المفاهيم الثلاثة للعالم، وتصحيح الفهم الخاطيء لقانون السببية، تشخيص موضع الخلاف..

بسم الله الرحمن الرحيم

  • مفاهيم ثلاثة للعالم:
إنّ لمسألة تكوين مفهوم فلسفي عام عن العالم، مركزاً رئيسياً في العقل البشري، منذ حاولت الإنسانية تحديد علاقاتها بالعالم الموضوعي وارتباطها به.

ولن نحاول أن نؤرّخ للمسألة في سيرها الفلسفي والديني والعلمي، وتطوّرها على مرّ الزمن، وإنّما نريد أن نعرض المفاهيم الأساسية في الحقل الفلسفي الحديث؛ لنحدّد موقفنا منها، وما هو المفهوم الذي يجب أن تتكون نظرتنا العامّة على ضوئه ويرتكز مبدأنا في الحياة على أساسه.

  • النقطة الجوهرية في البحث:
ومردّ مسألتنا هذه إلى مسألتين: إحداهما، مسألة المثالية والواقعية. والاُخرى، مسألة المادّية والإلهية.

(1) - المسألة الاُولى يُعرَض فيها السؤال بالصورة التالية: أنّ هذه الكائنات التي يتكون منها العالم، هل هي حقائق موجودة بصورة مستقلّة عن الشعور والإدراك؟ أو أنها ليست إلاّ انعكاسات تفكيرنا وتصوّرنا؟ بمعنى: أنّ الفكر أو الإدراك هو الحقيقة، وكلّ شيء يرجع في نهاية المطاف إلى التصوّرات الذهنية، فإذا أسقطنا الشعور أو الـ (أنا) فإنّ الواقع كلّه يزول. فهذان تقديران للمسألة.

والإجابة بالتقدير الأوّل تلخّص الفلسفة الواقعية أو المفهوم الواقعي للعالم ، والإجابة بالتقدير الثاني هي التي تقدّم المفهوم المثالي للعالم.

(2) - المسألة الثانية يوضع فيها السؤال على ضوء الفلسفة الواقعية هكذا: إذا كنّا نؤمن بواقع موضوعي للعالم، فهل نقف في الواقعية على حدود المادّة المحسوسة، أي هل أن الوجود يتوقف عند حدود المادة، فتكون هي السبب العامّ لجميع ظواهر الوجود والكون بما فيها من ظواهر الشعور والإدراك؟ أو نتخطّاها إلى سبب أعمق، إلى سبب أبدي ولانهائي بصفته المبدأ الأساسي لما ندركه من العالم بكلا مجاليه: الروحي والمادّي معاً؟

وبذلك يوجد في الحقل الفلسفي للواقعية مفهومان: يعتبر (1) أحدهما، أنّ المادّة هي القاعدة الأساسية للوجود، وهو: المفهوم الواقعي المادّي الذي تمثله جميع التيارات الفلسفية المادية، بما فيها المادية المعاصرة التي يتبناها الملحدون واللادينيون والماركسيون وغيرهم. ويتخطّى (2) الآخر المادّة إلى سبب فوق الروح والطبيعة معاً، وهو: المفهوم الواقعي الإلهي.

  • ماذا بين أيديدنا؟
فبين أيدينا إذن مفاهيم ثلاثة للعالم: المفهوم المثالي، والمفهوم الواقعي المادّي، والمفهوم الواقعي الإلهي. وقد يعبّر عن المثالية بالروحية نظراً إلى اعتبار الروح، أو الأنا، أو الشعور، الأساس الأوّل للوجود.

  • تصحيح أخطاء يقع فيها عادة الفكر المادي المعاصر:
سوف يتضح لنا بعد تصحيح الأخطاء التي يقع فيها الفكر المادي المعاصر، أن الوجهة الرئيسية في البحث من حيث دراسة الواقعية بكلا اتجاهيها، المادي والإلهي، تدور حول السببية، وكيف أن إيمان الواقعية الإلهية بقانون السببية إنما هو إيمان عميق يجمع بين فهم السببية كمفهوم، وبين حدود الأسباب وأنواعها، مادية كانت أم مجردة كما سيتضح بشكل نهائي في النقطة الثانية.

عدة أخطاء وقع فيها بعض الكتّاب المعاصرين لابد من تصحيحها:

الأوّل- محاولة اعتبار الصراع بين الإلهية والمادّية مظهراً من مظاهر التعارض بين المثالية والواقعية، فلم يفصلوا بين المسألتين اللتين قدّمناهما، وزعموا أنّ المفهوم الفلسفي للعالم أحد أمرين: إمّا المفهوم المثالي، وإمّا المفهوم المادّي.

فتفسير العالم لا يمكن أن يقبل سوى وجهين اثنين، فإذا فسّرت العالم تفسيراً تصوّرياً خالصاً، وآمنت بأنّ التصوّر أو الأنا هو المصدر الأساسي، فأنت مثالي، وإذا أردت أن ترفض المثالية والذاتية، وتؤمن بواقع موضوعي مستقلّ عن الـ (أنا)، فليس عليك إلاّ أن تأخذ بالمفهوم المادّي للعالم، وتعتقد أنّ المادّة هي المبدأ الأوّل، وأنّ الفكر والشعور ليس إلاّ انعكاساً لها ودرجة خاصّة من تطوّرها.

وهذا لا يتّفق مع الواقع مطلقاً؛ فإنّ الواقعية ليست منحصرة بالمفهوم المادّي، كما أنّ المثالية أو الذاتية ليست هي الشيء الوحيد الذي يعارض المفهوم المادّي، ويقف أمامه على الصعيد الفلسفي، بل يوجد مفهوم آخر للواقعية، هو: المفهوم الواقعي الإلهي الذي يعتقد بواقع خارجي للعالم والطبيعة، ويرجع الروح والمادّة معاً إلى سبب أعمق فوقهما جميعاً.

الثاني - ما اتّهم به بعض الكتّاب المفهوم الإلهي ولعله أهم نقطة خلافية بين المفهومين: من أنه يجمّد مبدأ العلّية في دنيا الطبيعة، ويلغي قوانينها التي يكتشفها العلم وتزداد وضوحاً يوماً بعد يوم، فهو في زعمهم يربط كلّ ظاهرة وكلّ وجود بالمبدأ الإلهي، مع أن علل الظواهر الطبيعية لا يلغي بالضرورة مفهوم الإله ولا يتعارض معه.

وقد لعب هذا الاتّهام دوراً فعّالا في الفلسفة المادّية، حيث اعتبرت فكرة الله هي فكرة وضع السبب المعقول لما يشاهده الإنسان من ظواهر الطبيعة وحوادثها، ومحاولة لتبرير وجودها، فتزول الحاجة إليها تماماً حين نستطيع أن نستكشف بالعلم والتجارب العلمية حقيقة الأسباب والقوانين الكونية التي تتحكّم في العالم، وتتولّد باعتبارها الظواهر والحوادث، فهم يعتقدون بأننا كلما اكتشفنا قانونا طبيعيا جديدا، قل احتمال وجود الإله، وزاد رصيد المادية في المقابل، وبالتالي فإنهم جعلوا الفرضيات العلمية في قبال فرضية الإله، وهذا ما نلاحظه في فهم الكثير من الفيزيائيين مثل هاوكنج والبايولوجيين من أمثال داوكنز. وهذه النقطة هي بالضبط بيت القصيد، حيث إن هذا الفهم المغلوط لقانون العلية وهذه التهمة الباطلة هي التي جعلتهم يلحدون ويجعلون العلم داعما للإلحاد! وقد ساعد على تركيز هذا الاتّهام ما كانت تلعبه الكنيسة في بداية النهضة العلمية في أوروبا، من أدوار خبيثة في محاربة التطوّر العلمي، ومعارضة ما يكشفه العلم من أسرار الطبيعة ونواميسها.

والحقيقة: أنّ المفهوم الإلهي للعالم لا يعني الاستغناء عن الأسباب الطبيعية، أو التمرّد على شيء من حقائق العلم الصحيح مطلقا، وإنّما هو المفهوم الذي يعتبر الله سبباً أعمق، ويحتّم على تسلسل العلل والأسباب أن يتصاعد إلى قوّة فوق الطبيعة والمادّة. وبهذا يزول التعارض بينه وبين كلّ حقيقة علمية تماماً؛ لأنّه يطلق للعلم أوسع مجال لاستكشاف أسرار الطبيعة ونظامها التي يعين لها موضعها في سلسلة الأسباب، ويحتفظ لنفسه بالتفسير الإلهي في نهاية المطاف، وهو وضع السبب الأعمق في مبدأ أعلى من الطبيعة والمادّة.

فليست المسألة الإلهية -كما يشاء أن يصوّرها خصومها- مسألة أصابع تمتدّ من وراء الغيب، فتقطر الماء في الفضاء تقطيراً، أو تحجب الشمس عنّا، أو تحول بيننا وبين القمر، فيوجد بذلك المطر والكسوف والخسوف، فإذا كشف العلم عن أسباب المطر وعوامل التبخير فيه، وإذا كشف عن سبب الكسوف، وعرفنا أنّ الأجرام السماوية ليست متساوية الأبعاد عن الأرض، وأنّ القمر أقرب إليها من الشمس، فيتّفق أن يمرّ القمر بين الأرض والشمس فيحجب نورها عنّا، وإذا كشف العلم عن سبب الخسوف وهو: وقوع القمر في ظلّ الأرض، الذي يمتدّ وراءها إلى مسافة (900) ألف ميل تقريباً، إذا كملت هذه المعلومات لدى الإنسان، يخيّل لاُولئك المادّيين أنّ المسألة الإلهية لم يبقَ لها موضوع! وأنّ الأصابع الغيبية التي تحجب الشمس أو القمر عنّا، عوَّض عنها العلم بالتعليلات الطبيعية، وليس هذا إلاّ لسوء فهم للمسألة الإلهية، وعدم تمييز لموضع السبب الإلهي من سلسلة الأسباب! أو لعلي أقول أن هذا فهم ساذج للمسألة الإلهية.

الثالث - أنّ الطابع الروحي غلب على المثالية والإلهية معاً، حتّى أخذ يبدو أنّ الروحية في المفهوم الإلهي هي بمعناها في المفهوم المثالي، ونشأت عن ذلك عدّة اشتباهات؛ ذلك أنّ الروحية قد تعتبر وصفاً لكلّ من المفهومين.

ولكنّنا لا نجيز مطلقاً أن يهمل التمييز بين الروحيتين، بل يجب أن نعرف أنّ الروحية في العرف المثالي يقصد بها: المجال المقابل للمجال المادّي المحسوس، أي: مجال الشعور والإدراك والأنا.

(1) - المفهوم المثالي روحي على أساس أنه يفسّر كلّ كائن وكلّ موجود في نطاق هذا المجال، ويرجع كلّ حقيقة وكلّ واقع إليه. فالمجال المادّي مردّه في الزعم المثالي إلى مجال روحي.

(2) - الروحية في المفهوم الإلهي أو العقيدة الإلهية هي طريقة للنظر إلى الواقع بصورة عامّة، لا مجالا خاصّاً مقابلا للمجال المادّي، أي أنها تجعل لكل واحدة من المراتب دوره الخاص، المادي له دوره الخاص والمجرد له دوره الخاص.

فالإلهية التي تؤمن بالسبب المجرّد الأعمق، تعتقد بصلة كلّ ما هو موجود في المجال العامّ -سواءٌ أكان روحياً أم مادّياً- بذلك السبب الأعمق، وترى أنّ هذه الصلة هي التي يجب أن يحدّد على ضوئها الموقف العملي والاجتماعي للإنسان تجاه الأشياء جميعاً. فالروحية في العرف الإلهي اُسلوب في فهم الواقع، ينطبق على المجال المادّي والمجال الروحي -بمعناه المثالي- على السواء.

  • الخلاصة
ويتلخّص مما تقدم: أنّ المفاهيم الفلسفية عن العالم ثلاثة. سنتطرق عند دراستنا لنظرية المعرفة للمفهوم المثالي، وسنستعرض أخطاءه، ولن نضيع الوقت هنا لعرض أوهامه، بل سنتناول هنا دراسة المفهومين الواقعيين الآخرين: المادّي والإلهي.

وفي المفهوم المادّي اتّجاهان: (1) الاتّجاه الآلي أو الميكانيكي، (2) والاتّجاه الديالكتيكي والتناقض، أو المادّية الديناميكية التي تتبناها المدارس المادية المعاصرة، والتي يعتمد الملحدون واللادينيون المعاصرون عليها أشد الاعتماد في فهم الواقع وإعطاء تفسير له وإضفاء مبرر لإيمانهم بالمادية.

  • إيضاح عدّة نقاط عن المفهومين:
وقبل أن نعرض للمفهوم المادّي بكلا اتّجاهيه يجب أن نستوضح عدّة نقاط حول المفهوم الإلهي والمادّي، وذلك في الأسئلة الآتية:

  • السؤال الأوّل: ما هي الميزة الأساسية لكلّ من الاتّجاه المادّي (المدرسة المادّية للفلسفة)، والاتّجاه الإلهي (المدرسة الإلهية) على الآخر وما هو الفارق الرئيسي الذي جعل منهما اتّجاهين متعارضين، ومدرستين متقابلتين؟
الجواب: وهو: أنّ المميز الأساسي للمدرسة المادّية في الفلسفة هو: النفي أو الناحية السلبية، لأي شيء يظهر أنه فوق طاقة العلوم التجريبية.

فلا يوجد في الحقل العلمي إذن (أي: في النواحي الإيجابية للعلم التي تبرهن عليها التجربة) أي شيء إلهي ومادّي. فالفيلسوف سواءٌ أكان إلهياً أم مادّياً، يؤمن بالجانب الإيجابي من العلم، فهما من الناحيه العلمية يسلّمان مثلا بأنّ (الراديوم) يولِّد طاقة إشعاعية نتيجة لعدم اتزان الذرة وانقسامها الداخلي، وبأنّ الماء يتكون من اُوكسجين وهيدروجين، وبأنّ عنصر الهيدروجين هو أخفّ العناصر في وزنه الذرّي. ويؤمنان معاً بسائر الحقائق الإيجابية التي تظهر على الصعيد العلمي.

فليس في المسألة العلمية فيلسوف إلهي وآخر مادّي، وإنّما توجد هاتان الفلسفتان وتتعارض المادّية مع الإلهية، حينما تعرض مسألة الوجود فيما وراء الطبيعة.

فالإلهي يعتقد بلون من الوجود مجرّد عن المادّة، أي: موجود خارج الحقل التجريبي، وظواهره وقواه. والمادّي ينكر ذلك ويقصر الوجود على ذلك الحقل الخاصّ، ويعتبر الأسباب الطبيعية التي كشفت عنها التجربة وامتدّت إليها يد العلم، هي الأسباب الأوّلية للوجود، وأنّ الطبيعة هي المظهر الوحيد له.

فبينما يقرّر الاتّجاه الإلهي: (1) أنّ الروح الإنسانية أو الـ (أنا)، ذات مجرّدة عن المادّة، وأنّ الإدراك والفكر ظواهر مستقلّة عن الطبيعة والمادّة، (2) ينكر المادّي ذلك زاعماً أنه حلّل جسم الإنسان، وراقب عمليات الجهاز العصبي متوجا بالدماغ، فلم يجد شيئاً خارج الحدود الطبيعية والمادّية، كما يدّعي الإلهيون.

وكذلك يؤمن (1) الاتّجاه الإلهي بأنّ التطوّرات والحركات التي يكشف عنها العلم -سواءٌ كانت حركات ميكانيكية تخضع لسبب مادّي خارجي، أم حركات طبيعية غير ناشئة من مؤثّرات مادّية معيّنة بالتجربة- ترجع في النهاية إلى سبب خارجي وراء سور الطبيعة والمادّة. (2) يعارض في ذلك المادّي زاعماً أنّ الحركة الميكانيكية والحركة الطبيعية لا تتّصلان بسبب مجرّد، وأنّ الحركة الطبيعية ديناميكية، فهي تكتفي بنفسها؛ لأنّ الحقل التجريبي لم يظهر فيه ما اعتقده الإلهيون سببا مجرّدا.

خلاصة جواب السؤال الأول
وهكذا يتّضح بكلّ جلاء أنّ التعارض بين الإلهية والمادّية ليس في الحقائق العلمية؛ فإنّ (1) الإلهي كالمادّي يعترف بجميع الحقائق العلمية التي توضّحها التجارب الصحيحة عن جسم الإنسان وفسلجة أعضائه، وعن التطوّر والحركة في الطبيعة، (2) وإنّما يزيد بوضع حقائق اُخرى والاعتراف بها. فهو يبرهن على وجود جانب روحي مجرّد للإنسان غير ما ظهر منه في الميدان التجريبي، وعلى سبب مجرّد أعلى للحركات الطبيعية والميكانيكية فوق المجال المحسوس. فهما يتفقان في النقطة الأولى، ويختلفان في النقطة الثانية.

فالإلهي يؤمن بضرورة وجود قوة فاعلة في التفكير، وأن الدماغ هو العنصر المنفعل في عملية التفكير، ولكن المادي يؤمن بأن الدماغ هو العنصر الوحيد في عملية التفكير.

والإلهي يؤمن بضرورة وجود قوة موجهة للتطور الداروني على فرض صحته، والمادي ينفي ذلك متذرعا بالانتخاب الطبيعي والطفرات كمفسر وحيد لعملية التطور.

وما دمنا قد عرفنا أنّ الميدان العلمي ليس فيه إلهي ومادّي، نعرف أنّ الكيان الفلسفي للمادّية -باعتبارها مدرسة مقابلة للإلهية- إنّما يرتكز على نفي الحقائق المجرّدة، وإنكار الوجود خارج حدود الطبيعة والمادّة، لا على حقائق علمية إيجابية. وهكذا يتضح أن الجانب المادي هو جانب سلبي!!

  • السؤال الثاني: إذا كان التعارض بين الإلهية والمادّية هو تعارض الإثبات والنفي، فأيّ المدرستين يقع على مسؤوليتها الاستدلال والبرهنة على اتّجاهها الخاصّ الإيجابي أو السلب؟
الجواب: قد يحلو لبعض المادّيين في هذا المجال أن يتخلّص من مسؤولية الاستدلال، ويعتبر الإلهي هو المسؤول عن الدليل على مدّعاه؛ لأنّ الإلهي هو صاحب الموقف الإيجابي، أي: مدّعي الثبوت، فيجب عليه أن يبرّر موقفه ويبرهن على وجود ما يدّعيه.

ولكنّ الواقع: أنّ كلّا منهما مكلّف بتقديم الأدلّة والبراهين لاتّجاهه الخاصّ، فكما أنّ الإلهي يجب عليه أن يبرهن على الإثبات، كذلك المادّي هو مسؤول أيضاً عن الدليل على النفي؛ لأنّه لم يجعل القضية الماوراء المادة موضع شكّ، وإنّما نفاها نفياً قاطعاً، والنفي القاطع كالإثبات القاطع يفتقر إلى الدليل.

فالمادّي حين زعم أنّ السبب المجرّد لا وجود له، ادّعى في هذا الزعم ضمناً أنه أحاط بالوجود كلّه، ولم يجد فيه موضعاً للسبب المجرّد، فلا بدّ أن يقدّم دليلا على هذه الإحاطة العامّة، وتبريراً للنفي المطلق.

العلة في حاجة كلا الطرفين للدليل هو: أن النفي القاطع كالإثبات القاطع يفتقر إلى دليل، وكل حكم قاطع يفتقر لدليل.

  • نوع الدليل الذي يجب على كلا الطرفين تقديمه:
ما هي طبيعة الدليل الذي يمكن للإلهي أو للمادّي أن يقدّمه في هذا المجال؟ ونجيب أنّ دليل الإثبات أو النفي يجب أن يكون هو العقل، لا التجربة المباشرة، خلافاً للمادّية التي درجت على اعتبار التجربة دليلا على مفهومها الخاصّ، زاعمة أنّ المفهوم الإلهي أو القضايا المرتبطة بالمجردات بصورة عامّة لا يمكن إثباتها بالتجربة، وأنّ التجربة هي التي تردّ على تلك المزاعم؛ لأنّها تحلّل الإنسان والطبيعة، وتدلّل على عدم وجود أشياء مجرّدة فيهما.

إنّ التجارب والحقائق العلمية إذا صحّ للمادّية ما تزعمه: من أنها لا تقوم دليلا على الاتّجاه الإلهي، فهي أيضاً لا تصلح دليلا للنفي المطلق الذي يحدّد الاتّجاه المادّي، فقد عرفنا أنّ الحقائق العلمية على اختلاف ألوانها ليست موضعاً للنقاش بين الإلهية والمادّية، وإنّما النقاش في التفسير الفلسفي لتلك الحقائق، أي: في وجود سبب أعلى وراء حدود التجربة.

فكما أن التجربة لا تصلح أن تكون دليلا للإثبات، فإنها لا تصلح دليلا للنفي القاطع الذي تتبجح به المادية المعاصرة!

ومن الواضح: أنّ التجربة لا يمكن أن تعتبر برهاناً على نفي حقيقة خارج حدودها. فالعالِم الطبيعي إذا لم يجد السبب المجرّد في مختبره، لم يكن هذا دليلا إلاّ على عدم وجوده في ميدان التجربة، وأمّا نفي وجوده في مجال فوق مجالات التجربة، فلا يمكن أن يستنتج من التجربة ذاتها.

ونؤكّد بهذا البيان على أمرين:
(1)
أحدهما أنّ المادّية بحاجة إلى دليل على الجانب السلبي الذي يميّزها عن الإلهية، كحاجة الماورائية (أي الإلهية أو أي مذهب يؤمن بموجودات وراء عالم المادة) إلى برهان على الإيجاب والإثبات.

(2) والآخر أنّ المادّية اتّجاهٌ فلسفي كالإلهية، ولا توجد لدينا مادّية علمية، أي: تجريبية؛ لأنّ العلم -كما عرفنا- لا يُثبت المفهوم المادّي للعالم لتكون المادّية علمية، بل كلّ ما يكشف عنه العلم من حقائق وأسرار في عالم الطبيعة، يترك مجالا لافتراض سبب أعلى فوق المادّة. فالتجربة العلمية مثلا لا يمكن أن تدلّ على أنّ المادّة ليست مخلوقة لسبب مجرّد، أو على أنّ أشكال الحركة وألوان التطوّر التي استكشفها العلم في شتّى جوانب الطبيعة، هي حركات وتطوّرات مكتفية ذاتياً، وليست نابعة عن سبب فوق حدود التجربة ومجالاتها، كما التطور الداروني. وهكذا كلّ الحقائق العلمية.

فالدليل على المادّية إذن لا يمكن أن يرتكز على الحقائق العلمية، أو التجارب بصورة مباشرة، وإنّما يصاغ في تفسير فلسفي لتلك الحقائق والتجارب، كالدليل على الإلهية تماماً.

  • مثال
ولنأخذ التطوّر الداروني كمثال، فالعلم يُثبت وجود التطوّر الطبيعي في عدّة من المجالات، ويمكن أن يوضَع لهذا التطوّر تفسيران فلسفيان كما فعلنا في مقالين سابقين (للمزيد إقرا المقالين 6 و 7 وبالخصوص المقال 7 في هذه الصفحة):

(1) أحدهما أنه منبثق عن صميم الشيء، وناتج عن صراع يفترض فيه بين المتناقضات، وهذا هو تفسير المادّية الديالكتيكية. أو بكلمة أخرى، أن هذا التطور ما هو إلا نتاج الانتخاب الطبيعي، فهو عشوائي ولا يفترض فيه قانونا أو سيرا نظاميا.

(2) والآخر أنه ناتج عن سبب أعلى مجرّد، فالطبيعة المتطوّرة لا تحوي في ذاتها المتناقضات، وإنّما تتضمن على إمكانية التطوّر، وذلك السبب المجرد هو الذي يحقّق للإمكان الوجود الفعلي، وهذا هو تفسير الفلسفة الإلهية.

فنحن نلاحظ بوضوح: أنّ المفهوم العلمي إنّما هو وجود التطوّر الطبيعي، وأمّا هذان المفهومان عن الحركة فهما مفهومان فلسفيان، ولا يمكن أن يتأكّد من صحّة أحدهما، وخطأ الآخر بالتجربة المباشرة. فالمنطق الذي يحكم طريقة تفسير التطور هو نفس المنطق، وقد استطعنا بحمد الله تعالى تفنيد مبدأ الانتخاب الطبيعي العشوائي بنجاح في المقالين آنفي الذكر، فلم يبق إلا التفسير الإلهي للتطور، وتجردت المادية المعاصرة من أفضل مبرراتها للإلحاد! وهكذا نستطيع أن نقول بكل شموخ أن المادية في أحد أهم مرتكزاتها قد هدمت.

  • السؤال الثالث: إذا لم تكن التجربة العلمية بذاتها كافية للبرهنة على المفهوم الإلهي والمادّي على السواء، فهل يمكن للفكر البشري أن يستدلّ على أحد المفهومين ما داما معاً خارجين عن النطاق التجريبي؟ أم إنّه يصبح مضطراً إلى الاستسلام للشكّ، وتجميد مسألة الإلهية والمادّية، والانصراف إلى المجال العلمي المثمر؟

والجواب: أنّ القدرة الفكرية للبشر كافية لدرس هذه المسألة، والانطلاق فيها من التجربة ذاتها، ولكن لا على أن تكون التجربة هي الدليل المباشر على المفهوم الذي نكوّنه عن العالم، بل تكون التجربة نقطة الابتداء التي تعطي معطيات البحث الإستقرائي، ويوضع المفهوم الفلسفي الصحيح للعالم -وهو المفهوم الإلهي- على ضوء تفسير التجربة والظواهر التجريبية، بالمعلومات العقلية المستقلّة أو من خلال المنهج الاستقرائي كما أوضحنا في مقالات متفرقة.

يمكن للقارئ الكريم الرجوع إلى صفحة المذهب الذاتي في نظرية المعرفة لكي يطلع أكثر على منهجنا في تحقيق نظرية المعرفة التي تعد المرتكز الأساس لتكوين المعرفة البشرية، وهناك قد برهنا على أن الإنسان يستطيع أن ينتقل من الشك إلى اليقين عن طريق خطوات يفرضها التصميم للعقل البشري، وهناك بينا أن المعارف العقلية الضرورية والبديهية هي الأمور أساسية لابد من إضافتها لا فقط للتجربة لكي نستخلص نتائجها، بل لكي حقيقة علمية أيضا. فما من نظرية علمية ترتكز على أساس تجريبي بحت، وإنّما تقوم على أساس التجربة، وعلى ضوء المعلومات العقلية المستقلّة وبديهيات نظرية الاحتمال. فلا تختلف قضيّتنا الفلسفية التي تتناول البحث عمّـا وراء عالم الطبيعة، عن كلّ قضية علمية تبحث عن أحد قوانين الطبيعة ، أو تكشف شيئاً من قواها وأسرارها. فالتجربة في جميع ذلك نقطة الانطلاق، وهي مع ذلك بحاجة إلى تفسير عقلي لتستنتج منها الحقيقة الفلسفية أو العلمية لنبني رؤيتنا الكونية.

  • مجموع النتائج
ونخرج من هذه النقاط بالنتائج التالية:

أوّلا: أنّ المدرسة المادّية تفترق عن المدرسة الإلهية في ناحية سلبية، أي: الإنكار لما هو خارج الحقل التجريبي.

ثانياً: أنّ المادّية مسؤولة عن الاستدلال على النفي، كما يجب على الإلهية الاستدلال على الإثبات.

ثالثاً: أنّ التجربة لا يمكن أن تُعتَبر برهاناً على النفي؛ لأنّ عدم وجدان السبب الأعلى في ميدان التجربة، لا يبرهن على عدم وجوده في مجال أعلى لا تمتدّ إليه يد التجربة المباشرة، بكلمة أخرى: عدم الوجدان لا يدل على عدم الوجود!

رابعاً: أنّ الاُسلوب الذي تتّخذه المدرسة الإلهية للاستدلال على مفهومها الإلهي، هو نفس الاُسلوب الذي نثبت به علمياً جميع الحقائق والقوانين العلمية. وهكذا فكلا الطرفين يستخدم نفس النتائج للبرهنة على رؤيته الكونية، المادي كالإلهي، كلاهما يستخدم النتائج العلمية والأسس العقلية للبرهنة على رؤيته الفلسفية.

  • الاتّجاه الديالكتيكي للمفهوم المادّي:
قلنا: إنّ للمادّية اتّجاهين: أحدهما اتّجاه الآلية الميكانيكية، والآخر اتّجاه المادّية الديالكتيكية.

لقد عجز المذهب المادي الميكانيكي عن إعطاء صورة أو تفسير للتطور والسير الحركي للمادة، بعد اتضح أن الحركة ليست كمية فقط، بل هي نوعية أيضا، وبعد أن عجزت المادية الميكانيكية من تفسير كل ظواهر الكون، بما فيها الحركة الفكرية وتطور الفكر، فلذلك سوف لن نستعرض الاتجاه الأول، لأنه اتجاه لم يبق منه إلا الحطام.

وأمّا الاتّجاه المادّي الآخر الذي يفسّر العالم تفسيراً مادّياً بقوانين الديالكتيك، فهو الاتّجاه الذي اتّخذته المدرسة الماركسية، فوضعت مفهومها المادّي عن العالم على أساس هذا الاتّجاه.

قال ستالين: "تسير مادّية ماركس الفلسفيّة من المبدأ القائل: إنّ العالم بطبيعته مادّي، وإنّ حوادث العالم المتعدّدة هي مظاهر مختلفة للمادّة المتحرّكة، وإنّ العلاقات المتبادلة بين الحوادث وتكييف بعضها بعضاً بصورة متبادلة كما تقرّرها الطريقة الديالكتيكية، هي قوانين ضرورية لتطوّر المادّة المتحرّكة، وإنّ العالم يتطوّر تبعاً لقوانين حركة المادّة، وهو ليس بحاجة لأيّ عقل كلّي".

ولعل الفكر المادي المعاصر الذي يعطي بأفضل صورة نظرة فلسفية للكون على أساس تفسير مادي للعلوم الحديثة، يمكن استخراج أهم أصوله ومبادئه من بين ثنايا حطام الماركسية كفكر فلسفي.

ويُعتبر المفهوم المادّي (المادّة = الوجود) هو النقطة المركزية في الفلسفة الماركسية وبالتبع المادية المعاصرة المغذية للإلحاد واللادينية؛ لأنّها التي تحدّد نظرة المادية إلى الحياة، وتنشئ لها فهماً خاصّاً للواقع وقيمه، ومن دونها لا يمكن أن تقام الاُسس المادّية الخالصة للمجتمع والحياة.

وقد فرضت هذه النقطة على المذاهب المادية تسلسلا فكرياً خاصّاً، واقتضت منه أن يقيم شتّى جوانبه الفلسفية لصالحها. فلأجل أن تملك المادية الحقّ في تقرير النقطة المركزية تقريراً نهائياً، اختارت أن تكون يقينية، وأعلنت أنّ لدى الإنسان من الطاقات العلمية ما يتيح له الجزم بفلسفة معيّنة عن الحياة، واكتشاف أسرار الوجود والعالم، ورفضت مذهب الشكّ المطلق، لأنه يتناقض مع كم النظريات العلمية التي ثبتت بأدلة قاطعة، وحاولت بذلك أن تعطي صفة قطعية للمحور الرئيسي، أي: المفهوم المادّي. وعلى هذا الأساس رفض الملحدون كل وجود مجرد أو أي شيء خارج نطاق المادة.

ووضعت بعد ذلك المقياس العام للمعرفة والحقيقة في التجربة، واستبعدت المعارف العقلية الضرورية واستبقت على بديهيات نظرية الاحتمال لدعم نتائج التجربة، وأنكرت وجود منطق عقلي مستقلّ عن التجربة؛ كلّ ذلك حذراً من إمكان محو النقطة المركزية بالمنطق العقلي، وحدّاً للطاقة البشرية بالميدان التجريبي فقط.

وواجهت الماركسية والمادية المعاصرة في هذه المرحلة مشكلة جديدة، وهي: أنّ الميزان الفكري للإنسان إذا كان هو الحسّ والتجربة، فلا بدّ أن تكون المعلومات التي يكوّنها عن طريق الحسّ والتجربة صحيحة دائماً، ليمكن اعتبارها ميزاناً أوّلياً توزن به الأفكار والمعارف، فهل نتائج الحسّ العلمي كذلك حقّاً؟ وهل النظريات القائمة على التجربة مضمونة الصدق دائما وأبداً؟

وهكذا وقعت الماركسية والمادية المعاصرة بين خطرين: (1) فإن اعترفت بأنّ المعلومات القائمة على أساس التجربة ليست معصومة من الخطأ، فقد سقطت التجربة عن كونها ميزاناً أوّلياً للحقائق والمعارف لأنها بنفسها تحتاج إلى ميزان!. (2) وإن ادّعى الماديون أنّ النظرية المستمدّة من التجربة والتطبيق فوق الخطأ والاشتباه، اصطدموا بالواقع الذي لا يسع لأحد إنكاره، وهو: أنّ كثيراً من النظريات العلمية، بل القوانين التي توصّل إليها الإنسان عن طريق درس الظواهر المحسوسة، قد ظهر خطؤها وعدم مطابقتها للواقع، فسقطت عن عرشها العلمي بعد أن تربّعت عليه مئات السنين.

وإذا كانت المفاهيم العلمية التجريبية قد تخطئ، وكان المنطق العقلي ساقطاً من الحساب، فكيف يُعلَن عن فلسفة يقينية؟! أو تنشأ مدرسة ذات صفة جزمية في أفكارها؟! لتجزم بمادية الكون وتنشئ على إثرها رؤيتها المادية للعالم.

ويصر الماديون على وضع التجربة مقياساً أعلى، وتخلّصوا من هذا المأزق بوضع قانون الحركة والتطوّر في العلوم والأفكار؛ نظراً إلى أنّ الفكر جزء من الطبيعة المادية المتمثلة بالدماغ كعضو مفكر، وهو بهذا الاعتبار يحقّق قوانين الطبيعة كاملة، فيتطوّر وينمو كما تتطوّر الطبيعة. وليس التطوّر العلمي يعني سقوط المفهوم العلمي السابق، وإنّما يعبّر عن حركة تكاملية في الحقيقة والمعرفة. فالحقيقة والمعرفة هي الحقيقة والمعرفة، غير أنها تنمو وتتحرّك وتتصاعد بصورة مستمرّة.

وهكذا قضي بذلك على جميع البدهيات والحقائق؛ لأنّ كلّ فكر سائر في سراط التطوّر والتغيّر، فليست توجد حقيقة ثابتة في دنيا الفكر مطلقاً، ولا نأمن على ما ندركه الآن من البديهيات -نظير إدراكنا: أنّ الكلّ أكبر من الجزء، وأنّ 2 + 2 = 4- أن يكتسب شكلا آخر في حركته التطوّرية، فندرك الحقيقة عند ذاك على وجه آخر.

ولمّا كانت الحركة التي وضعتها الماركسية وبتبعها المادية المعاصرة كقانون للفكر وللطبيعة بصورة عامّة لا تنبثق إلاّ عن قوّة وسبب، ولم تكن في العالم حقيقة إلاّ المادّة في زعمها، فقد قالت: إنّ الحركة حصيلة تناقضات في المحتوى الداخلي للمادّة، نظير العناصر الأولية للمادة من شحنات موجبة وسالبة! وإنّ هذه المتناقضات تتصارع فتدفع بالمادّة وتطوّرها. ولهذا ألغت المادية فكريا مبدأ عدم التناقض، واتّخذت من الديالكتيك طريقة لفهم العالم، ووضعت مفهومها المادّي في إطاره.

وهكذا يتّضح: أنّ جميع الجوانب الفلسفية للمادّية الديالكتيكية، مرتبطة بالنقطة المركزية (المفهوم المادّي)، وقد صيغت لأجل تركيزها والحفاظ عليها. وليس إسقاط البديهيات وجعلها عرضةً للتغيّر، أو الإيمان بالتناقض واعتباره قانوناً عاماً للطبيعة، وما إليها من النتائج الغريبة التي انتهت إليها المادية، إلاّ تسلسلا حتمياً للانطلاق الذي بدأ من المفهوم المادّي، وتبريراً له في المجال الفلسفي.

مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق