قفزات التطور والارتباط العام..

بسم الله الرحمن الرحيم

  • قفزات التطوّر
قال ستالين:

"إنّ الديالكتيك -خلافاً للميتافيزية (يقصد بها الفلسفة الإلهية)- لا يعتبر حركة التطوّر حركة نموّ بسيطة، لا تؤدّي التغييرات الكمّية فيها إلى تغيّرات كيفية، بل يعتبرها تطوّراً ينتقل من تغيّرات كمّية ضئيلة وخفيّة إلى تغيّرات ظاهرة وأساسية، أي: إلى تغيّرات كيفية. وهذه التغيّرات الكيفية ليست تدريجية، بل هي سريعة فجائية، وتحدث بقفزات من حالة إلى اُخرى. وليست هذه التغيّرات جائزة الوقوع، بل هي ضرورية، وهي نتيجة تراكم تغيّرات كمّية غير محسوسة، وتدريجية. ولذلك تعتبر الطريقة الديالكتيكية أنّ من الواجب فهم حركة التطوّر لا من حيث هي حركة دائريه، أو تكرار بسيط للطريق نفسه، بل من حيث هي حركة تقدّمية صاعدة، وانتقال من الحالة الكيفية القديمة إلى حالة كيفية جديدة".

ولعل هذا هو أوضح تفسير فلسفي لنظرية التطور الدارونية، بمعنى أن هذا الكلام من ستالين هو أوضح بيان فلسفي للنظرية العلمية بدل التفسيرات بالعشوائية والصدف التراكمية التي نظّر لها داوكنز.

يقرّر الديالكتيك في هذا الخطّ: أنّ التطوّر الديالكتي للمادّة لونان: (1) أحدهما تغيّر كمّي تدريجي، يحصل ببطء، (2) والآخر تغيّر نوعي فجائي، يحصل بصورة دفعية، نتيجةً للتغيّرات الكمّية المتدرّجة، بمعنى: أنّ التغيّرات الكمّية -حين تبلغ نقطة الانتقال- تتحوّل من كمّية إلى كيفية جديدة.

وليس هذا التطوّر الديالكتي حركة دائرية للمادّة، ترجع فيها إلى نفس مبدئها، بل هي حركة تكاملية صاعدة أبداً ودائماً لا إلى نهاية.

وحين يُعترض على المادية هنا: بأنّ الطبيعة قد تتحرّك حركات دائرية، كما في بذرة الثمرة التي تتطوّر إلى شجرة، ثمّ تعود بالتالي إلى ثمرة كما كانت.

تجيب: بأنّ هذه الحركة هي -أيضاً- تكاملية، وليست دائرية كالحركات التي يرسمها الفرجال، غير أنّ مردّ التكامل فيها إلى الناحية الكمّية لا الكيفية، فالثمرة وإن عادت في نهاية شوطها الصاعد ثمرة أيضاً، غير أنها تكاملت تكاملا كمّياً؛ لأنّ الشجرة -التي انبثقت عن ثمرة واحدة- أفرعت عن مئات الثمرات، فلم يتحقّق رجوع للحركة أبداً.

وقبل كلّ شيء يجب أن نلاحظ الهدف الكامن وراء هذا الخطّ الديالكتي الجديد. فإنّ المنطق المادي يضع الخطّة العملية للتطوير السياسي المطلوب، ثمّ يفتّش عن المبرّرات المنطقية والفلسفية لتلك الخطّة، ومن أوضح مصاديقه في زماننا نظرية الفوضى الخلاقة الذي أتحفتنا به كوندي رايس لخلق شرق أوسط كبير، نعود لنقول ما هو التصميم الذي اُنشئ هذا القانون الديالكتي لحسابه؟

ومن الميسور جداً الجواب على هذا السؤال؛ فإنّ المادية رأت أنّ الشيء الوحيد الذي يشقّ الطريق إلى سيطرتها السياسية، أو إلى السيطرة السياسية للمصالح التي تتبنّاها، هو: الانقلاب أو التغيير باستخدام العنف الداخلي والخارجي. فذهبت تفحص عن مستمسك فلسفي لهذا الانقلاب، فلم تجده في قانوني الحركة والتناقض؛ لأنّ هذين القانونين إنّما يحتّمان على المجتمع أن يتطوّر تبعاً للتناقضات المتوحّدة فيه. وأمّا طريقة التطوّر ودفعيّته فلا يكفي مبدأ الحركة التناقضية لإيضاحها. ولذلك صار من الضروري أن يوضع قانون آخر ترتكز عليه فكرة الانقلاب. وكان هذا القانون هو: قانون قفزات التطوّر القائل بتحوّلات دفعية للكمّية إلى كيفية. وعلى أساس هذا القانون لم يعدِ الانقلاب جائزاً فحسب، بل يكون ضرورياً وحتمياً بموجب القوانين الكونية العامّة.

فالتغيّرات الكمّية التدريجية في المجتمع تتحوّل بصورة انقلابية في منعطفات تأريخية كبرى إلى تغيّر نوعي، فيتهدّم الشكل الكيفي القديم للهيكل الاجتماعي العامّ، ويتحوّل إلى شكل جديد.

هكذا يصبح من الضروري -لا من المستحسن فقط- أن تنفجر تناقضات البناء الاجتماعي العام عن مبدأ انقلابي جارف، تُقصى فيه الطبقة المسيطرة سابقاً التي أصبحت ثانوية في عملية التناقض، ويحكم بإبادتها؛ ليفسح مجال السيطرة للنقيض الجديد الذي رشّحته التناقضات الداخلية؛ ليكون الطرف الرئيسي في عملية التناقض. ولعلنا نعيش الآن أمثلة واضحة جدا لمثل هذه التحولات الجذرية في المجتمعات والتي خلقتها لنا المادية على مر القرن السابق، فلو أخذنا منطق الغرب في تحولاته، لوجدناه تحرك من انقلابات إلى احتلال إلى غزو، إلى خلق أعداء وهميين للسيطرة على الشعوب، وبالتالي نتج عندنا فكر أبدع شتى أنواع الطرق للقتل وإراقة الدماء في العالم.

قال (ماركس وأنجلز):

"ولا يتدنّى الشيوعيون إلى إخفاء آرائهم، ومقاصدهم، ومشاريعهم، بل يعلنون صراحة: أنّ أهدافهم لا يمكن بلوغها وتحقيقها إلاّ بهدم كلّ النظام الاجتماعي التقليدي بالعنف والقوّة".

وهذا النص إنما يكشف لنا عن التوجه المادي بصرف النظر عن كونه ماركسيا أو رأسماليا، فإننا نجد أن هذا النص يتحرك بموجبه النظام الرأسمالي وكأنه يحكي واقعه، مع أنه وضع في الأساس للإنقلابات الماركسية في وقت لم يكن للرأسمالية طموح عالمي. فيطرح هذا السؤال نفسه: هل تجدون أي فرق بين المادية الماركسية قبل 50 عاما، والمادية الرأسمالية الآن؟ كلاهما يسعى للسيطرة وسحق الشعوب، وكلاهما يسعى للمصالح الشخصية، وكل منهما يطرح شعارات زائفة براقة، سابقا كانت الشماعة هي الطبقة الكادحة والفقيرة، والآن أصبحت الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان! فالمادية هي المادية..

وقال (لينين):

"إنّ الثورة البروليتارية غير ممكنة بدون تحطيم جهاز الدولة البورجوازي بالعنف".

  • الارتباط العامّ
قال ستالين:

"إنّ الديالكتيك -خلافاً للميتافيزية (المقصود منها كما ألمعنا آنفا بالفلسفة الإلهية)- لا يعتبر الطبيعة تراكماً عرضياً للأشياء، أو حوادث بعضها منفصل عن بعض، أو أحدهما منعزل مستقلّ عن الآخر، بل يعتبر الطبيعة كلا واحداً متماسكاً، تربط فيه الأشياء والحوادث فيما بينها ارتباطاً عضوياً، ويتعلّق أحدها بالآخر، ويكون بعضها شرطاً لبعض بصورة متقابلة".

  • الاتهام المادي للفلسفة الإلهية
فالطبيعة بأجزائها المتنوّعة لا يمكن أن تُدرَس على الطريقة الديالكتيكية حال فصل بعضها عن الآخر، وتجريده عن ظروفه وشروطه، وعمّـا يرتبط بواقعه من ماض وحاضر، كما هو شأن الإلهية التي لا تنظر إلى الطبيعة باعتبارها شبكة ارتباط واتّصال، بل نظرة تجريدية خالصة. فكلّ حادثة لا يكون لها معنىً في المفهوم الديالكتي، إذا عُزِلت عن الحوادث الاُخرى المحيطة بها، ودُرِست بصورة تجريدية.

  • الجواب والمعالجة
والواقع: أنه لو كان يكفي لإسقاط فلسفة ما إلصاق التهم بها دون مبرّر، لكانت الاتّهامات التي يكيلها الفكر المادي للإلهية، كافية لدحضها، وتفنيد نظرتها الانعزالية إلى الطبيعة، المناقضة لروح الارتباط المكين بين أجزاء الكون. ولكن لتقل لنا المادية: مَن كان يشكّ في هذا الارتباط؟! وأيّ فلسفة إلهية هذه التي لا تقرّه، إذا اُفرزت منه نقاط الضعف التي تمثّل الطابع الديالكتي له، واُقيم على أساس فلسفي متين من مبدأ العلّية وقوانينها (سنبحث قانون العلية بالتفصيل لاحقا)؟!

فإنّ الحوادث في النظرة العامة للكون، لا تعدو أحد أشكال ثلاثة:
  1. فإمّا أن تكون مجموعة من الصدف المتراكمة، بمعنى: أنّ كلّ حادثة توجد باتّفاق بحت دون أن تكون هناك أيّ ضرورة تدعو إلى وجودها. وهذه هي النظرة الاُولى. وهذا هو الانتخاب الطبيعي والطفرات العشوائية التي فسرت على أساسها نظرية دارون في التطور. وقد ناقشنا هذا الخط في مقالين مستقلين تحت عنوان: ريتشارد داوكنز وورطة الانتخاب الطبيعي، تحت صفحة نقد فكر الملحدين.
  2. وإمّا أن تكون أجزاء الطبيعة ضرورية، ضرورة ذاتية، فكلّ واحد منها يوجد بسبب من ضرورته الذاتية دون احتياج إلى شيء خارجي، أو تأثّر به. وهذه هي النظرة الثانية. أي أن رصيد الحركة هو رصيد داخلي في المادة، والمادة لا تحتاج إلى محرك خارجي لتتكامل وتتطور.
  3. وكلتا هاتين النظرتين لا تنسجمان مع مبدأ العلّية القائل: إنّ كلّ حادثة ترتبط في وجودها بأسبابها، وشروطها الخاصّة؛ لأنّ هذا المبدأ يرفض الصدفة والاتّفاق، كما يرفض الضرورة الذاتية للحوادث. وبالتالي يعيّن نظرة اُخرى نحو العالم، وهي النظرة التي يعتبر فيها العالم مرتبطاً ارتباطاً كاملا طبقاً لمبدأ العلّية وقوانينها، ويحتلّ كلّ جزء منه موضعه الخاصّ من الكون الذي تحتّمه شرائط وجوده وقافلة أسبابه. وهذه هي النظرة الثالثة التي تقيم الإلهية على أساسها فهمها للعالم. ولأجل ذلك كان سؤال: لماذا وجد؟ أحد الأسئلة الأربعة التي يعتبر المنطق الإلهي الإحاطة العلمية بشيء، مرهونة بمدى الجواب عليها.
والأسئلة الأربعة هي كما يلي: ما هو؟ وهل هو موجود؟ وكيف هو؟ ولماذا وجد؟ ولأجل الإيضاح نطبّق هذه الأسئلة على إحدى الظواهر الطبيعية. فلنأخذ الحرارة لمواجهة هذه الأسئلة فيها: ما هي الحرارة؟ ونعني بهذا السؤال: محاولة شرح مفهومها الخاصّ، فنجيب على ذلك -مثلا-: أنّ الحرارة صورة من صور الطاقة.

وهل الحرارة موجودة في الطبيعة؟ ونجيب بالإيجاب طبعاً.

وكيف هي، أي: ما هي ظواهرها وخواصّها؟ وهذا ما تجيب عنه الفيزياء، فيقال -مثلا- بأنّ من خواصّها التسخين، والتمديد، والتقليص، وتغيير بعض الصفات الطبيعية للمادّة...

وأخيراً فلماذا وجدت الحرارة؟ ومردّ هذا السؤال إلى الاستفهام، عن عوامل الحرارة وعللها، والشروط الخارجية التي ترتبط بها، فيجاب عنه -مثلا- أنّ الطاقة الحرارية تستوردها الأرض من الشمس، وتنبثق عنها...

وبهذا تعرف: أنّ المنطق الإلهي وضع مسألة ارتباط الشيء بأسبابه وظروفه في مصاف المسائل الرئيسية الاُخرى التي تتناول حقيقته ووجوده وخواصّه.

فهذا يعني بكلّ وضوح: أنّ الميتافيزيقية لا تقرّ مطلقاً إمكان عزل الحادثة عن محيطها وشروطها، وتجميد السؤال عن علاقاتها بالحوادث الاُخرى.

فليس الاعتقاد بالارتباط العام وقفاً على المنطق المادي، بل هو ممّـا تؤدّي إليه حتماً الاُسس الفلسفية التي شيّدتها الإلهية في بحوث العلّية وقوانينها. وقد بينا في مقال سابق أن الواقعية التي تقرها الفلسفة الإلهية والذي تبحث عنه الفلسفة المادية هي الدافع وراء البحث عن ارتباط الكون ببعضه البعض، وهو ما نجحت الفلسفة الإلهية بالعثور عليه، وفشلت المادية في ذلك بالمقابل.

  • من أين تبدأ العلوم
وأمّا مخطّطات هذا الارتباط القائم بين أجزاء الطبيعة، والكشف عن تفاصيله وأسراره، فذلك ما توكله الإلهية إلى العلوم على اختلاف ألوانها؛ فإنّ المنطق الفلسفي العام للعالم إنّما يضع الخطّ العريض، ويقيم نظريته الارتباطية على ضوء العلّية وقوانينها الفلسفية. ويبقى على العلم بعد ذلك: أن يشرح التفاصيل في الميادين التي تتّسع لها الوسائل العلمية، ويوضّح الألوان الواقعية للارتباط، وأسرارها، ويضع فيها النقاط على الحروف.

وإذا أردنا أن ننصف المنطق المادي والإلهي حقّهما معاً، كان علينا أن نسجّل: أنّ الشيء الجديد الذي جاء به المنطق المادي، ليس هو نفس قانون الارتباط العام الذي سبقت إليه الإلهية بطريقتها الخاصّة، والذي هو في نفس الوقت واضح لدى الجميع، وليس موضع النقاش، وإنّما سبقت الماركسية إلى الأغراض السياسية، أو بالأحرى إلى التطبيقات السياسية الخاصّة لذلك القانون، التي توفّر لها إمكان تنفيذ خططها وخرائطها. فنقطة الابتكار تتّصل بالتطبيق، لا بالقانون من حيث وجهته المنطقية والفلسفية.

ولنقرأ بهذه المناسبة ما سجّله الكاتب الماركسي (أميل برنز) عن الارتباط في المفهوم الماركسي؛ إذ كتب يقول:

"إنّ الطبيعة أو العالم، وبضمنه المجتمع الإنساني، لم تتكوّن من أشياء متمايزة مستقلّة تمام الاستقلال عن بعضها البعض. وكلّ عالم يعرف ذلك، ويجد صعوبة قصوى في تحديد التقديرات، حتّى لأهمّ العوامل التي قد تؤثّر في الأشياء الخاصّة التي يدرسها. إنّ الماء ماء، ولكن إذا زيدت حرارته إلى درجة معيّنة، تحوّل إلى بخار، وإذا انخفضت حرارته، استحال ثلجاً. كما أنّ هناك عوامل اُخرى تؤثّر عليه. ويدرك كلّ شخص عامي أيضاً إذا ما خبر الأشياء أنه لا يوجد شيء مستقلّ بذاته كلّ الاستقلال، وأنّ كلّ شيء يتأثّر بالأشياء الاُخرى".

"وقد يبدو هذا الترابط بين الأشياء بديهياً إلى درجة لا يظهر معها أيّ سبب لإلفات النظر إليه، ولكنّ الحقيقة هي: أنّ الناس لا يدركون الترابط بين الأشياء دائماً، ولا يدركون أنّ ما هو حقيقي في ظروف معيّنة، قد لا يكون حقيقياً في ظروف اُخرى، وهم دائماً يطبّقون أفكاراً تكوّنت في ظروف خاصّة على ظروف اُخرى، تختلف عنها تمام الاختلاف. وخير مثل يمكن أن يضرب في هذا الصدد، هو وجهة النظر حول حرّية الكلام. إنّ حرّية الكلام بصورة عامة تخدم الديموقراطية، وتفيد إرادة الشعب في الإعراب عن نفسها، ولذلك فهي مفيدة لتطوّر المجتمع، ولكن حرّية الكلام للفاشية (المبدأ الأوّل الذي يحاول قمع الديموقراطية)، أمر يختلف كلّ الاختلاف؛ إذ أنه يوقف تطوّر المجتمع. ومهما تكرّر النداء بحرّية الكلام، فإنّ ما يصحّ عنه في الظروف الاعتيادية بالنسبة للأحزاب التي تهدف إلى الديموقراطية، لا يصحّ بالنسبة للأحزاب الفاشية".

هذا النصّ الماركسي يعترف بأنّ الارتباط العام مفهوم لكلّ عالِم، بل كلّ عامي خبر الأشياء على حدّ تعبير (أميل برنز)، وليس شيئاً جديداً في الفهم البشري العام. وإنّما الجديد الذي استهدفته الماركسية هو تكميم أفواه الأحزاب الفاشيّة أو الأحزاب التي تصفها الماركسيّة بذلك؛ نظراً إلى مدى الارتباط الوثيق بين مسألة حرّية الكلام، والمسائل الاُخرى التي تدخل في حسابها. وهو تماما ما يحصل الآن باسم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان!! فقتل امرئ في غابة جريمة لا تغتفر، وقتل شعب كامل مسألة فيها نظر، تبا لزمن نكبة الموازين والحضارة المادية.

ونظير ذلك عدّة تطبيقات اُخرى من هذا القبيل، يمكننا أن نجدها في جملة من النصوص الماركسية الاُخرى، فأين الكشف المنطقي الجبّار للمنطق المادي؟!

  • نقطتان حول الارتباط العامّ:
ومن الضروري أن نشير في سياق الحديث عن نظرية الارتباط العام في المنطق الإلهي إلى نقطتين مهمّتين:

(1) النقطة الاُولى: أنّ ارتباط كلّ جزء من أجزاء الطبيعة والكون بما يتّصل به من أسباب، وشرائط، وظروف -في المفهوم الإلهي- لا يعني عدم إمكان ملاحظته بصورة مستقلّة، ووضع تعريف خاصّ به، ولذلك كان التعريف أحد المواضيع التي يبحثها المنطق الإلهي. وأكبر الظنّ أنّ ذلك هو الذي بعث المنطق المادي إلى اتّهام المنطق الإلهي بأنه لا يؤمن بالارتباط العام، ولا يدرس الكون على ذلك الأساس؛ إذ وجدت الإلهي يأخذ الشيء الواحد، فيحاول تحديده وتعريفه بصورة مستقلّة عن سائر الأشياء الاُخرى، فخيّل بسبب ذلك أنه لا يقرّ بوجود الارتباط بين الأشياء، ولا يتناولها بالدرس إلاّ في حال عزل بعضها عن الآخر. فكأنه حين عرّف الإنسانية بأنها: حياة وفكر، وعرّف الحيوانية، بأنها: حياة وإرادة، قد عزل الإنسانية أو الحيوانية عن ظروفهما وملابستهما، ونظر إليهما نظرة مستقلّة.

ولكن الواقع: أنّ التعريفات التي درج المنطق الميتافيزي على إعطائها لكلّ شيء بصورة خاصّة، لا تتنافى مطلقاً مع المبدأ القائل بالارتباط العام بين الأشياء، ولا يقصد منه التفكيك بين الأشياء، والاكتفاء من دراستها بإعطاء تلك التعريفات الخاصّة لها. فنحن حين نعرّف الإنسانية بأنها: حياة وفكر، لا نرمي من وراء ذلك إلى إنكار ارتباط الإنسانية بالعوامل والأسباب الخارجية، وإنّما نقصد بالتعريف: أن نعطي فكرة للشيء الذي يرتبط بتلك العوامل والأسباب؛ ليتاح لنا أن نبحث عمّـا يتّصل به من عوامل وأسباب. وحتّى المنطق المادي نفسه يتّخذ التعريف اُسلوباً لتحقيق هذا الهدف نفسه، فهو يعرّف الديالكتيك، ويعرّف المادّة... فقد عرّف لينين الديالكتيك بأنه:

"علم القوانين العامّة للحركة".

وعرّف المادّة بأنها:

"هي الواقع الموضوعي المعطى لنا في الإحساس".

أفيكون من مفهوم هذه التعاريف أنّ لينين فصل الديالكتيك عن سائر أجزاء المعرفة البشرية من العلوم، ولم يعتقد باتّصالها به؟! وأنه نظر إلى المادّة بصورة تجريدية، ودرسها متغاضياً عمّـا فيها من ارتباطات وتفاعلات؟! كلاّ؛ فإنّ التعريف لا يعني في كثير أو قليل، تخطّي الارتباط القائم بين الأشياء وإهماله، وإنّما يحدّد لنا المفهوم الذي نحاول الكشف عن روابطه وعلاقاته المتنوّعة؛ ليسهل علينا التحدّث عن تلك الروابط والعلاقات ودرسها.

(2) النقطة الثانية: أنّ الارتباط بين أجزاء الطبيعة لا يمكن أن يكون دورياً. ونقصد بذلك: أنّ الحادثتين المرتبطتين -كالسخونة والحرارة- لا يمكن أن تكون كلّ منهما شرطاً لوجود الحادثة الاُخرى. فالحرارة لمّا كانت شرطاً لوجود الغليان، فلا يمكن أن يكون الغليان شرطاً لوجود الحرارة أيضاً.

فلكلّ جزء من الطبيعة -في سجلّ الارتباط العامّ- درجته الخاصّة التي تحدّد له ما يتّصل به من شرائط تؤثّر في وجوده، ومن ظواهر يؤثّر هو في وجودها. وأمّا أن يكون كلّ من الجزئين أو الحادثين سبباً لوجود الآخر، ومديناً له بوجوده في نفس الوقت، فذلك يجعل الارتباط السببي دائرياً يرجع من حيث بدأ وهو غير معقول.

وأخيراً، فلنقف لحظة عند (أنجلز) وهو يتحدّث عن الارتباط العامّ، وتضافر البراهين العلمية عليه قائلا:

"على أنّ ثمّة اكتشافات ثلاثة بوجه خاصّ قد تقدّمت بخطوات العمالقة بمعرفتنا، لترابط العمليات التطوّرية الطبيعية:

أوّلا: اكتشاف الخلية (والحمض النووي)، بصفتها الوحدة التي تنمو منها العضوية النباتية والحيوانية كلّها بطريق التكاثر والتمايز، بحيث لم نعرف بأنّ تطوّر سائر العضويات العليا ونحوها، يتتابعان وفق قانون عام فحسب، بل إنّ قدرة الخلية كذلك على التحوّل، تبيّن الطريق الذي تستطيع العضويات بمقتضاه أن تغيّر أنواعها، فتجتاز بذلك تطوّراً أكثر من أن يكون فردياً.

ثانياً: اكتشاف تحوّل الطاقة (قانون حفظ الطاقة) الذي يبيّن أنّ سائر القوى المؤثّرة أوّلا في الطبيعة غير العضوية... يبيّن لنا أنّ هذه القوى بمجموعها هي ظواهر مختلفة للحركة الكلّية، تمرّ كلّ منها إلى الاُخرى بنسب كمّية معيّنة..

وأخيراً البرهان الشامل الذي كان (داروين) أوّل من جاء به (نظرية التطور)، والذي ينصّ على أنّ جملة ما يحيط بنا في الوقت الحاضر من منتجات الطبيعة بما في ذلك البشر إن هي إلاّ نتائج عملية طويلة من التطوّر".

والواقع: أنّ الاكتشاف الأوّل هو من الكشوف العلمية التي انتصرت فيها الفلسفة الإلهية؛ لأنّه برهن على أنّ مبدأ الحياة هو الخلية الحيّة، فأزاح بذلك الوهم القائل بإمكان قيام الحياة في أيّ مادّة عضوية تتوفّر فيها عوامل مادّية خاصة، ووضع حدّاً فاصلا بين الكائنات الحيّة وغيرها؛ نظراً إلى أنّ الحمض النووي مبدأ الحياة العضوية، هو وحده الذي يحمل سرّه العظيم. فاكتشاف الخلية الحية في نفس الوقت الذي دلّنا على أصل واحد للأجسام الحيّة، دلّنا أيضاً على مدى البون بين الكائن الحيّ وغيره.

وأمّا الاكتشاف الثاني فهو الآخر أيضاً يُعدّ ظفراً عظيماً للمنطق الإلهي؛ لأنّه يثبت بطريقة علمية: أنّ جميع الأشكال التي تتّخذها الطاقة بما فيها الصفة المادّية هي صفات وخصائص عرضية، فتكون بحاجة إلى سبب خارجي، كما سنوضّح ذلك في بحث لاحق. أضف إلى ذلك: أنّ الاكتشاف المذكور يتعارض مع قوانين الديالكتيك؛ لأنّه يفترض للطاقة كمّية محدودة ثابتة لا تخضع للحركة الديالكتيكية، التي يزعم المنطق المادي صدقها على جميع جوانب الطبيعة وظواهرها، وإذا أثبت العلم استثناء جانب في الطبيعة من قوانين الديالكتيك، فقد زالت ضرورته وصفته القطعية.

وأمّا نظرية (داروين) عن تطوّر الأنواع وخروج بعضها من بعض، فهي لا تتّفق أيضاً مع قوانين الديالكتيك، ولا يمكن أن تُتّخذ سنداً علمياً للطريقة الديالكتيكية في تفسير الأحداث؛ فإنّ داروين وبعض المساهمين معه في بناء النظرية وتعديلها، يفسّرون تطوّر نوع إلى نوع آخر على أساس ما يظفر به أفراد النوع القديم من ميزات وخصائص عن طريق صدف ميكانيكية متراكمة أو أسباب خارجية محدّدة تتمثل في العوامل كالبيئة والمحيط، وكلّ ميزة يحصل عليها الفرد تظلّ ثابتة فيه، وتنتقل بالوراثة إلى أبنائه، وبذلك ينشأ جيل قوي بفضل هذه الميزات المكتسبة، وهذا ما يتمثل في الطفرات الجينية العشوائية.

وفي خضمّ الصراع في سبيل والبقاء بين الأقوياء من هذا الجيل، وبين الضعاف من أفراد النوع الذين لم يظفروا بمثل تلك الميزات، يعمل قانون تنازع البقاء عمله، أي يأتي دور الانتخاب الطبيعي، فيفنى الضعيف ويبقى الأفراد الأقوياء، وتتجمّع المزايا عن طريق توريث كلّ جيل مزاياه التي حصل عليها بسبب ظروفه وبيئته التي عاشها للجيل الذي يتلوه، وهكذا حتّى ينشأ نوع جديد يتمتّع بمجموع المزايا التي اكتسبها أسلافه على مرّ الزمن.

ونحن بغض النظر عن نقدنا لمبدأ الانتخاب الطبيعي وفشله في تقديم تفسير علمي معقول للتطور، نستطيع أن ندرك بوضوح مدى التناقض بين نظرية داروين هذه، وبين الطريقة الديالكتية العامة.

فهناك الطابع الميكانيكي للنظرية يبدو بوضوح من خلال تفسير داروين لتطوّر الحيوان بأسباب خارجية، فالميزات والفروق الفردية التي يحصل عليها الجيل القوي من أفراد النوع ليست نتيجة لعملية تطوّرية ولا ثمرة لتناقض داخلي، وإنّما هي وليدة مصادفة ميكانيكية أو عوامل خارجية من البيئة والمحيط، فالظروف الموضوعية التي عاشها الأفراد الأقوياء هي التي أمدّتهم بعناصر قوّتهم وميّزتهم عن الآخرين لا الصراع الداخلي في الأعماق كما يفترض الديالكتيك.

كما أنّ الميزة التي يحصل عليها الفرد بطريقة ميكانيكية، أي: بأسباب خارجية من الظروف التي يعيشها لا تتطوّر بحركة ديناميكية وتنمو بتناقض داخلي حتّى تُحوّل الحيوان إلى نوع جديد، وإنّما تظلّ ثابتة، وتنتقل بالوراثة دون أن تتطوّر، وتبقى بشكل تغيّر بسيط ساكن، ثمّ تضاف إلى الميزة السابقة ميزة اُخرى تتولّد هي الاُخرى أيضاً ميكانيكياً بسبب الظروف الموضوعية، فيحصل تغيّر بسيط آخر، وهكذا تتولّد الميزات بطريقة ميكانيكية، وتواصل وجودها في الأبناء عن طريق الوراثة وهي ساكنة ثابتة، وحين تتجمّع يتكوّن منها أخيراً الشكل الأرقى للنوع الجديد.

وهناك أيضاً فرق كبير بين قانون تنازع البقاء في نظرية داروين، وفكرة الصراع بين الأضداد في الديالكتيك؛ فإنّ فكرة الصراع بين الأضداد عند الديالكتيكيين تعبّر عن صراع بين ضدّين يسفر في النهاية عن توحّدهما في مركّب أعلى وفقاً لثالوث الاُطروحة والطباق والتركيب. ففي صراع الطبقات مثلا تشبّ المعركة بين الضدّين في المحتوى الداخلي للمجتمع، وهما الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة، وينتهي الصراع بامتصاص الطبقة العاملة للطبقة الرأسمالية، وتوحّد الطبقتين معاً في مجتمع لاطبقي، كلّ أفراده يملكون ويعملون.

وأمّا تنازع البقاء والصراع بين القوي والضعيف في نظرية داروين، فهو ليس صراعاً ديالكتيكياً؛ لأنّه لا يسفر عن توحّد الأضداد في مركّب أرقى، وإنّما يؤدّي إلى إفناء أحد الضدّين والاحتفاظ بالآخر، فهو يزيل الضعاف من أفراد النوع إزالة نهائية ويبقي الأقوياء، ولا ينتج مركّباً جديداً يتوحّد فيه الضعفاء والأقوياء، الضدّان المتصارعان كما يفترض الديالكتيك في ثالوث الاُطروحة والطباق والتركيب.

وإذا طرحنا فكرة تنازع البقاء أو قانون الانتخاب الطبيعي بوصفها تفسيراً لتطوّر الأنواع، واستبدلناها بفكرة الصراع بين الحيوان والبيئة الذي يكيّف الجهاز العضوي وفقاً لشروط البيئة، وقلنا: إنّ الصراع بين الحيوان والبيئة بدلا عن الصراع بين القوي والضعيف هو رصيد التطوّر كما قرّره (روجيه غارودي)، أقول: إذا طوّرنا النظرية وفسَّرنا تطوّر الأنواع في ضوء الصراع بين البيئة والحيوان، فسوف لن نصل إلى نتيجة ديالكتيكية أيضاً؛ لأنّ الصراع بين البيئة والجهاز العضوي لا يسفر عن التحامهما وتوحّدهما في مركّب أرقى، وإنّما تظلّ الاُطروحة والطباق دون تركيب. فالضدّان المتصارعان هنا البيئة والحيوان وإن كانا موجودين معاً في نهاية المعركة، ولا يضمحلّ أحدهما خلال الصراع، ولكنّهما لا يتوحّدان في مركّب جديد كما تتوحّد الطبقة الرأسمالية والطبقة العاملة في مركّب اجتماعي جديد.

وأخيراً، فأين الدفعية؟ وأين التكامل في التطوّر البيولوجي عند داروين؟ فإنّ الديالكتيك يؤمن بأنّ التحوّلات الكيفية تحصل بصورة دفعية خلافاً للتغيّرات الكمّية التي تنمو ببطء، كما أنه يؤمن أنّ الحركة في اتّجاه متكامل وصاعد دائماً، ونظرية داروين أو فكرة التطوّر البيولوجي تبرهن على إمكان العكس تماماً، فقد بيّن علماء البيولوجيا: بأنّ في الطبيعة الحيّة حالات انتقال تدريجية، كما أنّ فيها حالات انتقال بشكل قفزات مفاجئة كما أنّ التفاعل الذي يحدّده داروين بين الكائن الحيّ والطبيعة ليس من الضروري فيه أن يضمن تكامل الكائن المتطوّر، بل قد يفقد بسبب ذلك شيئاً ممّـا كان قد حصل عليه من الكمال طبقاً للقوانين التي يحدّدها في نظريّته للتفاعل بين الحياة والطبيعة، كالحيوانات التي اضطرّت منذ أبعد الآماد إلى العيش في الكهوف وترك حياة النور، ففقدت بصرها في رأي داروين بسبب تفاعلها بمحيطها الخاصّ، وعدم استعمالها لعضو الإبصار في مجالاتها المعيشية، وبذلك أدّى التطوّر في التركيب العضوي إلى الانحطاط، خلافاً للمنطق المادي الذي يعتقد أنّ العمليات التطوّرية المترابطة في الطبيعة المنبثقة عن تناقضات داخلية تستهدف التكامل دائماً؛ لأنّها عمليات تقدّمية صاعدة.

مع التحيات
ليث

هناك تعليق واحد:

  1. أفضل وأرتب شرح لقانون التناقض، شكراً لك.

    ردحذف