مبدأ العلّيّة - معناه ومبناه

بسم الله الرحمن الرحيم

إنّ من أوّليات ما يدركه البشر في حياته الاعتيادية، (مبدأ العلّية) القائل: إنّ لكلّ شيء سبباً، أعم من كونه ماديا أو غير مادي. وهو من المبادئ العقلية الضرورية؛ لأنّ الإنسان يجد في صميم طبيعته الباعث الذي يبعثه إلى محاولة تعليل ما يجد من أشياء، وتبرير وجودها باستكشاف أسبابها. وهذا الباعث موجود بصورة فطرية في الطبيعة الإنسانية، بل قد يوجد عند عدّة أنواع من الحيوان أيضاً. فهو يلتفت إلى مصدر الحركة غريزياً؛ ليعرف سببها، ويفحص عن منشأ الصوت؛ ليدرك علّته. وهكذا يواجه الإنسان -دائماً- سؤال: لماذا...؟ مقابل كلّ وجود وظاهرة يحسّ بهما، حتّى إنّه إذا لم يجد سبباً معيّناً، اعتقد بوجود سبب مجهول انبثق عنه الحادث.

ومن هنا تنشأ الخرافة أحيانا، حيث أن الإنسان يحاول تقديم تفسيرات فلسفية لما يعجز عن إعطائه مبررا علميا أو ما يجهل تفسيره العلمي، كما تم تفسير جملة من الظواهر الكونية مثل الوتر والأكوان المتوازية وكيفية نشوء الخلية الأولى والإنفجار الكبير وأسبابه. حيث إن هذه المواضيع لم يعط العلم فيها رأيا علميا لأنها لا تخضع للتجربة وبالتالي فإن الإنسان يلجأ للغيبيات والتفسيرات الفلسفية، وهذا أمر فطري كما أشرنا لا يقوى الإنسان على منعه أو التخلص منه ما دام إنسانا!
  • القضايا المبتنية على مبدأ العلّيّة.
وعلى أساس مبدأ العلّية يتوقّف:

أوّلا: إثبات الواقع الموضوعي للإحساس.
ثانياً: كلّ النظريات، أو القوانين العلمية المستندة إلى التجربة.
ثالثاً: جواز الاستدلال وإنتاجه في أيّ ميدان من الميادين الفلسفية أو العلمية.

فلولا مبدأ العلّية وقوانينها، لما أمكن إثبات موضوعية الإحساس، ولا شيء من نظريات العلم وقوانينه، ولما صحّ الاستدلال بأيّ دليل كان في مختلف مجالات المعرفة البشرية (أشرنا إلى أنّ المفكر محمد باقر الصدر انتهى إلى إمكان تفسير الجزء الأكبر من المعارف البشريّة على أساس الدليل الاستقرائي في ضوء المذهب الذاتي للمعرفة، وقد جاء تفصيل ذلك في القسم الرابع من كتابه "الاُسس المنطقيّة للاستقراء"). وفيما يلي توضيح ذلك:
  • العلّية وموضوعية الإحساس:
إنّ الحسّ لا يعدو أن يكون لوناً من ألوان التصوّر. فهو وجود لصورة الشيء المحسوس في مدارك الحسّ، ولا يملك صفة الكشف التصديقي عن واقع خارجي، ولذلك قد يحسّ الإنسان بأشياء في حالات مرضية ولا يصدّق بوجودها. فالإحساس -إذن- ليس سبباً كافياً للتصديق أو الحكم، أو العلم بالواقع الموضوعي.

ولكن المسألة التي تواجهنا حينئذ، هي: أنّ الإحساس إذا لم يكن بذاته دليلا على وجود المحسوس خارج حدود الشعور والإدراك، فكيف نصدّق -إذن- بالواقع الموضوعي؟

والجواب جاهز، وهو: أنّ التصديق بوجود واقع موضوعي للعالم تصديق ضروري أوّلي، فهو لأجل ذلك لا يحتاج إلى دليل، ولكن هذا التصديق الضروري إنّما يعني وجود واقع خارجي للعالم على سبيل الإجمال. وأمّا الواقع الموضوعي لكلّ إحساس، فهو ليس معلوماً علماً ضرورياً. وإذن فنحتاج إلى دليل لإثبات موضوعية كلّ إحساس بصورة خاصّة، وهذا الدليل هو: مبدأ العلّية وقوانينها؛ ذلك أنّ حدوث صورة لشيء معيّن في ظروف وشروط معيّنة، يكشف عن وجود علّة خارجية له، تطبيقاً لذلك المبدأ. فلولا هذا المبدأ لما كشف الإحساس، أو وجود الشيء في الحسّ عن وجوده في مجال آخر.

ولأجل هذا السبب قد يحسّ الإنسان بأشياء، أو يُخيّل له أنه يبصرها في حالات مرضية خاصّة، ولا يستكشف من ذلك واقعاً موضوعاً لتلك الأشياء؛ حيث إنّ تطبيق مبدأ العلّية لا يدلّل على وجود هذا الواقع ما دام يمكن تعليل الإحساس بالحالة المرضية الخاصّة، وإنّما يثبت الواقع الموضوعي للحسّ فيما إذا لم يكن له تفسير على ضوء مبدأ العلّية، إلاّ بواقع موضوعي ينشأ الإحساس منه.

ويستنتج من ذلك القضايا الثلاث الآتية:

الاُولى: أنّ الإحساس وحده لا يكشف عن وجود واقع موضوعي؛ لأنّه تصوّر، وليس من وظائف التصوّر -بمختلف ألوانه- الكشف التصديقي.
الثانية: أنّ العلم بوجود واقع للعالم على سبيل الإجمال، حكم ضروري أوّلي لا يحتاج إلى دليل، أي: إلى علم سابق. وهو النقطة الفاصلة بين المثالية والواقعية.
الثالثة: أنّ العلم بوجود واقع موضوعي لهذا الحسّ أو ذاك، إنّما يكتسب على ضوء مبدأ العلّية.
  • العلّية والنظريات العلمية:
إنّ النظريات العلمية في مختلف ميادين التجربة والمشاهدة، تتوقّف بصورة عامّة على مبدأ العلّية وقوانينها توقّفاً أساسياً. وإذا سقطت العلّية ونظامها الخاصّ من حساب الكون، يصبح من المتعذّر تماماً تكوين نظرية علمية في أيّ حقل من الحقول. وليتّضح هذا نجد من الضروري أن نشير إلى عدّة قوانين من المجموعة الفلسفية للعلّية التي يرتكز عليها العلم، وهي كما يلي:

(1) مبدأ العلّية القائل: إنّ لكلّ حادثة سبباً.
(2) قانون الحتمية القائل: إنّ كلّ سبب يولّد النتيجة الطبيعية له بصورة ضرورية، ولا يمكن للنتائج أن تنفصل عن أسبابها.
(3) قانون التناسب بين الأسباب والنتائج، القائل: إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها من مجاميع الطبيعة، يلزم أن تتّفق -أيضاً- في الأسباب والنتائج.

فعلى ضوء مبدأ العلّية نعرف -مثلا- أنّ الإشعاع الذي ينبعث من ذرّة الراديوم له سبب، وهو: الانقسام الداخلي في محتوى الذرّة. وعلى ضوء قانون الحتمية، نستكشف أنّ هذا الانقسام عند استكمال الشروط اللازمة، يولّد الإشعاع الخاصّ بصورة حتمية، وليس من الممكن الفصل بينهما. وعلى أساس قانون التناسب نستطيع أن نعمّم ظاهرة الإشعاع، وتفسيرها الخاصّ لجميع ذرّات الراديوم، فنقول: ما دامت جميع ذرّات هذا العنصر متّفقة في الحقيقة، فيجب أن تتّفق في أسبابها ونتائجها، فإذا كشفت التجربة العلمية عن إشعاع في بعض ذرّات الراديوم، أمكن القول باعتباره ظاهرة عامة لسائر الذرّات المماثلة في الظروف المشخّصة الواحدة.

ومن الواضح: أنّ القانونين الأخيرين: الحتمية والتناسب، منبثقان عن مبدأ العلّية، فلو لم تكن في الكون علّية بين بعض الأشياء وبعض، وكانت الأشياء تحدث صدفة واتّفاقاً، لم يكن من الحتمي أن يوجد الإشعاع بدرجة معيّنة حين تكون هناك ذرّة راديوم، ولم يكن من الضروري -أيضاً- أن تشترك جميع ذرّات العنصر في ظواهر إشعاعية معيّنة، بل يصبح من الجائز أن يكون الإشعاع في ذرّة دون اُخرى، لا لشيء إلاّ للصدفة والاتّفاق، ما دام مبدأ العلّية خارجاً عن حساب الكون. فمردّ الحتمية والتناسب معاً إلى مبدأ العلّية.

أهمية مبدأ العلية فيما يخص النظريات العلمية:
ولنعد الآن -بعد أن عرفنا الفقرات الرئيسية الثلاث: العلّية، والحتمية، والتناسب- إلى العلوم والنظريات العلمية، فإنّنا سوف نجد بكلّ وضوح: أنّ جميع النظريات والقوانين التي تزخر بها العلوم، مرتكزة في الحقيقة على اساس تلك الفقرات الرئيسية، وقائمة على مبدأ العلّية وقوانينها. فلو لم يؤخذ هذا المبدأ كحقيقة فلسفية ثابتة، لما أمكن أن تقام نظرية، ويشاد قانون علمي له صفة العموم والشمول؛ ذلك أنّ التجربة التي يقوم بها العالم الطبيعي في مختبره، لا يمكن أن تستوعب جميع جزئيات الطبيعة، وإنّما تتناول عدّة جزئيات محدودة متّفقة في حقيقتها، فتكشف عن اشتراكها في ظاهرة معيّنة، وحيث يتأكّد العالم من صحّة التجربة ودقّتها وموضوعيتها، يضع فوراً نظريته أو قانونه العام الشامل لجميع ما يماثل موضوع تجربته من أجزاء الطبيعة.

وهذا التعميم الذي هو شرط أساسي لإقامة أي علم طبيعي، لا مبرّر له إلاّ قوانين العلّية بصورة عامّة، وقانون التناسب منها بصورة خاصّة، القائل: إنّ كلّ مجموعة متّفقة في حقيقتها، يجب أن تتّفق -أيضاً- في العلل والآثار، فلو لم تكن في الكون علل وآثار، وكانت الأشياء تجري على حسب الاتّفاق البحت، لما أمكن للعالم الطبيعي القول: إنّ ما صحّ في مختبره الخاصّ، يصحّ على كلّ جزء من الطبيعة على الإطلاق.

ولنأخذ لذلك مثالا بسيطاً، مثال العالم الطبيعي الذي أثبت بالتجربة أنّ الأجسام تتمدّد حال حرارتها، فإنّه لم يحط بتجاربه جميع الأجسام التي يحتويها الكون طبعاً، وإنّما أجرى تجاربه على عدّة أجسام متنوّعة، كعجلات العربة الخشبية التي توضع عليها إطارات حديدية أصغر منها، حال سخونتها، فتنكمش الإطارات إذا بردت وتشتدّ على الخشب، ولنفرض أنه كرّر التجربة عدّة مرّات على أجسام اُخرى، فلن ينجو في نهاية المطاف التجريبي عن مواجهة هذا السؤال: ما دمتَ لم تستقصِ جميع الجزئيات، فكيف يمكنك أن تؤمن بأنّ إطارات جديدة اُخرى غير التي جرّبتها، تتمدّد هي الاُخرى -أيضاً- بالحرارة؟

والجواب الوحيد على هذا السؤال هو: مبدأ العلّية وقوانينها. فالعقل حيث إنّه لا يقبل الصدفة والاتّفاق (بل يرفضها رفضا قاطعا جازما على ما أثبتناه في نقدنا لمبدأ الانتخاب الطبيعي في مقالين سابقين)، وإنّما يفسّر الكون بالعلّية وقوانينها من الحتمية والتناسب، يجد في التجارب المحدودة الكفاية للإيمان بالنظرية العامة القائلة بتمدّد الأجسام بالحرارة؛ لأنّ هذا التمدّد الذي كشفت عنه التجربة لم يكن صدفة، وإنّما كان حصيلة الحرارة ومعلولا لها، وحيث أنّ قانون التناسب في العلّية ينصّ على أنّ المجموعة الواحدة من الطبيعة تتّفق في أسبابها ونتائجها وعللها وآثارها، فلا شك أن تحصل كلّ المبرّرات -حينئذ- للتأكيد على شمول ظاهرة التمدّد لسائر الأجسام.

وهكذا نعرف أنّ وضع النظرية العامّة لم يكن ميسوراً دون الانطلاق من مبدأ العلّية. فمبدأ العلّية هو الأساس الأوّل لجميع العلوم والنظريات التجريبية.

ونستخلص ما يلي: أنّ النظريات التجريبية لا تكتسب صفة علمية ما لم تعمّم لمجالات أوسع من حدود التجربة الخاصّة، وتقدّم كحقيقة عامّة. ولا يمكن تقديمها كذلك إلاّ على ضوء مبدأ العلّية وقوانينها، فلا بدّ للعلوم عامّة أن تعتبر مبدأ العلّية وما إليها من قانوني الحتمية والتناسب، مسلّمات أساسية، وتسلم بها بصورة سابقة على جميع نظريّاتها وقوانينها التجريبية.
  • العلّية والاستدلال (بحث مهم جدا):
مبدأ العلّية هو الركيزة التي تتوقّف عليها جميع محاولات الاستدلال في كلّ مجالات التفكير الإنساني؛ لأنّ الاستدلال بدليل على شيء من الأشياء يعني: أنّ الدليل إذا كان صحيحاً، فهو سبب للعلم بالشيء المستدلّ عليه. فحين نبرهن على حقيقة من الحقائق بتجربة علمية، أو بقانون فلسفي، أو بإحساس بسيط، إنّما نحاول بذلك أن يكون البرهان علّة للعلم بتلك الحقيقة.

فلولا مبدأ العلّية والحتمية، لما اُتيح لنا ذلك؛ لأننا إذا طرحنا قوانين العلّية من الحساب، ولم نؤمن بضرورة وجود أسباب معيّنة لكلّ حادث، لم تبقَ صلة بعد ذلك بين الدليل الذي نستند إليه، والحقيقة التي نحاول اكتسابها بسببه، بل يصبح من الجائز أن يكون الدليل صحيحاً ولا ينتج النتيجة المطلوبة ما دامت قد انفصمت علاقة العلّية بين الأدلّة والنتائج، بين الأسباب والآثار.

وهكذا يتّضح: أنّ كلّ محاولة للاستدلال تتوقّف على الإيمان بمبدأ العلّية، وإلاّ كانت عبثاً غير مثمر. وحتّى الاستدلال على ردّ مبدأ العلّية الذي يحاوله بعض الفلاسفة أو العلماء الطبيعيين كداوكنز، يرتكز على مبدأ العلّية أيضاً؛ لأنّ هؤلاء الذين يحاولون إنكار هذا المبدأ، والاستناد في ذلك إلى دليل، لم يكونوا يقومون بهذه المحاولة لو لم يؤمنوا بأنّ الدليل الذي يستندون إليه، سبب كاف للعلم ببطلان مبدأ العلّية. وهذا بنفسه تطبيق حرفي لهذا المبدأ.

الميكانيكية والديناميكية:

يترتّب على ما سبق النتائج التالية:

(1) أنّ مبدأ العلّية لا يمكن إثباته والتدليل عليه بالحسّ؛ لأنّ الحسّ لا يكتسب صفة موضوعية إلاّ على ضوء هذا المبدأ. فنحن نثبت الواقع الموضوعي لأحاسيسنا استناداً إلى مبدأ العلّية، فليس من المعقول أن يكون هذا المبدأ مديناً للحسّ في ثبوته، ومرتكزاً عليه، بل هو مبدأ عقلي يصدّق به الإنسان، بصورة مستغنية عن الحسّ الخارجي.

(2) أنّ مبدأ العلّية ليس نظرية علمية تجريبية، وإنّما هو: قانون فلسفي عقلي فوق التجربة؛ لأنّ جميع النظريات العلمية تتوقّف عليه. ويبدو هذا واضحاً كلّ الوضوح بعد أن عرفنا أنّ كلّ استنتاج علمي قائم على التجربة يواجه مشكلة العموم والشمول، وهي: أنّ التجربة التي يرتكز عليها الاستنتاج محدودة، فكيف تكون بمجرّدها دليلا على نظرية عامّة؟! وعرفنا -أيضاً- أنّ الحلّ الوحيد لهذه المشكلة، إنّما هو: مبدأ العلّية، باعتباره دليلا على تعميم الاستنتاج وشموله. فلو افترضنا أنّ مبدأ العلّية نفسه مرتكز على التجربة، فمن الضروري أن نواجه مشكلة العموم والشمول مرّة اُخرى؛ نظراً إلى أنّ التجربة ليست مستوعِبة للكون، فكيف تعتبر دليلا على نظرية عامّة؟! وقد كنّا نحلّ هذه المشكلة -حين نواجهها في مختلف النظريات العلمية- بالاستناد إلى مبدأ العلّية، بصفته الدليل الكافي على عموم النتيجة وشمولها.

وأمّا إذا اعتبر نفس هذا المبدأ تجريبياً، وواجهنا المسألة فيه، فسوف نعجز نهائياً عن الجواب عليه. فلا بدّ -إذن- أن يكون مبدأ العلّية فوق التجربة، وقاعدة أساسية للاستنتاجات التجريبية عامّة (سيتضح عندما نبحث في نظرية المعرفة أن مصادرات نظرية الاحتمال بإمكانها أن تعوض النقص هنا، وبالتالي فبإمكاننا أن نكون احتمالا متصاعدا للعلية ومن ثم استخلاصها والاستيقان بها، أي البرهنة عليها تجريبيا أيضا، كما أننا هنا نستخلص أنها مبدأ عقلي ضروري، فهناك سنثبت أن المبادئ العقلية الضرورية يمكن البرهنة عليها من خلال منهج خاص يسمى بالمذهب الذاتي، وهو يختلف عن المذهب التجريبي).

(3) أنّ مبدأ العلّية لا يمكن الاستدلال على ردّه بأيّ لون من ألوان الاستدلال؛ لأنّ كلّ محاولة من هذا القبيل تنطوي ضمناً على الاعتراف به، فهو -إذن- ثابت بصورة متقدّمة على جميع الاستدلالات التي يقوم بها الإنسان.

وخلاصة هذه النتائج: أنّ مبدأ العلّية ليس مبدأً تجريبياً، وإنّما هو مبدأ عقلي ضروري.

وعلى هذا الضوء يمكننا أن نضع الحدّ الفاصل بين الميكانيكية والديناميكية، وبين مبدأ العلّية ومبدأ الحرّية؛ فإنّ التفسير الميكانيكي للعلّية كان يقوم على أساس اعتبارها مبدأً تجريبياً، فهي ليست في رأي الميكانيكية المادّية إلاّ رابطة مادّية، تقوم بين ظواهر مادّية في الحقل التجريبي، وتستكشف بالوسائل العلمية. ولأجل ذلك كان من الطبيعي أن تنهار العلّية الميكانيكية إذا عجزت التجربة في بعض المجالات العلمية عن الكشف عمّـا وراء الظاهرة من علل وأسباب؛ لأنّها لم تتمّ إلاّ على أساس تجريبي، فإذا خانتها التجربة، ولم يبرهن عليها التطبيق العملي سقطت عن درجة الوثوق العلمي والاعتبار.

وأمّا على رأينا في العلّية القائل: إنّها مبدأ عقلي فوق التجربة، فالموقف يختلف كلّ الاختلاف من جوانب عديدة:

أوّلا: أنّ العلّية لا تقتصر على الظواهر الطبيعية التي تبدو في التجربة، بل هي قانون عام للوجود في مجاله الأوسع الذي يضمّ الظواهر الطبيعية ونفس المادّة وما وراء المادّة من ألوان الوجود.

ثانياً: أنّ السبب الذي يحكم بوجوده مبدأ العلّية، ليس من الضروري أن يخضع للتجربة، أو أن يكون شيئاً مادّياً.

ثالثاً: أنّ عدم كشف التجربة عن وجود سبب معيّن لصيرورة ما أو لظاهرة ما، لا يعني فشل مبدأ العلّية؛ إذ أنّ هذا المبدأ لم يرتكز على التجربة ليتزعزع بسبب عدم توفّرها. فبالرغم من عجز التجربة عن استكشاف السبب، يبقى الوثوق الفلسفي بوجوده -طبقاً لمبدأ العلّية- قوياً، ويرجع فشل التجربة في الكشف عن السبب إلى أمرين: إمّا قصورها وعدم إحاطتها بالواقع المادّي، والملابسات الخاصّة للحادثة، وإمّا أنّ السبب المجهول خارج عن الحقل التجريبي، وموجود فوق عالم الطبيعة والمادّة.

وبما سبق يمكننا أن نميّز الفوارق الأساسية بين فكرتنا عن مبدأ العلّية، والفكرة الميكانيكية عنه. ونتبيّن أنّ الشكّ الذي اُثير حول مبدأ العلّية، لم يكن إلاّ نتيجة لتفسيره على أساس المفهوم الميكانيكي الناقص.

مبدأ العلّية والميكروفيزياء (الفيزياء الجزيئية، أو ما دون الذرية):

نستطيع على ضوء النتائج التي انتهينا إليها في مبدأ العلّية، أن ندحض تلك الحملات الشديدة التي شُنّت في الميكروفيزياء ضدّ قانون الحتمية، وبالتالي ضدّ مبدأ العلّية بالذات. فقد وجد في الفيزياء الذرّية الاتّجاه القائل: إنّ الضبط الحتمي الذي تؤكّد عليه العلّية وقوانينها، لا يصحّ في مستوى الميكروفيزياء، أي في مستوى ما دون الذري. فقد يكون من الصحيح أنّ الأسباب ذاتها تولّد النتائج نفسها في مستوى الفيزياء المدرسية، أو فيزياء العين المجرّدة، وأنّ تأثير الأسباب الفاعلة في ظروف شخصية واحدة، لا بدّ له من أن ينتهي إلى محصّلة واحدة حتماً، بحيث نستطيع أن نتأكّد من طبيعة النتائج وحتميّتها بسبب دراسة الأسباب والشرائط الطبيعية... ولكن كلّ شيء يبدو على غير هذا اللون إذا حاولنا أن نطبّق مبادئ العلّية على العالم الذرّي. ولذلك أعلن (هايزنبرك) العالم الفيزيائي أنّ من المستحيل علينا أن نقيس بصورة دقيقة كمّية الحركة التي يقوم بها جُسيم بسيط كالإلكترون في مستويات الذرة، وأن نحدّد -في الوقت عينه- موضعه في الموجة المرتبطة به.

فكلّما كان مقياس موضعه دقيقاً، كان هذا المقياس عاملا في تعديل كمّية الحركة، ومن ثمّة في تعديل سرعة الجُسيم بصورة لا يمكن التنبّؤ بها. وكلّما كان مقياس كمّية الحركة دقيقاً، أصبح موضع الجُسيم غير محدّد. فالوقائع الفيزيائية في المجال الذرّي، لا يستطاع قياسها بدون أن يدخل فيها اضطراباً غير قابل للقياس، وبالتالي فقد أنكروا العلية في مستوى ما دون الذري، وقالوا بعشوائية تصرفات الذرة في ذلك المستوى! ومهما تعمّقنا في تدقيق المقاييس العلمية، ابتعدنا أكثر عن الواقع الموضوعي لتلك الوقائع.

ومعنى ذلك: أنه لا يمكن فصل الشيء الملاحظ في الميكروفيزياء عن الأداة العلمية التي يستعملها العالم لدرسه، كما لا يمكن فصله عن الملاحِظ نفسه؛ إذ أنّ ملاحِظين مختلفين يعملون بأداة واحدة على موضع واحد، قد يصلون إلى مقاييس مختلفة. ومن هنا نشأت فكرة اللاحتمية التي تناقض بصفة مطلقة مبدأ العلّية، والقواعد الأساسية التي سارت عليها الفيزياء قبل ذلك. وجرت محاولات لاستبدال العلّية الحتمية بما يُسمّى (علاقات الارتياب suspicios relationships)، أو (قوانين الاحتمال probability laws) التي نادى بها (هايزنبرك)، مصرّاً على أنّ العلوم الطبيعية -كالعلوم الإنسانية- لا تستطيع أن تتنبّأ تنبّؤاً يقييناً حينما تنظر إلى العنصر البسيط، بل أنّ كلّ ما تستطيعه هو أن تصوغ احتمالا من الاحتمالات.

والواقع: أنّ جميع هذه الشكوك والارتيابات العلمية التي أثارها العلماء في الميكروفيزياء، ترتكز على فهم خاصّ لمبدأ العلّية وقوانينها، لا يتّفق مع فهمنا وتحليلنا الفلسفي له. فنحن لا نريد أن نناقش هؤلاء العلماء في تجاربهم، أو ندعوهم إلى التغاضي عن مستكشفاتها والتخلّي عنها، ولا نرمي إلى التقليل من شأنها وخطرها، وإنّما نختلف عنهم في مفهومنا العام عن مبدأ العلّية، وعلى أساس هذا الاختلاف، تصبح كلّ المحاولات السابقة لدحض مبدأ العلّية وقوانينها، غير ذات معنى.

حل الإشكال:
وتفصيل ذلك: أنّ (مبدأ العلّية) لو كان مبدأً علمياً قائماً على أساس التجارب والمشاهدات في حقل الفيزياء الاعتيادية، لكان رهن التجربة في ثبوته وعمومه، فإذا لم نظفر له بتطبيقات واضحة في ميادين الفيزياء الذرّية، ولم نستطع أن نستكشف لها نظاماً حتمياً قائماً على مبدأ العلّية وقوانينها، كان من حقّنا أن نشكّ في قيمة المبدأ بالذات، ومدى صحّته أو عمومه. غير أنا أوضحنا فيما سبق: أنّ تطبيق مبدأ العلّية على المجالات الاعتيادية للفيزياء، والاعتقاد بالعلّية كنظام عام للكون فيها، لم يكن بدليل تجريبي بحت، وأنّ مبدأ العلّية مبدأ ضروري فوق التجربة، وإلاّ لم يستقم علم طبيعي على الإطلاق.

وإذا تبيّنا هذا، ووضعنا مبدأ العلّية في موضعه الطبيعي من تسلسل الفكر الإنساني، فسوف لا يزعزع به عدم تمكّننا من تطبيقه تجريبياً في بعض ميادين الطبيعة، والعجز عن استكشاف النظام الحتمي الكامل فيها بالأساليب العلمية؛ فإنّ كلّ ما جمعه العلماء من ملاحظات على ضوء تجاربهم الميكروفيزيائية، لا يعني أنّ الدليل العلمي قد برهن على خطأ مبدأ العلّية وقوانينها في هذا المجال الدقيق من مجالات الطبيعة المتنوّعة.

ومن الواضح: أنّ عدم توفّر الإمكانيات العلمية والتجريبية لا يمسّ مبدأ العلّية في كثير أو قليل ما دام مبدأً ضرورياً فوق التجربة. ويوجد -عندئذ- لفشل التجارب العلمية في محاولة الظفر بأسرار النظام الحتمي للذرّة تفسيران:

الأوّل: نقصان الوسائل العلمية، وعدم توفّر الأدوات التجريبية التي تتيح للعالم الاطّلاع على جميع الشروط والظروف المادّية. فقد يعمل العالم بأداة واحدة على موضوع واحد عدّة مرّات، فيصل إلى نتائج مختلفة، لا لأنّ الموضوع الذي عمل عليه متحرّر من كلّ نظام حتمي، بل لأنّ الوسائل التجريبية الميسورة لم تكن كاملة إلى حدّ تكشف له عن الشروط المادّية الدقيقة التي اختلفت النتائج بسبب اختلافها. ومن الطبيعي: أن تكون وسائل التجربة في المجالات الذرّية ووقائعها، أبعد عن الكمال من الوسائل التجريبية التي تتّخذ في مجالات فيزيائية اُخرى أقلّ خفاء وأكثر وضوحاً.

الثاني: تأثّر الموضوع -نظراً إلى دقّته وضآلته- بالمقاييس والأدوات العلمية تأثّراً دقيقاً لا يقبل القياس والدرس العلمي. فقد تبلغ الوسائل العلمية الذروة في الدقّة والكمال والعمق، ولكن العالم -مع ذلك- يواجه المشكلة نفسها؛ لأنّه يجد نفسه إزاء وقائع فيزيائية لا يستطيع قياسها بدون أن يدخل فيها اضطراباً غير قابل للقياس، أو أن يستنتجها استنتاجا فلسفيا كما في نظرية M، وقبلها الأوتار فيما يخص الأبعاد الـ11 والوتر. وبذلك يختلف موقفه تجاه هذه الوقائع عن موقفه في تجارب فيزياء العين المجرّدة؛ لأنّه في تلك التجارب يستطيع أن يقوم بقياساته دون إجراء أيّ تعديل في الشيء المقاس، وحتّى حينما يعدل فيه يكون هذا التعديل نفسه قابلا للقياس. وأمّا في الميكروفيزياء، فقد تكون دقّة الأداة وقوّتها بنفسها سبباً في فشلها؛ إذ تُحدِث تغييراً في الموضوع الملاحظ، فلا يمكن أن يُدرَس بصورة موضوعية مستقلّة.

ولذلك يقول (جان لويس ديتوش) -فيما يتعلّق بجُسيم من الجُسيمات-: "فبدلا أن تكون شدّة النور هي ذات الأهمية؛ إذ يصبح طول الموجة هو المهمّ. فكلّما أضأنا الجُسيم بموجة قصيرة -أي: بموجة ذات تردد عال- أصبحت حركته عرضة للاضطراب."

ومردّ السببين معاً إلى قصور وسائل التجربة والمشاهدة العلميّتين: إمّا عن ضبط الموضوع الملاحظ بجميع شروطه وظروفه المادّية، وإمّا عن قياس التأثير الذي توجده التجربة نفسها فيه قياساً دقيقاً. وكلّ هذا إنّما يقرّر عدم إمكان الاطّلاع على النظام الحتمي الذي يتحكّم في الجُسيمات وحركاتها مثلا، وعدم إمكان التنبّؤ بمسلك هذه الجُسيمات تنبّؤاً مضبوطاً. ولا يبرهن ذلك على حرّيتها، ولا يبرّر إدخال اللاحتمية إلى مجال المادّة، وإسقاط قوانين العلّية من حساب الكون.
  • لماذا تحتاج الأشياء إلى علّة؟
نتناول الآن ناحية جديدة من مبدأ العلّية، وهي الإجابة عن السؤال التالي: لماذا تحتاج الأشياء إلى أسباب وعلل، فلا توجد بدونها؟ وما هو السبب الحقيقي الذي يجعلها متوقّفة على تلك الأسباب والعلل؟

وهذا سؤال نواجهه بطبيعة الحال بعد أن آمنّا بمبدأ العلّية؛ فإنّ الأشياء التي نعاصرها في هذا الكون ما دامت خاضعة بصورة عامة لمبدأ العلّية، وموجودة طبقاً لقوانينها، فيجب أن نتساءل عن سرّ خضوعها لهذا المبدأ، فهل مردّ هذا الخضوع إلى ناحية ذاتية في تلك الأشياء، لا يمكنها أن تتحرّر عنها مطلقاً؟ أو إلى سبب خارجي جعلها بحاجة إلى علل وأسباب؟ وسواءٌ أصحّ هذا أم ذاك، فما هي حدود هذا السرّ الذي يرتكز عليه مبدأ العلّية؟ وهل يعمّ ألوان الوجود جميعاً أو لا؟

لابد من الإجابة عن هذا السؤال المهم، وقد حصلت هذه الأسئلة على أربع نظريات لمحاولة الإجابة عنها:

(1) نظرية الوجود:

وهي النظرية القائلة: إنّ الموجود يحتاج إلى علّة؛ لأجل وجوده. وهذه الحاجة ذاتية للوجود، فلا يمكن أن نتصوّر وجوداً متحرّراً من هذه الحاجة؛ لأنّ سبب الافتقار إلى العلّة سرّ كامن في صميمه. ويترتّب على ذلك: أنّ كلّ وجود معلول.

وقد أخذ بهذه النظرية بعض فلاسفة الماركسية، مستندين في تبريرها علمياً إلى التجارب التي دلّت -في مختلف ميادين الكون- على أنّ الوجود بشتّى ألوانه وأشكاله -التي كشفت عنها التجربة- لا يتجرّد عن سببه ولا يستغني عن العلّة. فالعلّية ناموس عام للوجود، بحكم التجارب العلمية. وافتراض وجود ليس له علّة، مناقض لهذا الناموس، ولأجل ذلك كان ضرباً من الاعتقاد بالصدفة التي لا متّسع لها في نظام الكون العام.

وقد حاولوا عن هذا الطريق أن يتّهموا الفلسفة الإلهية بأنها تؤمن بالصدفة؛ نظراً إلى اعتقادها بوجود مبدأ أوّل لم ينشأ من سبب ولم تتقدّمه علّة، ولعلنا نسمع من هنا وهناك مثل هذه الاتهامات عندما يصلون هذه النقطة، فهذه النقطة دائرة في الخطاب المادي المعاصر. فهذا الوجود المزعوم للإلهية، لمّا كان شاذّاً عن مبدأ العلّية، فهو صدفة، وقد أثبت العلم أن لا صدفة في الوجود، فلا يمكن التسليم بوجود المبدأ الإلهي الذي تزعمه الفلسفة الميتافيزيقية.

وهكذا أخطأ هؤلاء مرّة اُخرى حين أرادوا استكشاف سرّ الحاجة إلى العلّة، ومعرفة حدود العلّية، ومدى اتّساعها عن طريق التجارب العلمية، كما أخطأوا سابقاً في محاولة استنباط مبدأ العلّية بالذات وبصورة رئيسية من التجربة والاستقراء العلمي للكون؛ فإنّ التجارب العلمية لا تعمل إلاّ في حقلها الخاصّ، وهو نطاق مادّي محدود، وقصارى ما تكشف عنه هو خضوع الأشياء في ذلك النطاق لمبدأ العلّية، فالانفجار، أو الغليان، أو الاحتراق، أو الحرارة، أو الحركة، وما إلى ذلك من ظواهر الطبيعة، لا توجد دون أسباب، وليس في الإمكانات العلمية للتجربة، التدليل على أنّ سرّ الحاجة إلى العلّة كامن في الوجود بصورة عامّة، فمن الجائز أن يكون السرّ ثابتاً في ألوان خاصّة من الوجود، وأن تكون الأشياء التي ظهرت في المجال التجريبي، من تلك الألوان الخاصّة.

فاعتبار التجربة دليلا على أنّ الوجود بصورة عامة خاضع للعلل والأسباب، ليس صحيحاً -إذن- ما دامت التجربة لا تباشر إلاّ الحقل المادّي من الوجود، وما دام نشاطها في هذا الحقل الذي تباشره لا يتخطّى إيضاح الأسباب والآثار المنبثقة عنها إلى الكشف عن السبب الذي جعل هذه الآثار بحاجة إلى تلك الأسباب. وإذا كانت التجربة ووسائلها المحدودة، قاصرة عن تكوين إجابة واضحة في هذه المسألة، فيجب درسها على الاُسس العقلية، وبصورة فلسفية مستقلّة. فكما أنّ مبدأ العلّية نفسه من المبادئ الفلسفية الخالصة -كما عرفت سابقاً- كذلك -أيضاً- البحوث المتّصلة به، والنظريات التي تعالج حدوده.

-> ويجب أن نشير إلى أنّ اتّهام فكرة المبدأ الأوّل بأنها لون من الإيمان بالصدفة، ينطوي على سوء فهم لهذه الفكرة، وما ترتكز عليه من مفاهيم؛ ذلك أنّ الصدفة عبارة عن الوجود من دون سبب، لشيء يستوي بالنسبة إليه الوجود والعدم، فكلّ شيء ينطوي على إمكان الوجود، وإمكان العدم بصورة متعادلة، ثمّ يوجد من دون علّة، فهو الصدفة. وفكرة المبدأ الأوّل تنطلق من القول: بأنّ المبدأ الأوّل لا يتعادل فيه الوجود والعدم، فهو ليس ممكن الوجود والعدم معاً، بل ضروريّ الوجود، وممتنع العدم. ومن البديهي: أنّ الاعتقاد بموجود هذه صفته، لا ينطوي على التصديق بالصدفة مطلقاً.

(2) نظرية الحدوث:

وهي النظرية التي تعتبر حاجة الأشياء إلى أسبابها مستندة إلى حدوثها. فالانفجار، أو الحركة، أو الحرارة، إنّما نتطلّب لها أسباباً؛ لأنّها اُمور حدثت بعد العدم. فالحدوث هو الذي يفتقر إلى علّة، وهو الباعث الرئيسي الذي يثير فينا سؤال: لماذا وجد؟ أمام كلّ حقيقة من الحقائق التي نعاصرها في هذا الكون. وعلى ضوء هذه النظرية يصبح مبدأ العلّية مقتصراً على الحوادث خاصّة. فإذا كان الشيء موجوداً بصورة مستمرّة ودائمة، ولم يكن حادثاً بعد العدم، فلا توجد فيه حاجة إلى السبب، ولا يدخل في النطاق الخاصّ لمبدأ العلّية، وهذا ما يحاوله الماديون في زمننا هذا، حيث إنهم يحاولون افتراض الكون المادي أزليا، وظنوا بأن ذلك ينفي الحاجة إلى العلة وبالتالي إلى المبدأ الأول.

وهذه النظرية أسرفت في تحديد العلّية، كما أسرفت النظرية السابقة في تعميمها، وليس لها ما يبرّرها من ناحية فلسفية. فمردّ الحدوث في الحقيقة إلى وجود الشيء بعد العدم، كوجود السخونة في ماء لم يكن ساخناً، ولا يفترق لدى العقل أن توجد هذه السخونة بعد العدم، وأن تكون موجودة بصورة دائمة؛ فإنّه يتطلّب على كلّ حال سبباً خاصّاً لها. فالصعود بعمر الشيء وتأريخه إلى أبعد الآماد، لا يبرّر وجوده، ولا يجعله مستغنياً عن العلّة.

وبكلمة اُخرى: أنّ وجود السخونة الحادثة، لمّا كان بحاجة إلى سبب، فلا يكفي لتحريره من هذه الحاجة أن نمدّده؛ لأنّ تمديده سوف يجعلنا نصعد بالسؤال عن العلّة مهما اتّسعت عملية التمديد.

(3، 4) نظرية الإمكان الذاتي، والإمكان الوجودي:

وهاتان النظريتان تؤمنان بأنّ الباعث على حاجة الأشياء إلى أسبابها، هو الإمكان. غير أنّ لكلّ من النظريتين مفهومها الخاصّ عن الإمكان، الذي تختلف به عن الاُخرى، وهذا الاختلاف بينهما مظهر لاختلاف فلسفي أعمق حول الماهية والوجود، وحيث إنّ حدود البحث لا تسمح بالتحدّث عن ذلك الاختلاف وتمحيصه، فسوف نقتصر على نظرية الإمكان الوجودي في مسألتنا؛ نظراً إلى ارتكازها على الرأي القائل بأصالة الوجود (أي: الرأي الصحيح في الاختلاف الفلسفي الأعمق الذي أشرنا إليه، وقد نقل عن المفكر الكبير محمد باقر الصدر بأنّ الاختلاف المطروح بين القائلين بأصالة الماهيّة (شيخ الإشراق) والقائلين بأصالة الوجود (مجمل المشّائين وصدر المتألهين) لا يعدو أن يكون اختلافاً لفظيّاً تورّط فيه كلّ من الطرفين على أثر سوء فهم مراد الطرف الآخر، وللتفصيل مجال آخر).

ونظرية الإمكان الوجودي هي للفيلسوف الإسلامي الكبير (صدر الدين الشيرازي). وقد انطلق فيها من تحليل مبدأ العلّية نفسه، وخرج من تحليله ظافراً بالسرّ، فلم يكلّفه الظفر بالسبب الحقيقي لحاجة الأشياء إلى عللها، أكثر من فهم مبدأ العلّية فهماً فلسفياً عميقاً وصحيحا.

إيضاح النظرية:
والآن نبدأ كما بدأ، فنتناول العلّية بالدرس والتمحيص.

لا شكّ في أنّ العلّية علاقة قائمة بين وجودين: العلّة، والمعلول. فهي لون من ألوان الارتباط بين شيئين. وللارتباط ألوان وضروب شتّى، فالرسّام مرتبط باللوحة التي يرسم عليها، والكاتب مرتبط بالقلم الذي يكتب به، والمطالِع مرتبط بالكتاب الذي يقرأ فيه، والأسد مرتبط بسلسلة الحديد التي تطوّق عنقه، وهكذا سائر العلاقات والارتباطات بين الأشياء. ولكن شيئاً واضحاً يبدو بجلاء في كلّ ما قدّمناه من الأمثلة للارتباط، وهو: أنّ لكلّ من الشيئين المرتبطين وجوداً خاصّاً، سابقاً على ارتباطه بالآخر. فاللوحة والرسّام كلاهما موجودان قبل أن توجد عملية الرسم أو الارتباط بينهما، والكاتب والقلم موجودان قبل أن يرتبط أحدهما بالآخر، والمطالع والكتاب كذلك وجدا بصورة مستقلّة، ثمّ عَرَضَ لهما الارتباط. فالارتباط في جميع هذه الأمثلة علاقة تَعرِضُ للشيئين بصورة متأخّرة عن وجودهما، أي إنها عارضة عليهما، ولذلك فهو شيء ووجودهما شيء آخر. فليست اللوحة في حقيقتها ارتباطاً بالرسّام، ولا الرسّام في حقيقته مجرّد ارتباط باللوحة، بل الارتباط صفة توجد لهما بعد وجود كلّ منهما بصورة مستقلّة.

وهذه المفارقة بين حقيقة الارتباط، والكيان المستقلّ لكلّ من الشيئين المرتبطين، تتجلّى في كلّ أنواع الارتباط، باستثناء نوع واحد، وهو: ارتباط شيئين برباط العلّية.

فلو أنّ (ب) ارتبط بـ (أ) ارتباطاً سببياً، وكان معلولا له ومسبّباً عنه، لوجد لدينا شيئان: أحدهما معلول وهو (ب)، والآخر علّة وهو (أ). وأمّا العلّية التي تقوم بينهما، فهي لون ارتباط أحدهما بالآخر. والمسألة هي: أنّ (ب) هل يملك وجوداً بصورة مستقلّة عن ارتباطه بـ (أ)، ثمّ يعرض له الارتباط، كما هو شأن اللوحة بالإضافة إلى الرسّام؟ ولا نحتاج إلى كثير من الدرس لنجيب بالنفي؛ فإنّ (ب) لو كان يملك وجوداً حقيقياً وراء ارتباطه بسببه، لم يكن معلولا لـ (أ)؛ لأنّه ما دام موجوداً بصورة مستقلّة عن ارتباطه به، فلا يمكن أن يكون منبثقاً عنه وناشئاً منه. فالعلّية بطبيعتها تقتضي أن لا يكون للمعلول حقيقة وراء ارتباطه بعلّته، وإلاّ لم يكن معلولا.

ويتّضح بذلك: أنّ الوجود المعلول ليس له حقيقة إلاّ نفس الارتباط بالعلّة والتعلّق بها. وهذا هو الفارق الرئيسي بين ارتباط المعلول بعلّته، وارتباط اللوحة بالرسّام، أو القلم بالكاتب، أو الكتاب بالمطالع؛ فإنّ اللوحة والقلم والكتاب أشياء تتّصف بالارتباط مع الرسّام والكاتب والمطالع. وأمّا (ب) فهو ليس شيئاً له ارتباط وتعلّق بالعلّة؛ لأنّ افتراضه كذلك يستدعي أن يكون له وجود مستقلّ يعرضه الارتباط، كما يعرض للّوحة الموجودة بين يدي الرسّام، ويخرج بذلك عن كونه معلولا، بل هو نفس الارتباط، بمعنى: أنّ كيانه ووجوده كيان ارتباطي ووجود تعلّقي، ولذلك كان قطع ارتباطه بالعلّة إفناءً له، وإعداماً لكيانه؛ لأنّ كيانه يتمثّل في ذلك الارتباط. على عكس اللوحة؛ فإنّها لو لم ترتبط بالرسّام في عملية رسم معيّنة، لما فقدت كيانها ووجودها الخاصّ.

وإذا استطعنا أن نخرج بهذه النتيجة المهمّة من تحليل مبدأ العلّية، أمكننا أن نضع فوراً الجواب على مسألتنا الأساسية، ونعرف السرّ في احتياج الأشياء إلى أسبابها، فإنّ السرّ في ذلك على ضوء ما سبق هو: أنّ الحقائق الخارجية التي يجري عليها مبدأ العلّية، ليست في الواقع إلاّ تعلّقات وارتباطات. فالتعلّق والارتباط مقوّم لكيانها ووجودها.

ومن الواضح: أنّ الحقيقة إذا كانت حقيقة تعلّقية، أي كانت عين التعلّق والارتباط، فلا يمكن أن تنفكّ عن شيء تتعلّق به، وترتبط به ذاتياً. فذلك الشيء هو سببها وعلّتها؛ لأنّها لا يمكن أن توجد مستقلّة عنه.

وهكذا نعرف أنّ السرّ في احتياج هذه الحقائق الخارجية التي نعاصرها إلى سبب، ليس هو حدوثها، ولا إمكان ماهياتها، بل السرّ كامن في كنهها الوجودي وصميم كيانها؛ فإنّ حقيقتها الخارجية عين التعلّق والارتباط، والتعلّق أو الارتباط لا يمكن أن يستغني عن شيء يتعلّق به ويرتبط. ونعرف في نفس الوقت -أيضاً- أنّ الحقيقة الخارجية إذا لم تكن حقيقة ارتباطية وتعلّقية، فلا يشملها مبدأ العلّية. فليس الوجود الخارجي بصورة عامة محكوماً بمبدأ العلّية، بل إنّما يحكم مبدأ العلّية على الوجودات التعلّقية التي تعبّر في حقيقتها عن الارتباط والتعلّق (يُرَاجَع للتفصيل: الأسفار الأربعة 1: 217 تبصرة تذكّريّة. وشرح المنظومة 2: 255، غررٌ في أبحاث متعلّقة بالإمكان).
  • التأرجح بين التناقض والعلّية:
بالرغم من أنّ الماركسية والمذاهب المادية المعاصرة اتّخذت من تناقضات الديالكتيك شعاراً لها في بحوثها التحليلية لكلّ مناحي الكون والحياة والتأريخ، لم تنج بصورة نهائية من التذبذب بين تناقضات الديالكتيك ومبدأ العلّية، فهي بوصفها ديالكتيكية تؤكّد أنّ النموّ والتطوّر ينشأ عن التناقضات الداخلية كما مرّ مشروحاً في البحوث السابقة، فالتناقض الداخلي هو الكفيل بأن يفسّر كلّ ظاهرة من الكون دون حاجة إلى سبب أعلى. ومن ناحية اُخرى تعترف بعلاقة العلّة والمعلول، وتفسّر هذه الظاهرة أو تلك بأسباب خارجية، وليس بالتناقضات المخزونة في أعماقها.

ولنأخذ مثالا لهذا التذبذب من تحليلها التأريخي، فهي بينما تصرّ على وجود تناقضات داخلية في صميم الظواهر الاجتماعية كفيلة بتطويرها ضمن حركة ديناميكية، تقرّر من ناحية اُخرى أنّ الصرح الاجتماعي الهائل يقوم كلّه على قاعدة واحدة، وهي: قوى الانتاج، وأنّ الأوضاع الفكرية والسياسية وما إليها ليست إلاّ بنىً فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل وآخر لطريقة الانتاج التي قام البناء عليها، ومعنى هذا: أنّ العلاقة بين هذه البنى الفوقية وبين قوى الانتاج هي علاقة معلول بعلّة، فليس هناك تناقض داخلي وإنّما توجد علّية.

وكأنّ الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح بين التناقضات الداخلية ومبدأ العلّية، وحاولت أن توفّق بين الأمرين، فأعطت العلّة والمعلول مفهوماً ديالكتيكياً، ورفضت مفهومها الميكانيكي، وسمحت لنفسها على هذا الأساس أن تستعمل في تحليلها طريقة العلّة والمعلول في إطارها الديالكتيكي الخاصّ، فالماركسية ترفض السببية التي تسير على خطّ مستقيم، والتي تظلّ فيها العلّة خارجية بالنسبة إلى معلولها، والمعلول سلبياً بالنسبة إلى علّته؛ لأنّ هذه السببية تتعارض مع مضمون الديالكتيك، مع عملية النموّ والتكامل الذاتي في الطبيعة؛ إذ أنّ المعلول طبقاً لهذه السببية لا يمكن أن يجيء -حينئذ- أثرى من علّته وأكثر نموّاً؛ لأنّ هذه الزيادة في الثراء والنموّ تبقى دون تعليل. وأمّا المعلول الذي يولد من نقيضه فيتطوّر وينمو بحركة داخلية، طبقاً لما يحتوي من تناقضات، ليعود إلى النقيض الذي أولده فيتفاعل معه، ويحقّق عن طريقة الاندماج به مركّباً جديداً أكثر اغتناءً وثراءً من العلّة والمعلول منفردين، فهذا هو ما تعنيه الماركسية بالعلّة والمعلول؛ لأنّه يتّفق مع الديالكتيك، والعلّية هنا عملية نموّ وتكامل عن طريق ولادة المعلول من العلّة، والمعلول في هذه العملية لا يولد سلبياً، بل يولد مزوّداً بتناقضاته الداخلية التي تنمّيه وتجعله يحتضن علّته إليه في مركّب أرقى وأكمل.

وقد سبق في حديثنا عن الديالكتيك رأينا في هذه التناقضات الداخلية التي ينمو الكائن وفقاً لتوحّدها وصراعها في أعماقه، ونستطيع أن نعرف الآن -في ضوء مفهومنا الأعمق عن العلاقة بين العلّة والمعلول- خطأ الماركسية في مفهومها عن العلّية، وما تؤدّي إليه من نموّ المعلول وتكامل العلّة بالاندماج مع معلولها؛ فإنّ المعلول حيث كان لوناً من ألوان التعلّق والارتباط بعلّته، لا يمكن للعلّة أن تتكامل به في مركّب أرقى.
  • التعاصر بين العلّة والمعلول
لمّا كنّا نعرف الآن أنّ وجود المعلول مرتبط ارتباطاً ذاتياً بوجود العلّة، فنستطيع أن نفهم مدى ضرورة العلّة للمعلول، وأنّ المعلول يجب أن يكون معاصراً للعلّة، ليرتبط بها كيانه ووجوده، فلا يمكن له أن يوجد بعد زوال العلّة، أو أن يبقى بعد ارتفاعها. وهذا هو ما شئنا أن نعبّر عنه بقانون (التعاصر بين العلّة والمعلول).
  • مناقشتان حول هذا القانون:
وقد اُثيرت حول هذا القانون مناقشتان راميتان إلى إثبات أنّ من الممكن بقاء المعلول بعد زوال علّته. إحداهما للمتكلّمين، والاُخرى لبعض علماء الميكانيك الحديث.

(1) المناقشة الكلامية:

وهي تستند إلى أمرين:

الأوّل: أنّ الحدوث هو سبب حاجة الأشياء إلى أسبابها. فالشيء إنّما يحتاج إلى سبب؛ لأجل أن يحدث، فإذا حدث، لم يكن وجوده بعد ذلك مفتقراً إلى علّة. وهذا يرتكز على نظرية الحدوث التي تبينّا خطأها فيما سبق، وعرفنا أنّ حاجة الشيء إلى العلّة ليست لأجل الحدوث، بل لأنّ وجوده مرتبط بسببه الخاصّ ارتباطاً ذاتياً.

الثاني: أنّ قانون التعاصر بين العلّة والمعلول، لا يتّفق مع طائفة من ظواهر الكون التي تكشف بوضوح عن استمرار وجود المعلول بعد زوال العلّة. فالعمارة الشاهقة التي شادها البنّاؤون، واشترك في بنائها آلاف العمّـال، تبقى قائمة بعد انتهاء عملية البناء والتعمير، وإن تركها العمّـال، ولم يبقَ منهم بعد ذلك شخص على قيد الحياة. والسيّارة التي أنتجها مصنع خاصّ بفضل عمّـاله الفنّيين، تعمل، وقد تبقى محتفظة بمحركها وهيكلها، وإن تهدّم ذلك المصنع، ومات اُولئك العمّـال. والمذكّرات التي سجّلها شخص بخطّه، تبقى بعده مئات السنين، تكشف للناس عن حياة ذلك الشخص وتأريخه. فهذه الظواهر تبرهن على أنّ المعلول يملك حرّيته بعد حدوثه، وتزول حاجته إلى علّته.

معالجة الوهم: أخذ ما ليس بعلة علة
والواقع: أنّ عرض هذه الظواهر كأمثلة لتحرّر المعلول بعد حدوثه من علّته، نشأ من عدم التمييز بين العلّة وغيرها. فنحن إذا أدركنا العلّة الحقيقية لتلك الاُمور -من بناء الدار، والسيّارة، وكتابة المذكّرات- نتبيّن أنّ تلك الاُمور لم تستغنِ عن العلّة في لحظة من لحظات وجودها، وأنّ كلّ أثر طبيعي يعدم في الآن الذي يفقد فيه سببه. فما هو المعلول للعمّـال المشتغلين ببناء العمارة، إنّما هو نفس عملية البناء، وهي عبارة عن عدّة من الحركات والجهد العضلي، يقوم بها العامل بقصد جمع موادّ البناء الخام من الآجر والحديد والخشب وما إليها... وهذه الحركات لا يمكن أن تستغني عن العمّـال في وجودها، بل تنقطع حتماً في الوقت الذي يكفّ فيه العمّـال عن العمل. وأمّا الوضع الذي حصل لموادّ البناء على أثر عملية التعمير، فهو في وجوده واستمراره معلول لخصائص تلك الموادّ، والقوى الطبيعية العامة التي تفرض على المادّة المحافظة على وضعها وموضعها. وكذلك الأمر في سائر الأمثلة الاُخرى.

وهكذا يتبخّر الوهم الآنف الذكر إذا أضفنا كلّ معلول إلى علّته الواقعية، ولم نخطئ في نسبة الآثار إلى أسبابها، أي بأخذ ما ليس بعلة علة.

(2) المعارضة الميكانيكية:

وهي المعارضة التي أثارها الميكانيك الحديث على ضوء القوانين التي وضعها (غاليليو) و (نيوتن) للحركة الميكانيكية، مدّعياً -على أساس تلك القوانين- أنّ الحركة إذا حدثت بسبب فهي تبقى حتماً، ولا يحتاج استمرارها إلى علّة، خلافاً للقانون الفلسفي الذي ذكرناه.

ونحن إذا تعمّقنا في درس هذه المعارضة، وجدنا أنها تؤدّي في الحقيقة إلى إلغاء مبدأ العلّية رأساً؛ لأنّ حقيقة الحركة -كما سبق في الدراسات السابقة- عبارة عن التغيّر والتبدّل، فهي حدوث مستمرّ، أي: حدوث متّصل بحدوث، وكلّ مرحلة من مراحلها حدوث جديد، وتغيّر عقيب تغيّر. فإذا أمكن للحركة أن تستمرّ دون علّة، كان في الإمكان أن تحدث الحركة دون علّة، وأن توجد الأشياء ابتداءً بلا سبب؛ لأنّ استمرار الحركة يحتوي على حدوث جديد دائماً، فتحرّره من العلّة يعني تحرّر الحدوث من العلّة أيضاً.

ولأجل أن يتّضح عدم وجود مبرّر لهذه المعارضة من ناحية علمية، يجب أن نحدِّث القارئ عن قانون (القصور الذاتي) في الميكانيك الذي ارتكزت عليه المعارضة.

إنّ التفكير السائد عن الحركة قبل (غاليليو)، هو: أنها تتبع القوّة المحرّكة في مدى استمرارها وبقائها. فهي تستمرّ ما دامت القوّة المحرّكة موجودة، فإذا زالت سكن الجسم. ولكنّ الميكانيك الحديث وضع قانوناً جديداً للحركة. وفحوى هذا القانون: أنّ الأجسام الساكنة والمتحرّكة، تبقى كذلك (ساكنة أو متحرّكة) إلى أن تتعرّض لتاثير قوّة اُخرى كبرى بالنسبة لها، تضطرّها إلى تبديل حالتها.

والسند العلمي لهذا القانون هو: التجربة التي توضّح أنّ جهازاً ميكانيكياً متحرّكاً بقوّة خاصّة في شارع مستقيم، إذا انفصلت عنه القوّة المتحرّكة، فهو يتحرّك بمقدار مّا بعد ذلك، قبل أن يسكن نهائياً. ومن الممكن في هذه الحركة التي حصلت بعد انفصال الجهاز عن القوّة الخارجية المحرّكة، أن يزاد في أمدها، بتدهين آلات الجهاز، وتسوية الطريق، وتخفيف الضغط الخارجي، أو مقاومة الهواء.

غير أنّ هذه الاُمور لا شأن لها، إلاّ تخفيف الموانع عن الحركة من الاحتكاك ونحوه، فإذا استطعنا أن نضاعف من هذه المخفّفات، نضمن مضاعفة الحركة، وإذا افترضنا ارتفاع جميع الموانع، وزوال الضغط الخارجي نهائياً، كان معنى ذلك استمرار الحركة إلى غير حدّ بسرعة معيّنة، فيعرف من ذلك: أنّ الحركة إذا اُثيرت في جسم، ولم تعترضها قوّة خارجية مصادمة، تبقى بسرعة معيّنة، وإن بطلت القوّة. فالقوى الخارجية إنّما تؤثّر في تغيير السرعة عن حدّها الطبيعي، تنزل أو ترتفع بها. ولذلك كان مدى السرعة -من حيث الشدّة والضعف والبطء- يتوقّف على الضغط الخارجي الموافق أو المعاكس. وأمّا نفس الحركة واستمرارها بسرعتها الطبيعية، فلا يتوقّف ذلك على عوامل خارجية.

ومن الواضح: أنّ هذه التجربة حين تكون صحيحة، لا تعني أنّ المعلول بقي من دون علّة، ولا تعاكس القانون الفلسفي الذي ذكرناه؛ لأنّ التجربة لم توضّح ما هي العلّة الحقيقية للحركة؛ لنعرف ما إذا كانت تلك العلّة قد زالت مع استمرار الحركة. وكأنّ هؤلاء الذين حاولوا أن يدلّلوا بها على بطلان القانون الفلسفي، زعموا أنّ العلّة الحقيقية للحركة هي القوّة الخارجية المحرّكة، ولمّا كانت هذه القوّة قد انقطعت صلتها بالحركة، واستمرّت الحركة بالرغم من ذلك، فيكشف ذلك عن استمرار الحركة بعد زوال علّتها.

ولكنّ الواقع: أنّ التجربة لا تدلّ على أنّ القوّة الدافعة من خارج هي العلّة الحقيقية؛ ليستقيم لهم هذا الاستنتاج، بل من الجائز أن يكون السبب الحقيقي للحركة شيئاً موجوداً على طول الخطّ. والفلاسفة الإسلاميون يعتقدون: أنّ الحركات العرضية -بما فيها الحركة الميكانيكية للجسم- تتولّد جميعاً عن قوّة قائمة بنفس الجسم. فهذه القوّة هي المحرّكة الحقيقية، والأسباب الخارجية إنّما تعمل لإثارة هذه القوّة وإعدادها للتأثير. وعلى هذا الأساس قام مبدأ (الحركة الجوهرية)، كما أوضحناه في مقال سابق تحت عنوان "حركة التطور بين المادية والإلهية". ولسنا نستهدف الآن الإفاضة في هذا الحديث، وإنّما نرمي من ورائه إلى توضيح: أنّ التجربة العلمية التي قام على أساسها قانون (القصور الذاتي)، لا تتعارض مع قوانين العلّية، ولا تبرهن على ما يعاكسها مطلقاً.

النتيجة:

إبطال التسلسل
ولم يبقَ علينا لأجل أن نصل إلى النتيجة إلاّ أن نعطف على ما سبق (قانون النهاية)، وهو القانون القائل: إنّ العلل المتصاعدة في الحساب الفلسفي التي ينبثق بعضها عن بعض يجب أن يكون لها بداية، أي: علّة اُولى لم تنبثق عن علّة سابقة. ولا يمكن أن يتصاعد تسلسل العلل تصاعداً لانهائياً؛ لأنّ كلّ معلول -كما سبق- ليس إلاّ ضرباً من التعلّق والارتباط بعلّته، فالموجودات المعلولة جميعاً ارتباطات وتعلّقات، والارتباطات تحتاج إلى حقيقة مستقلّة تنتهي إليها. فلو لم توجد لسلسلة العلل بداية، لكانت الحلقات جميعاً معلولة، وإذا كانت معلولة فهي مرتبطة بغيرها، ويتوّجه السؤال -حينئذ- عن الشيء الذي ترتبط به هذه الحلقات جميعاً.

وفي عرض آخر: أنّ سلسلة الأسباب إذا كان يوجد فيها سبب غير خاضع لمبدأ العلّية، ولا يحتاج إلى علّة، فهذا هو السبب الأوّل الذي يضع للسلسلة بدايتها ما دام غير منبثق عن سبب آخر يسبقه. وإذا كان كلّ موجود في السلسلة محتاجاً إلى علّة -طبقاً لمبدأ العلّية- دون استثناء، فالموجودات جميعاً تصبح بحاجة إلى علّة.

ويبقى سؤال: "لماذا؟" -هذا السؤال الضروري- منصبّاً على الوجود بصورة عامة، ولا يمكن أن نتخلّص من هذا السؤال إلاّ بافتراض سبب أوّل متحرّر من مبدأ العلّية وضروري الوجود؛ فإنّنا -حينئذ- ننتهي في تعليل الأشياء إليه، ولا نواجه فيه سؤال: لماذا وجد؟ لأنّ هذا السؤال إنّما نواجهه في الأشياء الخاضعة لمبدأ العلّية خاصّة والممكنة الوجود.

فلنأخذ الغليان مثلا، فهو ظاهرة طبيعية محتاجة إلى سبب، طبقاً لمبدأ العلّية، ونعتبر سخونة الماء سبباً لها، وهذه السخونة هي كالغليان في افتقارها إلى علّة سابقة. وإذا أخذنا الغليان والسخونة كحلقتين في سلسلة الوجود، أو في تسلسل العلل والأسباب، وجدنا من الضروري أن نضع للسلسلة حلقة اُخرى؛ لأنّ كلا من الحلقتين بحاجة إلى سبب، فلا يمكنهما الاستغناء عن حلقة ثالثة، والحلقات الثلاث تواجه بمجموعها نفس المسألة، وتفتقر إلى مبرّر لوجودها ما دامت كلّ واحدة منها خاضعة لمبدأ العلّية.

وهذا هو شأن السلسلة دائماً وأبداً ولو احتوت على حلقات غير متناهية. فما دامت حلقاتها جميعاً محتاجة إلى علّة، فالسلسلة بمجموعها مفتقرة إلى سبب، وسؤال (لماذا وجد؟) يمتدّ ما امتدّت حلقاتها، ولا يمكن تقديم الجواب الحاسم عليه ما لم ينته التسلسل فيها إلى حلقة غنية بذاتها غير محتاجة إلى علّة، فتقطع التسلسل، وتضع للسلسلة بدايتها الأزليّة الاُولى، وبتعبير فلسفي دقيق: أنّ الشيء لا يوجد إلاّ إذا امتنع عليه جميع أنحاء العدم،ومن جملة انحاء العدم، عدمه بعدم جميع أسبابه، وهذا لا يمتنع إلاّ إذا كان يوجد في جملة أسبابه واجب بالذات.

وإلى هنا نكون قد جمعنا ما يكفي للبرهنة على انبثاق هذا العالم عن واجب بالذات، غني بنفسه، وغير محتاج إلى سبب؛ لأنّ هذا هو ما يحتّمه تطبيق مبدأ العلّية على العالم بموجب قوانينها السالفة الذكر؛ فإنّ العلّية بعد أن كانت مبدأً ضرورياً للكون، وكان تسلسلها اللانهائي مستحيلا، فيجب أن تطبّق على الكون تطبيقاً شاملا متصاعداً حتّى يقف عند علّة اُولى واجبة.

ولا بأس أن نشير في ختام هذا البحث إلى لون من التفكير المادّي في هذا المجال، تقدّم به بعض الكتّاب المعاصرين للردّ على فكرة السبب الأوّل أو العلّة الاُولى، فهو يقول: إنّ السؤال عن العلّة الاُولى لا معنى له، فالتفسير العلّي -أو السببي- يستلزم -دائماً- حدّين اثنين مرتبطاً أحدهما بالآخر، هما العلّة والمعلول، أو السبب والمسبّب، فعبارة (علّة اُولى) فيها تناقض في الحدود؛ إذ أنّ كلمة: (علّة) تستلزم حدّين كما رأينا، لكن كلمة: (اُولى) تستلزم حدّاً واحداً، فالعلّة لا يمكن أن تكون (اُولى) وتكون (علّة) في نفس الوقت، فإمّا أن تكون اُولى دون أن تكون علّة، أو بالعكس.

ولا أدري من قال له: إنّ كلمة: (علّة) تستلزم علّة قبلها. صحيح: أنّ التفسير السببي يستلزم -دائماً- حدّين هما: العلّة والمعلول، وصحيح: أنّ من التناقض أن نتصوّر علّة بدون معلول ناتج عنها؛ لأنّها ليست -عندئذ- علّة، وإنّما هي شيء عقيم، وكذلك من الخطأ أن نتصوّر معلولا لا علّة له، فكلّ منهما يتطلّب الآخر إلى جانبه، ولكن العلّة بوصفها علّة، لا تتطلّب علّة قبلها، وإنّما تتطلّب معلولا، فالحدّان متوفّران معاً في فرضية (العلّة الاُولى)؛ لأنّ العلّة الاُولى لها معلولها الذي ينشأ منها، وللمعلول علّته الاُولى؛ فكما لا يتطلّب المعلول دائماً معلولا ينشأ منه -إذ قد تتولّد ظاهرة من سبب ولا يتولّد عن الظاهرة شيء جديد- كذلك العلّة لا تتطلّب علّة فوقها، وإنّما تتطلّب معلولا لها.

مع أطيب التحيات والاعتذار عن الإطالة
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق