كلّها على أساس هذا الديالكتيك، وجعله تفسيراً كافياً للمجتمع، والتأريخ، والدولة، وكلّ مظاهر الحياة. وتبنّاه بعده (ماركس) فوضع فلسفته المادّية في تصميم ديالكتيكي خالص.

فالجدل الجديد في زعم الديالكتيكيين قانون للفكر والواقع على السواء. ولذلك فهو طريقة للتفكير، ومبدأ يرتكز عليه الواقع في وجوده وتطوّره.

قال لينين: "فإذا كان ثمّة تناقضات في أفكار الناس؛ فذلك لأنّ الواقع الذي يعكسه فكرنا يحوي تناقضات. فجدل الأشياء ينتج جدل الأفكار، وليس العكس". وقال ماركس: "ليست حركة الفكر إلاّ انعكاساً لحركة الواقع، منقولة ومحوّلة في مخ الإنسان"، نقلا عن كتاب المادية والمثالية في الفلسفة لجورج بوليتزر.

إن هذا المنطق بما قام عليه من أساس الديالكتيك والتناقض، يعتبر في النقطة المقابلة للمنطق الكلاسيكي، أو المنطق البشري العامّ تماماً؛ ذلك أنّ المنطق العام يؤمن بمبدأ عدم التناقض، ويعتبره المبدأ الأوّل الذي يجب أن تقوم كلّ معرفة على أساسه، والمبدأ الضروري الذي لا يشذّ عنه شيء في دنيا الوجود، ولا يمكن أن يبرهن على حقيقة مهما كانت لولاه، فعدم التناقض، يعتبر أبده بديهة.

ويرفض المنطق (الهيكلي) هذا المبدأ كلّ الرفض، ولا يكتفي بالتأكيد على إمكان التناقض، بل يجعل التناقض -بدلا عن سلبه- المبدأ الأوّل لكلّ معرفة صحيحة عن العالم، والقانون العامّ الذي يفسّر الكون كلّه بمجموعة من التناقضات. فكلّ قضية في الكون تعتبر إثباتاً، وتثير نفيها في نفس الوقت، ويأتلف الإثبات والنفي في إثبات جديد. فالنهج المتناقض للديالكتيك أو الجدل الذي يحكم العالم، يتضمّن ثلاث مراحل تُدعى: الإثبات، والنفي، ونفي النفي. وبحكم هذا النهج الجدلي يكون كلّ شيء مجتمعاً مع نقيضه، وبهذا بزعمهم يتولد الشك العلمي، فهو ثابت ومنفي، وموجود ومعدوم في وقت واحد. وهذا الكلام فارغ لا محتوى له، حيث جعل هذا المنطق التناقض أساس إثبات لا نفي، وبهذا يلغي كل معنى للحياة والواقع والحقيقة، فلا يوجد حقيقة مطلقا في هذا العالم، لأن الحقيقة تتغير وتتبدل، فمن المحتمل أن يصبح 2+2 يساوي 5 في يوم ما! تبعا لتبدل الحقيقة بسبب تطور رؤية الإنسان للواقع.

مدعيات المنطق الهيكلي
وقد ادّعى المنطق (الهيكلي) أنه قضى -بما زعمه للوجود من جدل- على الخطوط الرئيسية للمنطق الكلاسيكي، وهي -في زعمه- كما يأتي:

أوّلا: مبدأ عدم التناقض. وهو يعني: أنّ الشيء الواحد لا يمكن أن يتّصف بصفة وبنقيض تلك الصفة في وقت واحد.
ثانياً: مبدأ الهوية. وهو المبدأ القائل: إنّ كلّ ماهية فهي ما هي بالضرورة، ولا يمكن سلب الشيء عن ذاته.
ثالثاً: مبدأ السكون والجمود في الطبيعة. الذي يرى سلبية الطبيعة وثباتها، وينفي الديناميكية عن دنيا المادّة.

فالمبدأ الأوّل لا موضع له في المنطق الجديد ما دام كلّ شيء قائماً في حقيقته على التناقض. وإذا ساد التناقض كقانون عام، فمن الطبيعي أن يسقط المبدأ الثاني للمنطق الكلاسيكي أيضاً؛ فإنّ كلّ شيء تسلب عنه هويته في لحظة الإثبات بالذات؛ لأنّه في صيرورة مستمرّة، وما دام التناقض هو الجذر الأساسي لكلّ حقيقة، فلا غرو فيما إذا كانت الحقيقة تعني شيئين متناقضين على طول الخطّ. ولمّا كان هذا التناقض المركز في صميم كلّ حقيقة مثيراً لصراع دائم في جميع الأشياء، والصراع يعني: الحركة والاندفاع، فالطبيعة في نشاط وتطوّر دائم، وفي اندفاعة وصيرورة مستمرّة.

هذه هي الضربات التي زعم المنطق الديالكتيكي المادي أنه سدّدها إلى المنطق الإنساني العام، والمفهوم المألوف للعالم الذي ارتكزت عليه الإنسانية آلاف السنين.

الطريقة المادية لفهم الوجود:
وتتلخّص الطريقة المادية لفهم الوجود في افتراض قضية اُولى، وجعلها أصلا، ثمّ ينقلب هذا الأصل إلى نقيضه بحكم الصراع في المحتوى الداخلي بين المتناقضات، ثمّ يأتلف النقيضان في وحدة ، وتصبح هذه الوحدة بدورها أصلا ونقطة انطلاق جديد، وهكذا يتكرّر هذا التطوّر الثلاثي تطوّراً لا نهاية له ولا حدّ، يتسلسل مع الوجود، ويمتدّ ما امتدّت ظواهره وحوادثه.

وقد بدأ (هيكل) بالمفاهيم والمقولات العامّة، فطبّق عليها الديالكتيك، واستنبطها بطريقة جدلية قائمة على التناقض. وأشهر ثواليثه في هذا المجال وأوّلها هو: الثالوث الذي يبدأ من أبسط تلك المفاهيم وأعمّها، وهو: مفهوم الوجود. فالوجود موجود، وهذا هو الإثبات، بيد أنه ليس شيئاً؛ لأنّه قابل لأن يكون كلّ شيء. فالدائرة وجود، والمربّع، والأبيض، والأسود، والنبات، والحجر، كلّ هذا هو موجود. فليس الوجود شيئاً محدّداً، وهو بالتالي ليس موجوداً، وهذا هو النفي الذي أثاره الإثبات، وهكذا حصل التناقض في مفهوم الوجود، ويحلّ هذا التناقض في التركيب بين الوجود واللاوجود الذي ينتج موجوداً لا يوجد على التمام، أي: صيرورة وحركة، وهكذا ينتج أنّ الوجود الحقّ هو الصيرورة. والحقيقة: أن هذا هو عين الخلط بين المفهوم والمصداق، حيث أن هذا الخلط جعله يفترض التناقضات في المفاهيم.

هذا مثال سقناه لنوضّح كيف يتسلسل أبو الجدل الحديث في استنباط المفاهيم العامّة من الأعمّ إلى الأخصّ، ومن الأكثر خواءً وضعفاً، إلى الأكثر ثراءً والأقرب إلى الواقع الخارجي.

وليس هذا الجدل في استنباط المفاهيم عنده إلاّ انعكاساً لجدل الأشياء بذاتها في الواقع، فإذا استثارت فكرة من الأفكار فكرة مقابلة لها، فلأنّ الواقع الذي تمثّله هذه الفكرة يتطلّب الواقع المضادّ، أي أن التناقض واقع في الواقع الخارجي.

ونظرة بسيطة على هذا المثال في قضية الوجود التي هي أشهر ثواليثه، تدلّنا بوضوح على أنّ (هيكل) وبتبعه المادية المعاصرة لم يفهموا مبدأ عدم التناقض حقّ الفهم حين ألغوه، ووضعوا موضعه مبدأ التناقض.

ولا أدري كيف يستطيع المادي المعاصر أن يشرح لنا التناقض، أو النفي والإثبات المجتمعين في مفهوم الوجود؟ إنّ مفهوم الوجود مفهوم عام دون شكّ، وهو لذلك قابل لأن يكون كلّ شيء، قابل لأن يكون نباتاً أو جماداً، أبيض أو أسود، دائرة أو مربّعاً. ولكن هل معنى هذا: أنّ هذه الأضداد والأشياء المتقابلة مجتمعة كلّها في هذا المفهوم، ليكون ملتقىً للنقائض والأضداد؟ طبعاً لا؛ فإنّ اجتماع الاُمور المتقابلة في موضوع واحد شيء، وإمكان صدق مفهوم واحد عليها شيء آخر. حيث هناك فارق بين المفهوم والمصداق، وما لم يتضح معنى كل واحد منهما لن يستطيع المادي فهم جملة من الأمور من أهمها صفات الله تعالى، حيث إن اللادينيين يرفضون أن يكون الإله حاملا أو متصفا بصفات البشر من العلم والقدرة، وقد خلط بين الاشتراك المفهومي والمصداقي، وهو ليس كمثله شيء مصداقا لا مفهوما!

فالوجود مفهوم ليس فيه من نقائض السواد والبياض، أو النبات والجماد شيء، وإنّما يصحّ أن يكون هذا أو ذاك، لا أنه هو هذا وذاك معاً في وقت واحد.

ولندع مقولات هيكل، لندرس الجدل المادي الحديث في خطوطه العريضة التي وضع تصميمها الأساسي هيجل نفسه.

والخطوط الأساسية أربعة، وهي : (1) حركة التطوّر، (2) وتناقضات التطوّر، (3) وقفزات التطوّر، (4) والإقرار بالارتباط العام. وسوف نقف على حركة التطور في هذا المقال، والبقية في المقال القادم بإذن الله تعالى.

  • حركة التطوّر
إن كلّ شيء خاضع لقوانين التطوّر والصيرورة في المنطق المادي، وليس لهذا التطوّر أو الصيرورة حدّ يتوقّف عنده؛ لأنّ الحركة هي المسألة اللامتناهية للوجود كلّه.

ويزعم الماديون أنهم وحدهم الذين يعتبرون الطبيعة حالة حركة وتغيّر دائمين. وينعون على المنطق الإلهي والاُسلوب التقليدي للتفكير طريقة دراسته للأشياء وفهمها؛ إذ يفترض الطبيعة في حالة سكون وجمود مطلقين، فهو لا يعكس الطبيعة على واقعها المتطوّر المتحرّك. ولا أدري من أغفلهم أن الفلسفة الإلهية لا تثبت الحركة؟ بل من أهم مرتكزاتها إثبات الحركة في الجوهر لا الاقتصار على الحركة في العَرَض كما اقتصرت عليه المادية وكذلك المفهوم العلمي.

فالفرق بين المنطق الجدلي الذي يعتقد في الطبيعة حركة دائمة وصاعدة أبداً، والمنطق الإلهي -في زعمهم- كالفرق بين شخصين أرادا أن يكتشفا كائنا حيّا في شتّى أدواره، فأجرى كلّ منهما تجاربه عليه، ثمّ وقف أحدهما يراقب تطوّره وحركته المستمرّة، ويدرسه على ضوء تطوّراته كلّها، واكتفى الآخر بالتجربة الاُولى معتقداً أنّ ذلك الكائن جامد في كيانه، ثابت في هويّته وواقعه. فالطبيعة برمّتها شأنها شأن هذا الكائن الحيّ، من النبات أو الحيوان في تطوّره ونموّه، فلا يواكبها الفكر إلاّ إذا جاراها في حركتها وتطوّرها.

والواقع: أنّ قانون التطوّر الديالكتيكي الذي يعتبره الجدل الحديث من مميّزاته الأساسية ليس شيئاً جديداً في الفكر الإنساني، وإنّما الجديد طابعه الديالكتيكي الذي يجب نزعه عنه، كما سنعرف. فهو في حدوده الصحيحة ينسجم مع المنطق العامّ، ولا صلة له بالديالكتيك، ولا فضل للديالكتيك في اكتشافه، فليس علينا لأجل أن نقبل هذا القانون، ونعرف سبق الميتافيزيقا إليه، إلاّ أن نجرّده عن قالب التناقض. فالخلاف ليس في حدوث الحركة، إن الحركة أمر ثابت وجدانيا، ولكن الخلاف كل الخلاف في إعطاء تفسير للحركة.

إنّ الإلهية في زعم المادي يعتقد أنّ الطبيعة جامدة ساكنة، وأنّ كلّ شيء فيها ثابت لا يتغيّر ولا يتبدّل، كأنّ المؤمن المسكين قد حُرِم من كلّ ألوان الإدراك، وسُلِب منه الشعور والحسّ معاً، فأصبح لا يحسّ ولا يشعر بما يشعر به جميع الناس وحتّى الأطفال من التغيّرات والتبدّلات في دنيا الطبيعة.

ومن الواضح لدى كلّ أحد: أنّ الإيمان بوجود التغيّر في عالم الطبيعة مسألة لا تحتاج إلى دراسات علمية سابقة، وليست موضعاً لخلاف أو نقاش، وإنّما الجدير بالدرس هو ماهية هذا التغيّر وحقيقته، ومدى عمقه وعمومه؛ فإنّ التغيّر نحوان: أحدهما التعاقب البحت، والآخر الحركة. والتأريخ الفلسفي يروي صراعاً حادّاً لا في مسألة التغيّر بصورة عامة، بل في كنهه وتفسيره الفلسفي الدقيق. ويدور الصراع حول الجواب عن الأسئلة التالية:

هل التغيّر الذي يطرأ على الجسم حين يطوي مسافةً ما، عبارة عن وقفات متعدّدة في أماكن متعدّدة تعاقبت بسرعة، فتكوّنت في الذهن فكرة الحركة؟ أو إنّ مردّ هذا التغيّر إلى سير واحد متدرّج لا وقوف فيه ولا سكون؟ وهل التغيّر الذي يطرأ على الماء حين تتضاعف حرارته وتشتدّ، يعني مجموعة من الحرارات المتعاقبة، يتلو بعضها بعضاً؟ أو إنّه يعبّر عن حرارة واحدة تتكامل وتتحرّك وتترقّى درجتها؟

بكلمة أخرى، السؤال هو: ما هو التفسير الفلسفي للحركة؟ كيف نفسر الحركة؟ كمثال على ذلك، ما هو تفسير حركة التطور في الكائنات الحية، هل هو تطور ينتج عن التناقضات الداخلية في المادة، أم أنه تكامل تدريجي يسير وفق قانون موضوع له؟

بمعنى: أنّ الظاهرة الطبيعية قد لا توجد على التمام في لحظة، بل توجد على التدريج وتستنفذ إمكاناتها شيئاً فشيئاً، وبذلك يحصل التطوّر ويوجد التكامل. فالماء حين تتضاعف حرارته لا يعني ذلك: أنه في كلّ لحظة يستقبل حرارة بدرجة معيّنة، توجد على التمام ثمّ تُفنى وتُخلق من جديد حرارة اُخرى بدرجة جديدة، بل محتوى تلك المضاعفة: أنّ حرارة واحدة وجدت في الماء، ولكنّها لم توجد على التمام، بمعنى: أنها لم تستنفذ في لحظتها الاُولى كلّ طاقاتها وإمكاناتها، ولذلك أخذت تستنفذ إمكاناتها بالتدريج، وتترقّى بعد ذلك وتتطوّر. وبالتعبير الفلسفي: أنها حركة مستمرّة متصاعدة.

ومن الواضح: أنّ التكامل -أو الحركة التطوّرية- لا يمكن أن يُفهم إلاّ على هذا الأساس، وأمّا تتابع ظواهر متعدّدة يوجد كلّ واحدة منها بعد الظاهرة السابقة، وتفسح المجال بفنائها لظاهرة جديدة، فليس هذا نموّاً وتكاملا، وبالتالي ليس حركة، وإنّما هو لون من التغيّر العامّ، والحركة تكامل وارتقاء.

التعريف الفلسفي للحركة: فالحركة سير تدريجي للوجود، وتطوّر للشيء في الدرجات التي تتّسع لها إمكاناته؛ ولذلك حدّد المفهوم الفلسفي للحركة بأنها خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجياً، والقوّة: عبارة عن إمكان الشيء، والفعل: عبارة عن وجوده حقيقة.

ويرتكز هذا التحديد على الفكرة التي قدّمناها عن الحركة، فإنّ الحركة -كما عرفنا- ليست عبارة عن فناء الشيء فناءً مطلقاً ووجود شيء آخر جديد، وإنّما هي تطوّر الشيء في درجات الوجود. فيجب إذن أن تحتوي كلّ حركة على وجود واحد مستمرّ منذ تنطلق إلى أن تتوقّف، وهذا الوجود هو الذي يتحرّك، بمعنى: أنه يتدرّج ويثرى بصورة مستمرّة، وكلّ درجة تعبّر عن مرحلة من مراحل ذلك الوجود الواحد، وهذه المراحل إنّما توجد بالحركة، فالشيء المتحرّك أو الوجود المتطوّر لا يملكها قبل الحركة وإلاّ لما وجدت حركة، بل هو في لحظة الانطلاق يتمثّل لنا في قوىً وإمكانات، وبالحركة تستنفذ تلك الإمكانات، ويُستبدَل في كلّ درجة من درجات الحركة الإمكانُ بالواقع والقوّة بالفعليّة.

فالحركة هي لون من ألوان الإفاضة المستمرة التدريجية، بما ينسجم تماما مع مبدأ الخلق الذي يعني بأبسط صورة: إفاضة مستمرة تدريجية تخرج الوجود من حيز القوة إلى حيز الفعلية، بما يتلاءم واستعداد ذلك الوجود.

فالماء قبل وضعه على النار لا يملك من الحرارة المحسوسة إلاّ إمكانها، أي أن فيه قابلية أن يكون حارا، وهذا الإمكان الذي يملكه ليس إمكاناً لدرجة معيّنة من الحرارة، بل هي بجميع درجاتها -التي تؤدّي إلى الحالة الغازية في النهاية- ممكنة للماء، وحين يبدأ الماء بالانفعال والتأثّر بحرارة النار تبدأ حرارته بالحركة والتطوّر، بمعنى: أنّ القوى والإمكانات التي كانت تملكها تتبدّل إلى حقيقة، والماء في كلّ مرحلة من مراحل الحركة يخرج من إمكان إلى فعلية، ولذلك تكون القوّة والفعلية متشابكتين في جميع أدوار الحركة، وفي اللحظة التي تستنفذ جميع الإمكانات تقف الحركة.

المؤثر في هذه الحركة هو سبب مادي، فينفعل الماء بالحرارة وتبدأ الحرارة بالحركة التطورية في الماء، أما المؤثر في عملية التفكير هو سبب مجرد عن المادة، فينفعل الدماغ.

فالحركة في كلّ مرحلة ذات وجين: فهي من ناحية فعلية وواقعية؛ لأنّ الدرجة التي تسجّلها المرحلة موجودة بصورة واقعية وفعلية. ومن ناحية اُخرى هي إمكان وقوّة للدرجات الاُخرى الصاعدة التي ينتظر من الحركة أن تسجّلها في مراحلها الجديدة. فالماء في مثالنا إذا لاحظناه في لحظة معيّنة من الحركة، نجد أنه ساخن بالفعل بدرجة ثمانين مثلا، ولكنّه في نفس الوقت ينطوي على إمكان تخطّي هذه الدرجة، وقوّة تطوّر للحرارة إلى أعلى. ففعلية كلّ درجة في مرحلتها الخاصّة مقارنة لقوّة فنائها.

ولنأخذ مثالا أعمق للحركة، وهو الكائن الحيّ الذي يتطوّر بحركة تدريجية، فهو بويضة، فنطفة، فجنين، فطفل، فمراهق، فراشد. إنّ هذا الكائن في مرحلة محدودة من حركته هو نطفة بالفعل، ولكنّه في نفس الوقت شيء آخر مقابل للنطفة وأرقى منها، فهو جنين بالقوّة، ومعنى هذا: أنّ الحركة في هذا الكائن قد ازدوجت فيها الفعلية والقوّة معاً. فلو لم يكن في الكائن الحيّ قوّة درجة جديدة وإمكاناتها لما وجدت حركة، ولو لم يكن شيئاً من الأشياء بالفعل لكان عدماً محضاً، فلا توجد حركة أيضاً. فالتطوّر يأتلف دائماً من شيء بالفعل وشيء بالقوّة. وهكذا تستمرّ الحركة ما دام الشيء يحتوي على الفعلية والقوّة معاً، على الوجود والإمكان معاً، فإذا نفذ الإمكان، ولم تبقَ في الشيء طاقة على درجة جديدة، انتهى عمر الحركة.

هذا هو معنى خروج الشيء من القوّة إلى الفعل تدريجاً، أو تشابك القوّة والفعل أو اتّحادهما في الحركة.

وهذا هو المفهوم الفلسفي الدقيق الذي تعطيه الفلسفة الميتافيزيقية للحركة، وقد أخذته المادّية فلم تفهمه ولم تتبيّنه على وجهه الصحيح، فزعمت أنّ الحركة لا تتمّ إلاّ بالتناقض، التناقض المستمرّ في صميم الأشياء، كما سوف نعرف عن قريب.

دور الفلسفة الإسلامية
وجاء بعد ذلك دور الفلسفة الإسلامية على يد الفيلسوف الإسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي)، فوضع نظرية الحركة العامّة، وبرهن فلسفياً على أنّ الحركة بمفهومها الدقيق الذي عرضناه، لا تمسّ ظواهر الطبيعة وسطحها العرضي فحسب، بل الحركة في تلك الظواهر ليست إلاّ جانباً من التطوّر يكشف عن جانب أعمق، وهو التطوّر في صميم الطبيعة وحركتها الجوهرية؛ ذلك أنّ الحركة السطحية في الظواهر لمّا كان معناها التجدّد والانقضاء، فيجب لهذا أن تكون علّتها المباشرة أمراً متجدّداً غير ثابت الذات أيضاً؛ لأنّ علّة الثابت ثابتة، وعلّة المتغيّر المتجدّد متغيّرة متجدّدة، فلا يمكن أن يكون السبب المباشر للحركة أمراً ثابتاً، وإلاّ لم تنعدم أجزاء الحركة، بل تصبح قراراً وسكوناً. كمثال على ذلك الفحم، فهو جمر بالقوة ولكنه فحم بالفعل، وعندما يتعرض إلى حرارة خارجية فإنه يبدأ بحركة جوهرية تمس حقيقة الفحمة، فتتحول بالتدريج إلى فحمة حارة ثم إلى جمرة ثم بعد ذلك تتحول إلى رماد، فتحولها من فحم إلى رماد، إنما هو تحول في حقيقة الفحمة نفسها لا فقط في ظاهرها كما لو قمنا بطلائها باللون الأبيض.

البرهان الفلسفي للحركة الجوهرية
ويتلخّص الاستدلال الرئيسي على الحركة الجوهرية بالأمرين التاليين:
(1) الأوّل: أنّ العلّة المباشرة للحركات العرضية والسطحية في الأجسام -من الميكانيكية والطبيعية- قوّة خاصّة قائمة بالجسم، وهذا المعنى صادق حتّى على الحركات الآلية التي يبدو لأوّل وهلة أنها منبثقة عن قوّة منفصلة، كما إذا دفعت بجسم في خطّ اُفقي أو عمودي، فإنّ المفهوم البدائي من هذه الحركة أنها معلولة للدفعة الخارجية والعامل المنفصل، ولكنّ الواقع غير هذا؛ فإنّ العامل الخارجي لم يكن إلاّ شرطاً من شروط الحركة. وأمّا المحرّك الحقيقي فهو: القوّة القائمة بالجسم، أي قابلية الجسم للحركة، فلو لم تكن هذه القابلية لما تحرك الجسم، ولأجل ذلك كانت الحركة تستمرّ بعد انفصال الجسم المتحرّك عن الدفعة الخارجية والعامل المنفصل، وكان الجهاز الميكانيكي المتحرّك يسير مقداراً ما بعد بطلان العامل الآلي المحرّك، بل ويتوقف بسبب عوامل وشروط خالجية كالاحتكاك، وعلى هذا الأساس وضع الميكانيك الحديث قانون القصور الذاتي القائل: إنّ الجسم إذا حُرِّك استمرّ في حركته ما لم يمنعه شيء خارجي عن مواصلة نشاطه الحركي. غير أنّ هذا القانون اُسيء استخدامه؛ إذ اعتبر دليلا على أنّ الحركة حين تنطلق لا تحتاج بعد ذلك إلى سبب خاصّ وعلّة معيّنة، واتّخذ أداة للردّ على مبدأ العلّية وقوانينها.

ولكنّ الصحيح: أنّ التجارب العلمية في الميكانيك الحديث، إنّما تدلّ على أنّ العامل الخارجي المنفصل ليس هو العلّة الحقيقية للحركة، وإلاّ لما استمرّت حركة الجسم بعد انفصال الجسم المتحرّك عن العامل الخارجي المستقلّ ويجب لهذا أن تكون العلّة المباشرة للحركة قوّة قائمة بالجسم، وأن تكون العوامل الخارجية شرائط ومثيرات لتلك القوّة.

(2) الثاني: أنّ المعلول يجب أن يكون مناسباً للعلّة في الثبات والتجدّد، فإذا كانت العلّة ثابتة كان المعلول ثابتاً، وإذا كان المعلول متجدّداً ومتطوّراً كانت العلّة متجدّدة ومتطوّرة. ومن الضروري على هذا الضوء أن تكون علّة الحركة متحرّكة ومتجدّدة، طبقاً لتجدّد الحركة وتطوّرها نفسها؛ إذ لو كانت علّة الحركة ثابتة ومستقرّة، لكان كلّ ما يصدر منها ثابتاً ومستقرّاً، فتعود الحركة سكوناً واستقراراً، وهو يناقض معنى الحركة والتطوّر.

وعلى أساس هذين الأمرين نستنتج:

(1) أوّلا: أنّ القوّة القائمة بالجسم والمحرّكة له، قوّة متحرّكة ومتطوّرة، فهذه القوّة بسبب تطوّرها تكون علّة للحركات العرضية والسطحية جميعاً، وهي قوّة جوهرية؛ إذ لا بدّ أن تنتهي إلى قوّة جوهرية؛ لأنّ العرض يتقوّم بالجوهر. وهكذا ثبتت الحركة الجوهرية في الطبيعة.

(2) ثانياً: أنّ الجسم يأتلف دائماً من مادّة تعرضها الحركات، وقوّة جوهرية متطوّرة، وبسببها تحصل الحركة السطحية في ظواهر الجسم وأعراضه.

وليس في المستطاع الآن أن نعرض الحركة الجوهرية وبراهينها بأكثر من هذه اللمحة، للتوسع يراجع الأسفار الأربعة 3 : 61 ، الفصل 19 ، و : 46 ، الفصل 20. والجزء 4 :273، بحث وتدقيق.

ولم يبرهن الفيلسوف (الشيرازي) على الحركة الجوهرية فحسب، بل أوضح أنّ مبدأ الحركة في الطبيعة من الضرورات الفلسفية للميتافيزيقية. وفسّر على ضوئه صلة الحادث بالقديم وعدّة من المشاكل الفلسفية الاُخرى: كمشكلة الزمان، فقد قدّم (الشيرازي) تفسيراً جديداً للزمان، يردّه فيه إلى الحركة الجوهرية للطبيعة، وبهذا أصبح الزمان في مفهومه الفلسفي هذا مقوِّماً للجسم، أي بعدا رابعا لعالم المادة، ولم يعد شيئاً مجرّداً مستقلا عنه، بل وهو نسبي تبعا لنسبية الحركة وتغيراتها التدريجية، وهو عين ما أثبته لاحقا أنشتاين رياضيا. وكذلك حل إشكال علاقة النفس المجردة بالجسم المادي وسوف نعرض لتجرّد المادّة، وعلاقة النفس بالجسم في مواضيع لاحقة إن شاء الله، كما وسنعرض للسير الفكري من المقدمات إلى النتائج بين الفلسفة الإسلامية والفيزياء في موضوع مستقل إن شاء الله، وسنتوسع في دراسة هذه النقاط ومسألة علة خلق العالم ولماذا خلق العالم على هذا النحو دون غيره في موضوع آخر بإذنه تعالى.

والمشكلة في صلة الحادث بالقديم هي: أنّ العلّة باعتبارها قديمة وأزلية يجب أن تكون علّة لما يناسبها، ويتّفق معها في القدم والأزلية. وعلى هذا الأساس خُيِّل لعدّة من الإلهيين: أنّ الإيمان بالخالق الأزلي يحتّم من ناحية فلسفية الاعتقاد بقدم العالم وأزليّته؛ لئلاّ ينفصل المعلول عن علّته. وقد حلّ الشيرازي هذه المشكلة على ضوء الحركة الجوهرية القائلة: إنّ عالم المادّة في تطوّر وتجدّد مستمرّ، فإنّ حدوث العالم على هذا الأساس كان نتيجة حتمية لطبيعته التجدّدية، ولم يكن لأجل حدوث العلّة وتجدّد الخالق الأوّل. راجع الأسفار الأربعة 3 :128، الفصل 33، و 68، الفصل 21.

فهل يصحّ بعد هذا كلّه اتّهام الإلهية بأنها تؤمن بجمود الطبيعة وسكونها؟! والحقيقة: أنّ هذا الاتّهام لا مبرّر له إلاّ سوء فهم المادّية للحركة بمعناها الفلسفي الصحيح.

فما هو الفارق بين الحركة وقانونها العامّ في فلسفتنا الإسلامية، ونظرية الحركة الديالكتيكية في المادّية الجدلية؟

إنّ الاختلاف بين الحركتين يتلخّص في نقطتين أساسيّتين:

(1) النقطة الاُولى: أنّ الحركة في مفهومها الديالكتيكي تقوم على اساس التناقض والصراع بين المتناقضات، فهذا التناقض والصراع هو القوّة الداخلية الدافعة للحركة والخالقة للتطوّر. وعلى عكس ذلك في مفهومنا الفلسفي عن الحركة فإنّه يعتبر الحركة سيراً من درجة إلى درجة مقابلة، من دون أن تجتمع تلك الدرجات المتقابلة في مرحلة واحدة من مراحل الحركة.

ولأجل أن يتّضح ذلك يجب أن نميّز بين القوّة والفعل، ونحلّل المغالطة المادية التي ترتكز على اعتبار القوّة والفعل وحدة متناقضة:

تحليل لمعنى القوة والفعل ومعنى كونهما ليسا وحدتا تناقض
إنّ الحركة مركّبة من قوّة وفعل. فالقوّة والفعل متشابكان في جميع أدوار الحركة، ولا يمكن أن توجد ماهية الحركة دون أحد هذين العنصرين، فالوجود في كلّ دور من أدوار سيره التكاملي، يحتوي على درجة معيّنة بالفعل، وعلى درجة أرقى منها بالقوّة، فهو في اللحظة التي يتكيّف فيها بتلك الدرجة يسير في اتّجاه متصاعد ويتخطّى درجته الحاضرة.

وقد خُيّل للمادية (أقصد بالمادية الفلسفة المادية التي يتبناها الملحدون كفكر يفسر عالمنا ويقيمون على أساسه تفسير نتائج القضايا العلمية) أنّ هذا لون من التناقض، وأنّ الوجود المتطوّر يحتوي على الشيء ونقيضه، وأنّ هذا الصراع بين النقيضين هو الذي يولّد الحركة.

قال الفيلسوف الألماني فريدريك أنجلز:

"إنّ الوضع يختلف كلّ الاختلاف؛ إذ ننظر إلى الكائنات وهي في حالة حركتها، في حالة تغيّرها، في حالة تأثيراتها المتبادلة على بعضها البعض، حيث نجد أنفسنا بدء هذه النظرة بأننا مغمورون في التناقضات، فالحركة نفسها هي تناقض. إنّ أبسط تغيّر ميكانيكي في المكان لا يمكن أن يحدث إلاّ بواسطة كينونة جسم ما، في مكان ما، في لحظة ما، وفي نفس تلك اللحظة كذلك، في غير ذلك المكان، أي: كينونته وعدم كينونته معاً في مكان واحد، في نفس اللحظة الواحدة، فتتابع هذا التناقض تتابعاً مستمرّاً، وحلّ هذا التناقض حلا متواقتاً مع هذا التتابع، هو ما يسمّى بالحركة".

تقع الكارثة على رأس الماديين
انظروا ما أسخف مفهوم الحركة في المادّية الجدلية، هذا المفهوم الذي يشرحه (أنجلز) على أساس (التناقض)، وهو لا يعلم أنّ درجتين من الحركة لو كانتا موجودتين بالفعل في مرحلة معيّنة منها، لما أمكن التطوّر، وبالتالي لجمدت الحركة؛ لأنّ الحركة انتقال للموجود من درجة إلى درجة، ومن حدّ إلى حدّ، فلو كانت الحدود والنقاط كلّها مجتمعة بالفعل، لما وجدت حركة، فمن الضروري أن لا تُفسَّر الحركة إلاّ على ضوء مبدأ (عدم التناقض)، وإلاّ لو جاز التناقض، فمن حقّنا أن نتساءل: هل إنّ الحركة تنطوي على التغيّر في درجات الشيء المتطوّر، والتبدّل في حدوده ونوعيّته أو لا؟ فإن لم يكن فيها شيء من التغيّر والتجدّد، فليست هي حركة، بل هي جمود وثبات. وإن اعترفت المادية بالتجدّد والتغيّر في الحركة فلماذا هذا التجدّد إذا كانت المتناقضات كلّها موجودة بالفعل ولم يكن بينها تعارض؟

إنّ أبسط تحليل للحركة يطلعنا على أنها مظهر من مظاهر التمانع، وعدم إمكان الاجتماع بين النقائض والمتقابلات، الذي يفرض على الموجود المتطوّر التغيّر المستمرّ لدرجته وحدّه. وليس التناقض أو الديالكتيك المزعوم في الحركة إلاّ اعتبارا للخلط بين القوّة والفعل.

فالحركة في كلّ مرحلة لا تحتوي على درجتين، أو فعليتين متناقضتين، وإنّما تحتوي على (1) درجة خاصّة بالفعل، وعلى (2) درجة اُخرى بالقوّة؛ ولذلك كانت الحركة خروجاً تدريجياً من القوّة إلى الفعل.

ولكنّ عدم الوعي الفلسفي الكامل هو الذي صار سبباً في تزوير مفهوم الحركة.

وهكذا يتّضح: أنّ قانون (نقض النقض)، وتفسير الحركة به، وكلّ ما اُحيط به ذلك من ضوضاء وضجيج وصخب وسخرية بالأفكار الفلسفية الإلهية التي تؤمن بمبدأ (عدم التناقض)، إنّ كلّ ذلك مردّه إلى المفهوم الفلسفي الذي عرضناه للحركة، والذي أساءت الماركسية فهمه، فاعتبرت تشابك القوّة والفعل أو اتّحادهما في جميع مراحل الحركة، عبارة عن اجتماع فعليات متقابلة، وتناقض مستمرّ، وصراع بين المتناقضات، فرفضت لأجل ذلك مبدأ (عدم التناقض)، وأطاحت بالمنطق العام كلّه.

نتيجة مهمة جدا
ولمّا كنّا نعرف الآن بكلّ وضوح أنّ الحركة ليست صراعاً بين فعليات متناقضة دائماً، بل هي تشابك بين القوّة والفعل، وخروج تدريجي للشيء من أحدهما إلى الآخر، نستطيع أن ندرك أنّ الحركة لا يمكن أن تكتفي ذاتياً عن السبب، وأنّ الوجود المتطوّر لا يخرج من القوّة إلى الفعل إلاّ لسبب خارجي، وليس الصراع بين التناقضات هو العلّة الداخلية لذلك؛ إذ ليست في الحركة وحدة للتناقضات والأضداد لتنتج الحركة عن الصراع بينها. فما دام الوجود المتطوّر في لحظة انطلاق الحركة خالياً من الدرجات أو النوعيات التي سوف يحصل عليها في مراحل الحركة، ولم يكن في محتواه الداخلي إلاّ إمكان تلك الدرجات، والاستعداد لها، فيجب أن يوجد سبب لإخراجه من القوّة إلى الفعل، لتبديل الإمكان الثابت في محتواه الداخلي إلى حقيقة.

وقد حاولت المادية على طول الخط تفسير الحركة بوجود سبب داخلي في المادة، منها الضرورة العمياء وتخبطاتها والتناقضات الداخلية وغيرها، كل ذلك حتى يتخلصوا من السبب الخارجي الذي يفضي إلى الإلهية حتما.

وبهذا نعرف أنّ قانون الحركة العامّة في الطبيعة يبرهن بنفسه على ضرورة وجود مبدأ خارج حدودها المادّية؛ ذلك أنّ الحركة بموجب هذا القانون هي: كيفية وجود الطبيعة. فوجود الطبيعة عبارة اُخرى عن حركتها وتدرّجها، وخروجها المستمرّ من الإمكان إلى الفعلية. وقد انهارت لدينا نظرية الاستغناء الذاتي للحركة بتناقضاتها الداخلية التي تنبثق الحركة عن الصراع بينها في زعم الماديين؛ إذ لا تناقض ولا صراع ولا ضرورة عمياء، فيجب أن يوجد التعليل، وأن يكون التعليل بشيء خارج حدود الطبيعة؛ لأنّ أيّ شيء موجود في الطبيعة فوجوده حركة وتدرّج؛ إذ لا ثبات في عالم الطبيعة بموجب قانون الحركة العامّة، فلا يمكن أن نقف بالتعليل عند شيء طبيعي.

قانون الحركة العام يثبت خلو المادة من أي رصيد داخلي سوى الإمكان والقوة، وبهذا القانون ينهار مبدأ الانتخاب الطبيعي القائم على الطفرات، حيث يعلل الحركة بتناقضات طبيعية تحدث في المادة ذاتيا، وهذا القانون هو ما يعبر عنه العرفاء بالهداية التكوينية وهو ما عبرت عنه الآية الكريمة: كُلاًّ نُّمِدُّ هَـؤُلاء وَهَـؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً [الإسراء : 20] وكذلك الآية الكريمة: وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ [البلد : 10] والآية الكريمة: إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان : 3] فهذه الهداية ليست مختطة بعالم التشريع، بل بعالم التكوين فهي تشمل جميع الموجودات.

(2) النقطة الثانية: أنّ الحركة في الرأي الماركسي لا تقف عند حدود الواقع الموضوعي للطبيعة، بل تعمّ الحقائق والأفكار البشرية أيضاً. فكما يتطوّر الواقع الخارجي للمادّة وينمو، كذلك تخضع الحقيقة والإدراكات الذهنية لنفس قوانين التطوّر والنموّ التي تجري على دنيا الطبيعة، وعلى هذا الأساس لا توجد في المفهوم المادي للفكرة حقائق مطلقة.

قال المفكر الماركسي لينين:

"فالديالكتيك هو إذن -في نظر ماركس- علم القوانين العامّة للحركة، سواءٌ في العالم الخارجي أم الفكر البشري".

وعلى العكس من ذلك قانون الحركة العامّة في رأي الفلسفة الإلهية؛ فإنّه قانون طبيعي يسود عالم المادّة، ولا يشمل دنيا الفكر والمعرفة أو بمعنى آخر فإنه يشمل عالم المادة ولا يشمل عالم المجردات. فالحقيقة أو المعرفة لا يوجد فيها ولا يمكن أن يوجد فيها تطوّر بمعناه الفلسفي الدقيق، لأن النتيجة الطبيعية لذلك هو أن لا شيء في عالم الفكر سيكون مطلق الصحة، وهذا ينافي الحقائق الرياضية الثابتة وغيرها من قوانين الفيزياء.
  • محاولات الماديّة للاستدلال على ديالكتيك الفكر:
سوف نقوم باستعراض المحاولات الرئيسية التي اتّخذتها المادية للاستدلال على ديالكتيك الفكر وحركته. وسوف نعرض لفكرة مادية التفكير والإشكالات التي تواجه الفكر المادي في هذه الناحية في الموضوع التالي بإذنه تعالى.


مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق