الحلقة الأولى - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

من السمات البارزة التي تميزت بها الفلسفة الغربية في القرون الأخيرة إسهاماتها في مجال نظرية المعرفة وأعني بها تناول مصادر المعرفة ومنابعها الأساسية بالبحث والدرس ومحاولة استكشاف الأساسات النظرية للكيان الفكري الذي تملكه البشرية والإجابة بذلك عن هذا التساؤل: كيف نشأت المعرفة عند الإنسان وكيف تكونت حياته العقلية بكل ما تحتويه به من أفكار ومفاهيم وما هو المصدر الذي يمد الإنسان بهذا الكم من الفكر والإدراك، وكيف تنمو المعرفة وتترقى؟

وتنبع أهمية هذا البحث من خلال أنه يؤسس للرؤى الكونية التي يملكها الإنسان عن الوجود بمفرداته الأساسية: الله، العالم، الإنسان، والتي تنبثق منها الأيدلوجيات المتعددة، بكلمة أخرى: إن اختلاف الأيدلوجيات في المجتمعات البشرية والتي أدت إلى اختلافهم في الأهداف والغايات التي ينبغي الوصول إليها وكذلك في الوسائل المؤدية لتحقيق تلك الغايات إنما تنتج من تعدد الرؤى الكونية التي تنطلق منها هذه الأيدلوجيات لكن سلسلة هذه التساؤلات لا تقف عند هذا الحد وإنما يطرح تساؤل أخر هو:

لماذا اختلفت الرؤى الكونية فيما بينها؟ والجواب: إن ذلك ينبع من المناهج المعرفية التي اتبعتها المدارس الفكرية المختلفة لاستكشاف حقائق هذا العالم، وبهذا نقف على الدور الأساسي الذي تلعبه نظرية المعرفة في الكشف عن الرؤى الكونية.

والمتتبع لهذا النوع من البحث قد لا يجد له عنوانا خاصا في كلمات كثير من علماء المسلمين، إلا أن هذا لا يعني عدم امتداد بحوثهم لطرح مسائل نظرية المعرفة متفرقة هنا وهناك، وهذا ما نجده في أبواب مختلفة من أبحاثهم الفلسفية والكلامية والأصولية، فعلى سبيل المثال نجد أن البحث الأصولي عرض لهذا المجال بشكل عميق وواسع من خلال البحث الذي دار بين الإخباريين والمجتهدين والذي كان وما يزال ينتِج أفكارا جديدة في هذا الحقل.

محاولة الشهيد محمد باقر الصدر في كتابه الأسس المنطقية للاستقراء:

تعرض الشهيد الصدر ضمن أبحاثه الأصولية لدى مناقشته الإخباريين، تعرض لمدى حجية البراهين العقلية و نمط التفكير المنطقي الأرسطي، وقام بنقده بطريقة مبتكرة، وبعد ذلك طور من تلك الأبحاث النقدية وأكملها وأضاف إليها ما لم يكن يتناسب ذكره ضمن الأبحاث الأصولية، فأخرجها باسم كتاب "الأسس المنطقية للاستقراء"، وهذا ما أكده في تقريرات بحثه الأصولي حيث قال: "إن طريقة تولد المعارف البشرية حسبما يصورها المنطق الصوري أن الفكر يسير دائما من معارف أولية ضرورية هي أسس المعرفة البشرية إلى استنباط معارف نظرية جديدة بطريق البرهان والقياس التي يحدد صورتها علم المنطق، فأي خطأ يفترض إن كان في صورة القياس، فعلم المنطق هو عاصم منه، وان كان في مادة القياس فان كانت المادة أولية فلا محالة تكون مستنتجة من برهان وقياس فينقل الكلام إليه حتى ينتهي إلى خطأ يكون في الصورة لأن المعارف الأولية لا خطأ فيها بحسب الفرض؛ لكونها ضرورية، وقد اصطلح عليها في الفكر البشري بمدركات العقل الأول وعلى المعارف المستنتجة منها بمدركات العقل الثاني. إلا أن هذا التصور غير صحيح ومن هنا يطرح الشهيد الصدر نظرية جديدة في المعرفة يعالج على ضوئها مشكلة الاستقراء ويعالج مستعينا بها الكثير من قضايا المنطق والمنهج الحديث وقد أطلق على هذه النظرية اسم المذهب الذاتي في المعرفة والذي من أهم مقومات هذا المذهب في مرحلته الأولى (التوالد الموضوعي) هو الاعتماد على نظرية الاحتمال، وليس يخفى على أحد أن هذه النظرية التي اعتمدها الشهيد الصدر في منهجه المعرفي الجديد كان قد بزغ نورها في بداية القرن العشرين على يد فلاسفة غربيين، حيث نجد أن البحث عن نظرية الاحتمال بدأ يأخذ إلى جانب بعده الرياضي بعدا فلسفيا منطقيا، فبين العامين (1910م و1913م) ظهرت بوادر العمل المشترك بين الفيلسوف الانكليزي برتراند رسل (1872م- 1970م) وأستاذه عالم الرياضيات الفرد نورت وايتهد (1861م-1947م) في ثلاث مجلدات باسم "أصول الرياضيات"، تأسيسا منهما للمنطق الرياضي، وقد عده بعض الباحثين من أعظم الأعمال الفكرية في تاريخ البشرية، وكان رسل قد سبق ذلك بكتاب "مبادئ الرياضيات" عام 1903م ثم تعرض رسل سنة 1912م لمشكلة الاستقراء في كتابه مشكلات الفلسفة تحت عنوان "في الاستقراء"، وكان للعالم السوفيتي أندري كولموغوروف (1903 م - 1987 م ) عام 1933 م دور بارز في تحديد أنظمة العد التي تعتمد عليها نظرية الاحتمال وقد تمكن الفيلسوف الانجليزي تشارلي دنبر برود (1887م- 1971م) من التأسيس لبديهتي "الاتصال والانفصال" والتي نقلهما عنه رسل في كتابه الأتي وفي عام 1948م يعود برتراند رسل إلى الساحة مع كتابه "المعرفة الإنسانية مداها وحدودها" والذي خصص حوالي 80 صفحة منه للبحث حول نظرية الاحتمال وفي عام 1950م ظهرت إحدى أعمق الدراسات حول الاحتمال والاستقراء وذلك في كتاب الفيلسوف الألماني ردولف كارناب "الأسس المنطقية للاحتمال" الذي تناول فيه المسألة بعمق وتخصص".

كلمة لابد منها:

لكي نقف على أهمية هذه النظرية التي طرحها الشهيد الصدر، لابد من معرفة الهدف الذي توخاه من محاولته التأسيسية، وقد أشار إلي ذلك في كلمته الأخيرة من الكتاب حيث قال: "إن هذه الدراسة الشاملة التي قمنا بها، كشفت عن الأسس المنطقية للاستدلال الاستقرائي الذي يضم كل ألوان الاستدلال العلمي القائم على أساس الملاحظة والتجربة واستطاعت أن تقدم اتجاها جديدا في نظرية المعرفة يفسر الجزء الأكبر منها تفسيرا استقرائيا مرتبطا بتلك الأسس المنطقية التي كشف عنها البحث وتبرهن الدراسة في نفس الوقت على حقيقة في غاية الأهمية من الناحية العقائدية وهي أن الأسس المنطقية التي تقوم عليها كل الاستدلالات العلمية المستمدة من الملاحظة والتجربة هي نفس الأسس المنطقية التي يقوم عليها الاستدلال على إثبات الصانع المدبر لهذا العالم عن طريق ما يتصف به العالم من مظاهر الحكمة والتدبير، فإن هذا الاستدلال كأي استدلال علمي أخر استقرائي بطبيعته وتطبيق للطريقة العامة التي حددناها للدليل الاستقرائي في كلتا مرحلتيه (التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي) فالإنسان بين أمرين:
  • إما أن يرفض الاستدلال العلمي ككل.
  • وإما أن يقبل الاستدلال العلمي ويعطي للاستدلال الاستقرائي على إثبات الصانع نفس القيمة التي يمنحها للاستدلال العلمي.
وهكذا يتبرهن على أن العلم والإيمان مرتبطان في أساسهما المنطقي الاستقرائي ولا يمكن من وجهة النظر المنطقية للاستقراء الفصل بينهما."

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق