الحلقة الخامسة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

المراحل التي يمر بها المنطق الذاتي لإنتاج اليقين

يؤمن المذهب الذاتي بأن كل معرفة ثانوية يحصل عليها العقل على أساس التوالد الذاتي تمر بمرحلتين أساسيتين المرحلة الأولى التوالد الموضوعي والمرحلة الثانية التوالد الذاتي:

- التوالد الموضوعي

في هذه المرحلة تبدأ المعرفة احتمالية وينمو الاحتمال باستمرار ويسير نمو الاحتمال في هذه المرحلة بطريقة التوالد الموضوعي حتى تحظى المعرفة بدرجة كبيرة جداً من الاحتمال غير أن طريقة التوالد الموضوعي تعجز عن تصعيد المعرفة إلى درجة اليقين وفي هذه المرحلة لا يوجد في الدليل الاستقرائي أي قفزة من الخاص إلى العام أو أي ثغرة عقلية وتسمى هذه المرحلة بالمرحلة الاستنباطية من الدليل الاستقرائي لأن الدليل فيها يمارس عملية استنباط عقلي وفقاً لقواعد التوالد الموضوعي للفكر يحددها المنطق الصوري والشرط الأساسي لتمكن الدليل الاستقرائي من ممارسة هذه المرحلة يتوقف على افتراض عدم وجود مبرر قبلي لرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي أي للاعتقاد بعدمها وهذا لا يكلف الدليل الاستقرائي إثباتا مسبقا لأن الرفض هو الذي يحتاج إلى إثبات وأما عدم الرفض القبلي فيكفي له عدم وجود مبرر للرفض والمقصود من السببية بالمفهوم العقلي هو علاقة بين مفهومين كمفهومي (أ) و (ب) تجعل أحدهما ضروريا عند وجود الأخر فالأول هو المسبب والثاني هو السبب أما بالنسبة بالمفهوم التجريبي فهي أن كل (أ) يعقبها أو يقارنها (ب) بصورة مطردة دون أن يفترض في هذا الاطراد أي ضرورة ومن الواضح أن رفض فكرة الضرورة واللزوم نهائيا يؤدي إلى الاعتقاد أن أي حادثة توجد عقيب حادثة أخرى فوجودها عقبها صدفة ولا يعبر عن أي لزوم فالغليان عقب الحرارة والحرارة عقب الحركة صدفة وبهذا يتضح:

  1. السببية بالمفهوم العقلي علاقة ضرورة, والسببية بالمفهوم التجريبي اقتران أو تتابع بين الحادثين بصورة مطردة صدفة.
  2. السببية بالمفهوم العقلي علاقة واحدة رئيسية بين مفهومين والعلاقات بين أفراد هذا المفهوم وأفراد ذاك ارتباطات متلازمة تنشأ من تلك العلاقة الرئيسية وليست كذلك السببية بالمفهوم التجريبي.
  3. إن أفراد المفهوم الواحد متلازمة في علاقاتها السببية على أساس المفهوم العقلي للسببية بمعنى أن أي فرد من أفراد ماهية معينة إذا كان سببا لفرد من أفراد ماهية معينة أخرى فمن الضروري أن يكون كل فرد من الماهية الأولى سببا لفرد من الماهية الثانية في ظل نفس الشروط التي كان الفرد الأول فيها سببا وذلك لأن السببية علاقة ضرورة بين مفهومين فلا يمكن أن يحصل فرد من مفهوم على هذه العلاقة دون فرد أخر لنفس المفهوم وهذا معنى أن الأشياء المتماثلة تؤدي إلى نتائج متماثلة أما مجرد التتابع أو الاقتران الذي تفسر السببية على أساسه في المفهوم التجريبي فهو بوصفه علاقة بين فردين لا بين مفهومين فبالإمكان أن توجد هذه العلاقة لفرد دون أخر مماثل له.

وبهذا نقف على أن من يرفض علاقات السببية بمفهومها العقلي رفضا كاملا لا يمكنه أبداً أن يفسر الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية ويبرر نمو الاحتمال بالقضية الاستقرائية وعن هذا الطريق يمكننا أن نبرهن لكل من يعترف بقيمة حقيقية للدليل الاستقرائي في تنمية الاحتمال على أنه مضطر للتنازل عن المبررات القبلية لرفض علاقات السببية ونفيها ومن أجل هذا سوف نذكر باختصار المبررات القبلية لرفض علاقة السببية بالمفهوم العقلي ويكفينا في حدود إنجاح الطريقة العامة المقترحة للدليل الاستقرائي أن لا نجد مبررات للرفض ولسنا بحاجة إلى مبررات قبلية لإثبات المفاهيم العقلية عن السببية.

مبررات رفض السببية العـقلية:

  • التبرير المنطقي:
المبرر المنطقي لرفض علاقة السببية بمفهومها العقلي يرتكز على أساس تصورات المنطق الوضعي عن القضية إذ يربط معنى القضية بكيفية إثبات صدقها أو كذبها بما لدى الإنسان من خبرة حسية فكل جملة يمكن للإنسان بخبرته الحسية أن يثبت صدقها أو كذبها فهي قضية ذات معنى سواء كانت صادقة أو كاذبة وكل جملة لا يملك الإنسان طريقة محددة لاستخدام خبرته الحسية في إثبات صدقها أو كذبها فهي ليست قضية وليس لها معنى إطلاقا في رأي المنطق الوضعي فإذا اعتبرنا التمكن من استخدام الخبرة الحسية لإثبات صدق الجملة أو كذبها شرطا أساسيا في تكوين القضية من الناحية المنطقية أدى ذلك إلى أن كل جملة لا يؤثر افتراض صدقها أو كذبها على خبرتنا الحسية لا يمكن أن تكون قضية من الناحية المنطقية لان الخبرة الحسية سوف تعجز في هذه الحالة عن إثبات صدقها أو كذبها ما دامت هذه الخبرة الحسية لا يمكن أن تتأثر بصدقها أو كذبها. (هذا ما يدعيه الماديون، وهذا لعله حصيلة اعتراض أحمد في نقاشنا على صفحة الفيسبوك من أن الله لا يمكن أن يثبت بداعي إنه كائن ميتافيزيقي!).
  • التبرير الفلسفي:
يمكننا أن نعتبر المبررات الناشئة عن الاتجاه التجريبي في نظرية المعرفة ذات طابع فلسفي فهناك اتجاه في نظرية المعرفة يؤمن بان التجربة والخبرة الحسية هي المصدر الأساسي للمعرفة البشرية وبرفض التسليم بمبادئ أو قضايا بصورة مستقلة عنها وهذا هو الاتجاه الذي يؤمن به المذهب التجريبي في نظرية المعرفة والفرق بين التجريبيين غير الوضعيين والمناطقة الوضعيين يتمثل في موقفهما من القضية التي لا توجد كيفية معينة لاستخدام التجربة والخبرة الحسية من أجل إثبات صدقها فهي تعتبر في رأى المناطقة الوضعيين فارغة من المعنى وأما التجريبيون غير الوضعيين فيعترفون بأنها قضية ذات معنى من الناحية المنطقية لأنهم لا يربطون معنى القضية بكيفية إثبات صدقها ولكنهم يربطون درجة التصديق بها بمدى قدرة التجربة على إثباتها فكل قضية لا يمكن للتجربة أن تبرهن عليها لا يمكن قبولها لأن التجربة والخبرة الحسية هي المصدر الأساسي للمعرفة في رأي المذهب التجريبي.
  • التبرير العلمي:
وهناك الاتجاه الذي بدأه بعض علماء الفيزياء الذرية على أساس مجموعة من التجارب العلمية في مجال الذرة وهو اتجاه يميل إلى القول بأن مبدأ السببية بما تحتوي من حتمية وضرورة لا ينطبق على العالم الذري ومن الواضح أن عدم إمكان التوصل إلى تفسير سببي لسلوك الجسيم البسيط أو الذرة لا يعني بحال من الأحوال نفي السببية وإنما يعني أن التجارب العلمية لم تستطع أن تبرهن على وجود سبب لتلك الظواهر التي يمارسها ذلك الجسيم وحتى إذا افترضنا أن العلم استطاع أن يتأكد من عدم وجود أسباب تقوم على أساسها ظواهر العالم الذري وتصرفات الجسيم البسيط فهذا لا يمنع من احتمال مبدأ السببية بالنسبة إلى عالم المركبات وما يضم من ظواهر وبالتالي نحتفظ بالمصادرة التي يحتاجها الدليل الاستقرائي بالنسبة إلى هذا العالم.
  • التبرير العملي:
بقيت حجة واحدة تساق عادة لتبرير الانتقال من فكرة السببية بمفهومها العقلي الذي يستبطن الضرورة الحتمية إلى فكرة القانون السببي الذي يتحدث عن مجرد التتابع بين ظاهرتين يقول رسل في توضيح هذه الحجة ( إننا إذا افترضنا الحصول على تعميم يقول بأن (أ) هي سبب ل (ب) مثلا جوز البلوط تسبب أشجار البلوط وكانت هناك فترة محددة بين (أ) و (ب) فقد يحدث شيء خلال هذه الفترة لمنع (ب) ولا نستطيع أن نأخذ بنظر الاعتبار ما في العالم من تعقيدات لا متناهية ولذلك يصبح التعميم السببي الذي حصلنا عليه كما يلي إن (أ) ستسبب (ب) إذا لم يحصل شيء يمنع (ب) وبعبارة أخرى إن (أ) ستسبب (ب) إلا إذا لم تسببها ولا يوجد أي معنى مفيد في قول من هذا القبيل.

ومن خلال ما ذكرناه نستطيع أن نحدد موقفنا من الأدلة والشواهد التي تساق عادة لإثبات أن الاستقراء ليس استدلال منطقيا فهناك محاولات تستهدف انتزاع الطابع المنطقي من الاستدلال الاستقرائي وتستدل على ذلك بفشل الاستقراء أحيانا وخروجه بنتائج باطلة بدون شك رغم انه من الناحية المنطقية يصطنع نفس الطريقة التي تصطنعها الاستقراءات الناجحة وهذا يعني أن نجاح الاستقراء في الوصول إلى نتائج صحيحة لا يقوم على أساس منطقي ولا يستمد مبرره من منطقية الطريقة الاستقرائية في الاستدلال لأن الطريقة نفسها موجودة في الاستقراءات الفاشلة فان هذه الاستقراءات التي تفشل أحيانا ليست هي نفسها التي تنجح في أكثر الأحيان فلا يمكن أن يستخدم ذلك كدليل على أن الاستقراء ليس مبدأ منطقيا بل إن الدليل الاستقرائي إذا استكمل متطلباته اللازمة لممارسة مرحلته الاستنباطية فهو ناجح في تنمية احتمال التعميم وإعطائه اكبر قيمة احتمالية ممكنة وهذا يعني أن الدليل الاستقرائي في مرحلته الاستنباطية يبرهن على قيمة احتمالية كبيرة وهو في حدود برهنته على هذه القيمة وضمن شروطه ومصادراته اللازمة له مبدأ منطقي ولا يعني هذا أن النتيجة التي يبرهن الاستقراء على قيمة احتمالية كبيرة لها يجب أن تكون صادقة دائما من الناحية المنطقية وإنما يعني أن القيمة الاحتمالية الكبيرة التي يعطيها الدليل الاستقرائي للنتيجة قيمة منطقية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق