الاتجاهات الفكرية على مستوى الفواعل الاختيارية

بسم الله الرحمن الرحيم

لقد أصر وليد على أن أخوض مباشرة في المباحث التي طرحها في مقاله الأخير، وها أنا ذا أستجيب متخطيا جميع المقدمات التي أراها ضرورية جدا ولا غنى عنها، والتي سيبقى البحث غير مكتبل بدونها. على كل حال سأحاول قدر الإمكان أن لا أتعمق في أي مقولة من المقولات إلا بما تقتضيه الحاجة، مع إيضاح قدر المستطاع.

إن الأثر الثاني المترتب على بحوث التوحيد الأفعالي يتمثل في طبيعة الفواعل الاختيارية، بعد الأثر الأول وهو الفواعل الطبيعية. إن أبرز الفواعل الاختيارية التي يقع عادة الإشكال فيها كما أشار إليه وليد، هو الفعل الإنساني.

إن الدرس الفلسفي، وما بني عليه من بحث كلامي جعل التدرج في البرهان في مقام التوحيد على مراتب:
  1. التوحيد في الذات الإلهية
  2. التوحيد في الصفات الإلهية
  3. التوحيد في الأفعال
وبالتالي فإنه على مراتب ثلاث: التوحيد الذاتي والصفاتي والأفعالي.

لقد قصرنا عن البحث في القسمين الأولين (حيث إن مجمل هذا البحث هو خارج عن البحث الأصلي للمدونة)، ولن نستطيع الآن أن نستوفي البحث على المستوى الثالث حيث إننا سوف نرد على إشكالات وليد قبل البحث في الأقسام جميعا، مع إننا جعلنا البحث عن الرؤية الكونية له الأولوية، مع ذلك بحث الإلهيات مهم لما له من شبهات تدور حوله تطرح من هنا وهناك.

بنظرة تمييزية أولية نستطيع أن نستشف بأن أهمية البحث في التوحيدين الذاتي والصفاتي تكمن فيما يثمره من نتائج ومعطيات نظرية تدخل في صياغة العقيدة التوحيدية للموحد. أما في التوحيد الأفعالي فإن نتائج البحث أوثق صلة بالجانب العملي السلوكي لحياة الموحد، على الرغم من أن للتوحيد الأفعالي مرتكزات نظرية موصولة بالبناء الفكري الذي يقوم عليه التوحيد الذاتي والصفاتي.

إن أهمية البحث في التوحيدين الذاتي والصفاتي تكمن في البعد النظري، في حين تكمن أهمية البحث في التوحيد الأفعالي بالبعد السلوكي، وإلا فشأن التوحيد الأفعالي من حيث وجود مرتكزات ينهض عليها لا يختلف عن القسمين الأول والثاني، وهو إلى ذلك يتداخل معها وينتهي إليها في أصوله النظرية.

فبحث الاتجاهات الفكرية على مستوى الفواعل الاختيارية إنما ينطلق من بعد التوحيد الأفعالي، ويتجه في هذا الموضوع الباحثون إلى ثلاثة اتجاهات، إما الجبر أو التفويض، أو الأمر بين الأمرين بتعبير دقيق.

سنبحث الموضوع من منطلق عقلي، فلن نستشهد إلا بما جاء من تراثنا الفلسفي الإسلامي، حتى يتبين كيف أن وليد مدلس في هذا المجال، فهو يتهم الفلاسفة بأنهم لم يدخلوا في بحث الإلهيات بالمعنى التام، وإنما أقاموا الأدلة بصورة ناقصة على إله خيالي لا واقع له!

إن ما يذهب إليه المحتجون في مدوناتهم، بأننا لو سلمنا بأن الله خلق العالم، فلم يعد هناك أي حاجة لهذا الإله لأنه رفع يده عما خلق، أي إنه خلق العالم وفوض إليه كل شيء (لاحظوا بأني لا أناقش الإشكال من منطلق لمعالجة مشكلة إنكار الآلهة، وإنما أريد بالبحث دراسة إشكال وليد في مقاله الأخير، لمراجعة الإشكال إضغط هنا... المسألة الرابعة).

المنطق الأول: إن الأصل الموضوعي الذي يرتكز إليه هذا الإشكال هو: حاجة الممكن إلى العلة حدوثا، واستغناؤه عنها بقاء، وكمثال على ذلك - علاقة البناء بالبناء، والكتاب بالمؤلف، والثوب بالخياط، وهكذا إلى بقية المعاليل التي تبدو أنها توجد وتبقى حتى بعد انعدام عللها الموجدة لها.

وأول ما يلحظ على هذا المنطق هو: الخلط بين العلة الحقيقية المفيضة للوجود والعلة المعدّة. فقد جرى العرف العلمي في الفلسفة إلى تقسيم العلة إلى العلة الحقيقية والمعدات، وإطلاق اسم العلل على المعدات إنما يأتي تجوّزا، وإلا فهي ليست عللا حقيقية، بل هي مقربات تقرب المادة إلى إفاضة الفاعل.

المشير إلى هذا المعنى الآية الكريمة: (أفرأيتم ما تحرثون * أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون)، حيث نسب الحرث والعمل في الأرض وإلقاء البذر إلى الزارع، بيد أنه نسب الإنبات والنمو حتى يبلغ الزرع الغاية إلى نفسه. ومعنى ذلك أن الزرع لكي يخرج من الارض لابد من تحقق عدد من المقدمات التي تهيأ لإفاضة الإنبات والنمو.

وفي الأمثلة التي ضربتها، يلحظ بأن البناء هو ليس من العلل الحقيقية الموجدة للبناء، إنما هو من العلل المعدة لحدوث الاجتماع بين أجزاء البناء، فحركة يد البناء علة لحركة الأجزاء من موضع إلى آخر، ثم إن اجتماع الأجزاء واستقرارها في مواضعها يكون علة لحدوث شكل البناء، ثم تكون الخصائص المادية في هذه المواد من قابلية التماسك والالتصاق واليبوسة ونحوها في العلة المبقية للبناء إلى مدة معينة.

هناك تقسيم للعلة يصنفها إلى علة محدثة وعلة مبقية. والماديون خلطوا بين الإثنين، فلو تنزلنا وقلنا إن البناء هو العلة الموجدة للبناء، فهو علة محدثة لا مبقية، إنما يبس العناصر المؤلفة للبناء هي علة بقائه.

ثم هناك مسألة أخرى يقع فيها وليد في إشكالاته، وهي عدم تمييزه بين ما بالعرض وما بالذات، إن الجهل وعدم الاطلاع على المقولات الفلسفية توهم بأن المسألة لا إجابة لها، بينما هي مجاب عليها بإسهاب في المقولات الفلسفية، والدراسات الموجودة في كتبنا الفلسفية المعاصرة والتراثية. فإن هناك مغالطة كبيرة عندما يقاس فعل الله بفعل البشر، فإنك تأخذ ما ليس بعلة علة. ففعل الله ليس مجرد تركيب وتشكيل، بل هو فعل حقيقي تأسس لإخراج من العدم إلى الوجود.

يمكن التقريب بمعنى، إن فعل الله يشبه كلام المتكلم، وكتابة الكاتب، فإن الأول يشبه الإيجاد والثاني يشبه التركيب، لهذا يبطل الكلام إذا ما سكت المتكلم، أما إذا أمسك الكاتب فلا يبطل المكتوب، ووجود العالم عن الله كوجود الكلام عن المتكلم يصير عدما إذا ما أمسك عنه الفيض لحظة واحدة (إن ذلك تشبيه وليس عرض الواقع، لأن التشبيه يقرب من جهة ويبعد من جهات).

المنطق الثاني: يدور البحث فيه بطبيعة ملاك حاجة المعلول إلى علة، وينطلق من السؤال التالي: ما هو السر الكامن وراء حاجة الممكن إلى سبب وعلة؟ لقد قدم الفكر الإنساني عامة دينيا وغير ديني عددا من التكييفات النظرية والإسهامات في معالجة هذه القضية، يمكن تصنيفيها بأربع نظريات أساسية:

  1. النظرية المادية: وتتمثل في أن الملاك إلى أن الموجود من حيث هو موجود بحاجة إلى علة، وعندئذ فإن الحاجة إلى العلة هي أمر ذاتي لكل موجود بحيث لا يمكن أن نتصور وجودا غير معلول. فلا يوجد علة وراء المعلولات، وبالتالي فإننا نستطيع وبحرية الدخول في مبحث أزلية المادة واعتبارها علة العلل، ولكن لا علة لها، بل هي الأزلية.
  2. النظرية الكلامية: تتمثل في أن ملاك حاجة الممكن إلى علة هي حدوثه، والمراد بالحدوث هو الوجود بعد العدم. يبدو أن الذي دفع المتكلمين إلى هذه النظرية التي رتبوا على أساسها الحدوث الزماني للعالم، هو اعتقادهم أن الأديان الإلهية قد أجمعت على هذا الأمر، وقد واجهت هذه النظرية الكثير من النقود، لا حاجة للتعمق فيها.
  3. النظرية الفلسفية: ويلخصها أحد الشراح المعاصرين للنص الفلسفي (وهو السيد كمال الحيدري): "إن الإمكان صفة يمكن أن نعبر عنها بالخلاء الذاتي، إذ أن معنى كون الشيء ممكنا، هو أن ذاته وماهيته بما هي لا تقتضي الوجود، كما لا تقتضي العدم. أي أن هناك حالة لا إقتضاء بالنسبة إلى الوجود والعدم، وهذا الاقتضاء هو ما نعبر عنه بنوع من الخلاء. بتعبير آخر أن ذات الشيء بما هي هي ليس إيجاب الوجود ولا إيجاب العدم"، هذا ما نعبر عنه بالممكن في كلامنا.
  4. نظرية الإمكان والوجود الفقري: تنطلق هذه النظرية إلى أن السر في احتياج الحقائق الخارجية إلى سبب ليس هو حدوثها ولا إمكان ماهيتها، بل السر كامن في كنهها الوجودي وصميم كيانها.
تنتمي هذه النظرية إلى الاتجاه الفلسفي غير المشائي، الذي اكتسب منهجيا صفة "مدرسة الحكمة المتعالية" التي نظّر لمقولاتها صدر الدين الشيرازي مع بناء الكثير من دعائمها على المقولات العرفانية للعارف الكبير محيي الدين ابن عربي (أنظر لملحق البحث في قسم الإشكالات والحلول ليتضح لك كيف أن وليد زج بالشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي جهلا منه، زجه في زمرة الملحدين! وأي تعد سافر على الفكر الإسلامي أكبر من أن تجعل المنضر العرفاني الأكبر ملحدا!!! يكفيني الآن أن أقول لا تعليق).

يكتب السيد محمد باقر الصدر بعد وصف هذه النظرية وبيانها مفادها في تفسير الحاجة إلى علة، ما نصه: "وهذه هي نظرية الإمكان الوجودي للفيلسوف الإسلامي الكبير صدر الدين الشيرازي، وقد انطلق فيها من تحليل مبدأ العلية نفسه وخرج من حليله ظافرا بالسر، فلم يكلفه الظفر بالسبب الحقيقي لحاجة الأشياء إلى عللها أكثر من فهم مبدأ العلية فهما فلسفيا عميقا".

لقد أشار الشيرازي إلى هذه النظرية وأوضحها بالتالي: "إن الحقائق الخارجية إلتي يجري عليها مبدأ العلية، ليست في الواقع إلا تعلقات وارتباطات، فالتعلق والارتباط مقوّم لكيانها ووجودها. ومن الواضح أن الحقيقة إذا كانت حقيقة تعلقية، أي كانت عين التعلق والارتباط، فلا يمكن أن تنفك عن شيء تتعلق به وترتبط به ذاتيا، فذلك الشيء هو سببها وعلتها، لأنها لا يمكن أن توجد مستقلة عنه". وهذا هو الإمكان الفقري أو الوجودي.

النتائج التي تتحصل بعد إبعاد النظرية المادية والكلامية (سنناقش النظرية المادية أكثر في بحثنا عن الرؤية الفلسفية للعالم أنظر هذه الصفحة)، يتحصل الآتي:

النتيجة الأولى: وهي تعتمد الإمكان الماهوي للتدليل على أن حاجة الممكن إلى العلة ثابتة بقاء كما هي حدوثا. توضيح ذلك: لما ثبت أن الإمكان هو ملاك الحاجة إلى العلة، وأن هذا الإمكان لازم ذاتي للماهية يستحيل أن ينفك عنها، فسيثبت أن الإمكان لا ينفك عن الماهية حال البقاء كما هو كذلك حال الحدوث. إذا، فالممكن محتاج إلى العلة حدوثا وبقاء مستفيض منها في الحالتين، خلافا لما افترضه الماديون في إشكالهم بأننا لو فرضنا جدلا بوجود الإله أو العلة الأولى، لكان الإرتباط وجودا فقط لا بقاء.

النتيجة الثانية: وهي تستند إلى نظرية الإمكان الفقري لإثبات حاجة الممكن إلى العلة بقاء. فهذه النظرية تثبت حاجة حقيقية، لأن الفقر هو عين وجود المعلول، وهو أمر حقيقي لا اعتباري. فالوجود المستفاد من الغير، يكون مقوما له لا ينفك عنه بحال، لا يجوز أن يفارقه، إذ هو ذاتي له، ومن ثم فهو يستفيض منه ويستمد منه في كل آن آن، دون انقطاع، لا فرق بين الحدوث والبقاء، لأن البقاء هو حدوث متحدد.

هكذا وبالنظر إلى المقولات الفلسفية الإسلامية نجد بأن الوجود محتاج إلى العلة غير منقطع عنها حدوثا وبقاء، خلافا لما ذهبت إلمادية أو غيرها. وبإبطال هذا الأصل الموضوعي، ينهار الأساس العقلي للنظرية، التي ذهب بإشكالها إلى استقلال الفعل الإنساني بالمطلق من دون الحاجة إلى إمداد.

  • نظرية الأمر بين الأمرين (لا جبر ولا تفويض) - التحليل الفلسفي.
إن البحث الفلسفي لم يلبث عند فاعل الفعل، بل تخطى ذلك لتحديد الموقف من قضية الاختيار. فسواء أكان الفعل صادرا عن الله أن عن الإنسان أو عنهما معا، فهل تراه يصدر اختيارا أم بلا اختيار؟ هذا البعد يوضحه السيد محمد باقر الصدر في أبحاثه الأصولية، بقوله: "المسألة الفلسفية: وروح البحث فيها يرجع إلى أن فاعل الفعل سواء فرضناه في المسألة الأولى الإنسان أو الله أو هما معا، هل تصدر منه اخيارا أو بلا اختيار؟".

فقد يكون مبدأ الفعل هو الإنسان، لكن الفعل نفسه ليس فعلا اختيارا، بل هو يصدر على نحو الفواعل الطبيعية، تماما كالإحراق الذي يصدر عن النار، بيد أنه ليس فعلا اختياريا للنار بل هو فعل طبيعي لا دور فيه للاختيار.

البحث العقلي:

الحقيقة أن الدليل العقلي على النظرية الثالثة (الأمر بين الأمرين) هو الدليل نفسه الذي تم به اسقاط نظرية التفويض. فقد أثبت البرهان العقلي استحالة تلك النظرية، على اعتبار أن الوجود الإمكاني هو عين الفقر والفاقة إلى الله وإلى العلة الموجدة له: (يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد)، وهذا ما عبر عنه صدر الدين الشيرازي بالوجود الفقري وبالإمكان الفقري كما مر.

يمكن أن نشير هنا إلى عدد من الاستدلالات التي جاء بها العلماء لإثبات أن الوجود الإمكاني يحتاج إلى علته التي أفاضت عليه الوجود حدوثا وبقاء، لا حدوثا فقط.

  • ما قام به السيد الخوئي، حين أوضح أن الفعل الإنساني يتوقف على مقدمتين تتمثل الأولى بحياة الإنسان وقدرته وعلمه، والثانية هي مشيئته واستخدامه القدرة لإيجاد الفعل في الخارج. عند شرحه المقدمة الأولى يذكر أن هذه المقدمة للفعل الإنساني تفيض على الإنسان من الله وترتبط بذاته ارتباطا الأزلية ارتباطا ذاتيا، لينتهي بعد توضيح، إلى قوله: "إن سر حاجة الممكن إلى المبدأ كامن في صميم ذاته ووجوده، فلا فرق بين حدوثه وبقائه من هذه الناحية أصلا".
لقد انتهى الخوئي إلى هذا الأصل في معرض نقاش التفويض مؤكدا: "أن منشأ حاجة الأشياء إلى المبدأ وخضوعها له خضوعا ذاتيا هو إمكانها الوجودي وفقرها الذاتي، وعلى هذا الأساس فلا فرق بين الحدوث والبقاء أصلا".
  • في نطاق تحليل فلسفي يقدمه الطباطبائي للفعل الإنساني يبتهي بعد عدد من مستويات التمييز والتحليل للقول: "فما ذكر من أن الأفعال الإنسانية غير مرتبطة الوجود بالله سبحانه، وإنكار القدر ساقط من أصله".
  • وفي البحوث التوحيدية يقدم الشيخ السبحاني نقدا للمرتكزات التي تقوم عليها هذه النظرية (التفويض) من خلال التمييز بين الإمكان في الماهية والإمكان في الوجود لينتهي إلى أن الوجود الإمكاني قائم بالعلة بجميع شؤونه وخصوصياته، وأن هذه الصلة "تبطل نظرية التفويض القائلة بانقطاع الصلة بين المبدأ والموجودات الإمكانية" ومن ثم فإن للفعل الإنساني نسبة إلى الله وإلى الإنسان معا كما تفيد نظرية الإمر بين الأمرين.
هكذا ينتهي الدليل العقلي إلى أن المعلول يحتاج إلى علته الموجدة له في أصل وجوده (أي كان التامة) كما في أفعال وجوده وما يصدر عنه (أي كان الناقصة)، لا فرق بين الحدوث والبقاء، لأنه عين الحاجة والفقر إلى الله سبحانه.

وكمثال على ذلك، الإنسان حينما يتصور صورة ما في ذهنه، فإن هذه الصورة هي عين الفقر والفاقة إلى هذا الإنسان، وهذا الإنسان هو العلة الموجدة لهذه الصورة الذهنية (بالعرض لا بالذات كما الله إذ إنه هو نفسه معلول)، فإذا ما انقطع الإنسان عن هذه الصورة الذهنية آنا ما تحولت من الوجود إلى العدم، وكما أن هذه الصورة الذهنية محتاجة ابتداء لتتشكل فإنها محتاجة بقاء أيضا لتتشكل، وكذلك كما إنها محتاجة في وجودها لذلك الإنسان فهي محتاجة في أفعالها أيضا، غاية ما بالأمر أنها لا تملك الإرادة الخاصة بها. ولعل الذي يقرب للذهن أكثر هو الحلم، فهو وليد الذهن أيضا، وهو محتاج لذهن الإنسان ليوجد ويبقى ولكن عناصر ذلك الحلم تملك إرادة، وهي تعمل بإرادتها، إلا أنها لن توجد ولن توجد أفعالها إلا بإفاضة وجودية من الإنسان النائم.


تصوير المعنى عرفيا

يشتهر في الأروقة العلمية المثال الذي قدمه السيد الخوئي لتقريب نظرية الأمر بين الأمرين، بالأخص وأنه جاء في أكثر من موضع من دروسه وكتبه وتقريراته أو ما يشابهه.

يشير بدءا إلى أن الفعل الصادر من العبد خارجا على ثلاثة أصناف. ثم يستعرضها مع المثال والتشبيه كما يلي: (مأخوذ من كلمات السيد كمال الحيدري)

الأول - ما يصدر منه بغير اختياره وإرادته، كما لو افترضنا شخصا مرتعش اليد قد فقد القدرة والاختيار على تحريك يديه ثم ربط المولى بيده المرتعشة سيفا قاطعا، وفرضنا أن في جنبه شخصا راقدا، وهو يعلم أن السيف المشدود بيده سيقع عليه فيهلكه حتما. من الطبيعي أن هذا الفعل خارج عن اختياره ولا يستند إليه، ومن ثم لا يراه العقلاء مسؤولا عن هذا الحادث ولا يتوجه إليه الذم واللم وأصلا، بل المسؤول عنه هو من ربط يده بالسيف وإليه يتوجه اللوم والذم. هذا واقع نظرية الجبر وحقيقتها.

الثاني - ما يصدر منه باختياره واستقلاله من دون جاحة إلى غيره أصلا، كما إذا افترضنا أن المولى أعطى سيفا قاطعا بيد شخص حر قد ملك تنفيذ إرادته وتحريك يده، فعندئذ إذا صدر منه قتل في الخارج فهو يستند إليه دون المعطي، وإن كان المعطي يعلم أن إعطاءه السيف ينتهي به إلى القتل، كما أنه يستطيع أن يأخذ منه السيف متى شاء، بيد أن ذلك لا يصحح استناد الفعل إليه، لأن الاستناد يدور مدار دخل شخص في وجوده خارجا، والمفروض أنه لا مؤثر في وجوده ما عدا تحريك يده وقد كان مستقلا فيه. هذا واقع نظرية التفويض وحقيقتها.

الثالث - ما يصدر منه باختياره واستعمال قدرته على رغم أنه فقير بذاته بحاجة في كل آن إلى غيره، بحيث لو انقطع منه مدد الغير في آن انقطع الفعل فيه حتما، وذلك كما لو افترضنا أن للمولى عبدا مشلولا غير قادر على الحركة فربط المولى بجسمه تيارا كهربائيا ليبعث في عضلاته قوة ونشاطا نحو العمل، ووليصبح بذلك قادرا على تحريكها، وأخذ المولى رأس التيار الكهربائي بيده، وهو الساعي لإيصال القوة في كل آن إلى جسم عبده بحيث لو رفع اليد في آن عن السلك الكهربائي انقطعت القوة عن جيمه وذهب باختياره وقل شخصا، فحيث إنه صار متمكنا من إيجاد الفعل وعدمه بعد أن أوصل المولى القوة إليه وأوجد القدرة في عضلاته وهو قد فعل باختياره وإعمال قدرته، وأما إلى المولى فحيث إنه كان معطي القوة والقدرة له حتى حال الفعل والاشتغال بالقتل، مع أنه متمكن من قطع القوة عنه في كل آن شاء ذلك وأراد. وهذا هو واقع نظرية الامر بين الأمرين وحقيقتها.

أما السيد الصدر، فقد أوضح النظرية ببيان وجيز أشفعه بتطبيق على حركة الإنسان، حين قال: "أن يكون لكل من الإنسان والله تعالى نصيب في الفاعلية، بمعنى كونهما فاعلين طوليين، أي أن الإنسان هو الفاعل المباشر للفعل بما أوتي من قدرة وسلطان وعضلات وتمام القوى التي استطاع بها أن يحرك لسانه ويديه ورجليه، والله هو الفاعل غير المباشر من باب أن هذه القوى مخلوقة حدوثا وقاء له تعالى، ومفاضة آنا فآنا ومعطاة من قبل الله. وهذا أحد الوجوه التي فسر بها الأمر بين الأمرين".

النظرية الفلسفية لتقريب المعنى

تعكس التفسيرات النظرية والأمثلة التي تساق حيال الأمر بين الأمرين اختلافا ملحوظا في فهم المقولة وتحديد المقصود منها، يعود إلى طبيعة المرتكزات التي ينتهي إليها صاحب الرأي لا سيما موقفه الذي يتبناه من مسألة حاجة الممكن إلى العلة وعلة احتياجه إليها.

بهذا الصدد يمكن أن نفرز قراءتين تستند كل واحدة منهما إلى نظرية في التفسير تتباعد عن الأخرى، هما:

  • القراءة الأولى
وهي التي يمكن أن تستمد من خلال مثال السيد الخوئي والسيد الصدر، تفيد أن الإنسان مخلوق لله سبحانه وتعالى بكل ما يملك من قوة وسلطنة وإرادة واختيار وقدرة واستعمال لهذه القدرة، وهو بحاجة إلى إفاضة الله حدوثا وبقاء، بيد أنه هو الذي يباشر الفعل بإرادته واختياره وقدرته من دون أن يجبره الله عليه. على هذا تصير للفعل نسبتان، الأولى: إلى الإنسان بوصفه الذي يباشر الفعل، والثانية: إلى الله سبحانه وتعالى باعتباره المعطي للقوة والقدرة حدوثا وبقاءً.
وفق هذا التصوير للأمر بين الأمرين يصير الإنسان فاعلا قريبا، والله سبحانه وتعالى فاعلا بعيدا. هذه القراءة هي البارزة بين صفوف العلماء، وإليها تشير المصادر المختصة في دراسة المسألة من دون أن تنفي وجود قراءة أخرى ترتكز إلى أساس نظري هو غير الأساس الذي يقوم عليها هذا التفسير.

هناك نص طويل للشيرازي يعكس هذه القراءة مع مرتكزاتها النظرية يعود إلى صدر الدين الشيرازي، يتضمن بعض اللفتات الأخلى في إضاءة هذا المعنى للأمر بين الأمرين بالإضافة إلى تشبيهات عرضية. فبعد أن استعرض الشيرازي عددا من الآراء وصل للقول: "وذهبت طائفة أخرى وهم الحكماء إلى أن الأشياء في قبول الوجود من المبدأ المتعالي متفاوتة، فبعضها لا يقبل الوجود إلا بعد وجود الآخر كالعَرَض الذي لا يمكن وجوده إلا بعد وجود الجوهر. فقدرته على غاية الكمال، يفيض الوجود على الممكنات على ترتيب ونظام وبحسب قابلياتها المتفاوتة بحسب الإمكانات، فبعضها صادرة عنه بلا سبب، وبعضها بسبب واحد أو أسباب كثيرة، فلا يدخل مثل ذلك في الوجود إلا بعد سبق أمور هي أسباب وجوده وهو مسبب الأسباب من غير سبب (أي فاعل بعيد).

وليس ذلك لنقصان في القدرة بل النقصان في القابلية، وكيف يتوهم النقصان والاحتياج مع أن السبب المتوسط أيضا صادر عنه، فالله سبحانه وتعالى غير محتاج في إيجاد شيء من الأشياء إلى أحد غيره. وقالوا: لا ريب في وجود موجود على أكمل وجه في الخير والجود، ولا في أن صدور الموجودات عنه يجب أن يكون على أبلغ النظام. فالصادر عنه إما خير محض كالملائكة ومن ضاهاها، وإما أن يكون الخير فيه غالبا على الشر كغيرهم من الجن والإنس. فيكون الخيرات داخلة في قدرة الله بالأصالة، والشرور اللازمة للخيرات داخلة فيها بالتبع. ومن ثم قيل: إن الله يريد الكفر والمعاصي الصادرة عن العباد لكن لا يرضى بها، على قياس من لسعت الحية إصبعه وكانت سلامته موقوفة على قطع اصبعه، فإنه يختار قطعها بإرادته لكن بتبعية إرادة السلامة، ولولاها لم يرد القطع أصلا، فيقال هو يريد السلامة ويرضى بها ويريد القطع ولا يرضى به إشارة إلى الفرق الدقيق.

وأنت تعلم أن هذا المذهب أحسن من الأولين وأسلم من الآفات، وأصح عند ذوي البصائر النافذة في حقائق المعارف، فإنه متوسط بين الجبر والتفويض وخير الأمور أوسطها".

هذا التفسير لنظرية الأمر بين الأمرين ينسجم مع أصول الفلسفة المشائية ومرتكزاتها بالأخص في مسألة الوجود الإمكاني وطبيعة الفهم الذي تقدمه على هذا الصعيد. أما من يؤمن بأصول فلسفة الحكمة المتعالية ومرتكزاتها لا يسعه إلا أن يتخطى هذا التفسير إلى تفسير آخر، هو الذي تعكسه القراءة الثانية.

  • القراءة الثانية
تخطت مدرسة الحكمة المتعالية القراءة التي تقوم على أساس الفلسفة المشائية، لتقدم نظرية أخرى للتفسير تقوم على فهمها الخاص للوجود الإمكاني. فلو عدنا إلى صدر الدين الشيرازي نراه بعد أن عرض للقراءة الاولى، فيعود ليكتب مقدما تفسيرا لنظرية الأمر بين الأمرين على أساس أصول مدرسة الحكمة المتعالية ومرتكزات العرفان النظري ليقول: "كما إنه ليس في الوجود شأن إلا وهو شأنه، كذلك ليس في الوجود فعل إلا وهو فعله، لا بمعنى أن فعل زيد مثلا ليس صادرا عنه، بل بمعنى أن فعل زيد مع أنه فعله بالحقيقة دون المجاز فهو فعل الله بالحقيقة، فلا حكم إلا لله ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، يعني كل حول فهو حوله، وكل قوة فهي قوته، فهو مع غاية عظمته وعلوه ينزل منازل الأشياء ويفعل فعلها، كما أنه مع غاية تجرده وتقدسه لا يخلو منه أرض ولا سماء، كما في قوله تعالى: (وهو معكم أينما كنتم).

فإذا تحقق هذا المقام ظهر أن نسبة الفعل والإيجاد إلى العبد صحيح -كنسبة الوجود والسمع والبصر وسائر الحواس وصفاتها وأفعالها وانفعالاتها- من الوجه الذي بعينه ينسب إليه، فكما أن وجود زيد بعينه أمر متحقق في الواقع منسوب إلى زيد بالحقيقة لا بالمجاز -وهو مع ذلك شأن من شؤون الحق الأول- فكذلك علمه وإرادته وحركته وسكونه وجميع ما يصدر عنه منسوب إليه بالحقيقة لا بالمجاز والكذب. فالإنسان فاعل لما يصدر عنه، ومع ذلك ففعله أحد أفاعيل الحق، على الوجه الأعلى والأشرف اللائق بأحدية ذاته بلا شوب انفعال ونقص وتشبيه ومخالطة بالأجسام والأرجاس والأنجاس"

ما يريده الشيرازي من هذا النص، أن للفعل نسبتين حقيقيتين، كلتاهما مباشرة، لا أن إحداهما مباشرة والأخرى بالتسبيب وفاقا لنظرية الفاعل القريب والفاعل البعيد التي عكستها القراءة الأولى. على وفق هذا التصوير تغدو كلا النسبتين حقيقيتين وقريبتين (وهو معكم أينما كنتم) من دون واسطة. عند هذه النقطة يعقب الطباطبائي على هذا التصوير الجديد للنظرية، بقوله: "وعلى الثاني للفعل استناد إليه تعالى من غير واسطة، من جهة إحاطته به في مقامه، كما أن له استنادا إلى فاعله الممكن. ولا يلزم جبر لأن إحاطته تعالى بكل شيء إحاطة بما هو عليه، والفعل الاختياري في نفسه اختياري، فهو المحاط المنسوب إليه تعالى وإلى عبده".

تكشف هذه النصوص عن مسعى لتأسيس قراءة جديدة للأمر بين الأمرين يقوم على أساس نظرية الإمكان الفقري والوجودي لصدر الدين الشيرازي، التي ترى في عالم الإمكان وجودا في غيره لا وجودا في نفسه.

على هذا الضوء تغدو نسبة الفعل إلى الفاعل المباشر وإلى الله تعالى نسبة حقيقية. فالله سبحانه مقوّم لكل وجود في مرتبة ذلك الوجود (وهو معكم أينما كنتم) فهذه المعية القيومية، أو بتعبير الإمام علي عليه السلام: "داخل في الأشياء لا بممازجة، وخارج منها لا بمزايلة"، وهذه البينونة هي كما يقول: "بينونة صفة لا بينونة عزلة". فإذن، كما يسند الفعل إلى هذا الوجود الربطي يسند أيضا إلى ذلك الوجود الاسمي القائم به هذا الوجود، لكن كل بحسبه، فالأول باعتبار أنه قائم في غيره، والثاني باعتبار انه قائم بذاته.

نفس هذا المعنى يمكن أن نلمحه في كلمات للإمام علي عليه السلام عندما يصف عالم الإمكان أو الوجود الإمكاني بأنه قائم في سواه بقوله: "كل قائم في سواه معلول".

ختام
لقد كان هذا المقال بمثابة المقدمة للمقال الأساسي، الذي يعالج أكثر من إشكال أورده وليد في مقاله الأخير، وهو القضاء والقدر وإشكالية تعطيل الفعل الإنساني حيث إنه من أعقد وأشكل المواضيع، فهو بمثابة معالجة عملية للمسألة الأولى (الاستشهاد بأقوال الفلاسفة) بعد أن اعتبر أن الفلاسفة بعيدون كل البعد عن الاستدلال على إلهنا الإسلامي الإبراهيمي، مع إن ذلك لا يعدو كونه أكثر من جهل بالتراث الفلسفي الإسلامي. والمسألة الرابعة (الإنسان مسير أم مخير).

بحثانا التاليان سيكونان:
مع التحيات
ليث

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق