الحلقة الرابعة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي

لعل السبب في إصرار المنطق الأرسطي على إرجاع الدليل الاستقرائي إلى الدليل القياسي يكمن فيما ذكرناه سابقا من أن المذهب العقلي لا يعترف عادة إلا بطريقة واحدة لنمو المعرفة الإنسانية وهي طريقة التوالد الموضوعي بينما يرى المذهب الذاتي أن في الفكر طريقتين لنمو المعرفة إحداهما التوالد الموضوعي والأخرى التوالد الذاتي ولكي نقف على محتوى هذا الخلاف بين الاتجاهين لابد من التوفر على المراد من التوالد الموضوعي والتوالد الذاتي.

إن في كل معرفة يحصل عليها الإنسان جانبا ذاتيا وجانبا موضوعيا فنحن حين نعرف أن الشمس طالعة أو أن المساوي لأحد المتساويين مساو للأخر أيضا نميز بين عنصرين أحدهما الإدراك وهو الجانب الذاتي من المعرفة والأخر القضية التي أدركناها ولها بحكم تصديقنا بها واقع ثابت بصورة مستقلة عن الإدراك وهذا هو الجانب الموضوعي من المعرفة.

التوالد الموضوعي: يعني أنه متى ما وجد تلازم بين قضية أو مجموعة من القضايا وقضية أخرى فبالإمكان أن تنشأ معرفتنا بتلك القضية من معرفتنا بالقضايا التي تستلزمها فمعرفتنا بأن زيد إنسان وأن كل إنسان فان، تتوالد منها معرفة بأن زيد فان وهذا التوالد موضوعي لأنه نابع عن التلازم بين الجانب الموضوعي من المعرفة المولدة والجانب الموضوعي من المعرفة المتولدة وهذا التوالد الموضوعي هو الأساس في كل استنتاج يقوم على القياس الأرسطي لأن النتيجة في القياس دائما ملازمة للمقدمات التي يتكون منها القياس فتنشأ معرفتنا بالنتيجة من معرفتنا بالمقدمات على أساس التوالد الموضوعي والتلازم بين القضايا المستدل ببعضها على بعضها الأخر بصورة قياسية.

التوالد الذاتي: يعني أن بالإمكان أن تنشا معرفة ويولد علم على أساس معرفة أخرى دون أي تلازم بين موضوعي المعرفتين وإنما يقوم على أساس التلازم بين المعرفتين نفسيهما فبينما كان المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى في حالات التوالد الموضوعي هو التلازم بين الجانبيين الموضوعيين للمعرفة وكان التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة ( أي العلم ) تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعين نجد في حالات التوالد الذاتي أن المبرر لنشوء معرفة من معرفة أخرى هو التلازم بين الجانبين الذاتيين للمعرفة وأن هذا التلازم ليس تابعا للتلازم بين الجانبين الموضوعين.

والمذهب العقلي الذي يمثله المنطق الأرسطي يؤمن بأن الطريقة الوحيدة الصحيحة من الناحية المنطقية هي طريقة التوالد الموضوعي وأما طريقة التوالد الذاتي فهي تعبر عن خطأ من الناحية المنطقية لأنها تحاول استنتاج قضية من قضية أخرى دون أي تلازم بين القضيتين وتورط الفكر البشري في الخطأ له شكلان رئيسيان:

الشكل الأول: استعماله لطريقة التوالد الذاتي أي استنتاج مقدمات صادقة لا تستلزم تلك النتيجة.

الشكل الثاني: استعماله لطريقة التوالد الموضوعي باستنتاج نتيجة من مقدمات تستلزم تلك النتيجة ولكن المقدمات كاذبة.

فلكي يكون الاستدلال صحيحا في رأي المذهب العقلي لابد أن تكون طريقة التوالد فيه موضوعية لا ذاتية وأن تكون القضايا أو المقدمات المولدة صادقة وعلى هذا الأساس اضطر المنطق الأرسطي نتيجة لإيمانه بالدليل الاستقرائي إلى القول بأن طريقة التوالد في الاستدلالات الاستقرائية موضوعية لا ذاتية وأن كل استدلال استقرائي مرده إلى قياس يشتمل على كبرى عقلية وصغرى مستمدة من الخبرة الحسية وأكد المنطق الأرسطي بهذا الصدد أن الأمثلة المستمدة من الاستقراء والخبرة الحسية التي تكون الصغرى في القياس لا تكفي وحدها لاستنتاج أي تعميم استقرائي إذ لا تلازم بينها وبين التعميم موضوعيا فلا تكون طريقة التوالد في الاستقراء موضوعية ما لم ندخل في الاستدلال الاستقرائي تلك الكبرى العقلية القبلية التي تنفي تكرر الصدفة النسبية على الخط الطويل.

وبكلمة مختصرة إن المذهب العقلي الذي يمثله المنطق الأرسطي حاول تفسير جميع العلوم والمعارف التي يعترف بصحتها من الناحية المنطقية بأنها:

ـ إما أن تكون معارف أولية تعبر عن الجانب العقلي القبلي من المعرفة البشرية.

ـ وإما أن تكون مستنتجة من تلك المعارف على أساس طريقة التوالد الموضوعي.

المذهب الذاتي

يعتقد المذهب الذاتي أن الجزء الأكبر من المعرفة التي يعترف المذهب العقلي والمنطق الأرسطي بصحتها يعود إلى قضايا مستنتجة بطريقة التوالد الذاتي وهذا ما حاول معالجته السيد الشهيد الصدر في القسم الأخير من كتابه الأسس المنطقية للاستقراء ففي هذا الاتجاه:

  • معارف أولية تشكل الجزء العقلي القبلي من المعرفة وهو الأساس للمعرفة البشرية على العموم من قبيل مبدأ عدم التناقض الذي يعتبره المذهب الذاتي وفاقا للمذهب العقلي معرفة عقلية قبلية.

  • معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الموضوعي كنظريات الهندسة الاقليدية المستنتجة من بديهيات تلك الهندسة بطريقة التوالد الموضوعي.

  • وهناك معارف ثانوية مستنتجة من معارفنا السابقة بطريقة التوالد الذاتي وهي كل التعميمات الاستقرائية فان التعميم الاستقرائي مستنتج من مجموعة أمثلة وشواهد لا يوجد أي تلازم بينها وبين ذلك التعميم فالعلم بالتعميم ينشا عن طريق العلم بتلك الأمثلة والشواهد على أساس التوالد الذاتي.

ويترتب على هذا أن من الضروري الاعتراف بأن هذه الطريقة الجديدة للتوالد ذاتيا تختلف عن طريقة التوالد الموضوعي لا يمكن إخضاعها للمنطق الصوري أو الأرسطي الذي يعالج التلازم بين أشكال القضايا إذ لا تقوم طريقة التوالد الذاتي على أساس التلازم بين القضية المستنتجة والقضايا التي اشتركت في إنتاجها لان التوالد ذاتي وليس موضوعيا ولكن هذا لا يعني فسح المجال لاستنتاج أي قضية من أي قضية أخرى على أساس التوالد الذاتي دون التقيد بين التلازم بين القضيتين كان نستنتج مثلا أن زيدا قد مات من أن الشمس طالعة فان هذا يؤدي إلى جعل طريقة التوالد الذاتي مبررا لأي استدلال خاطئ وليس هذا ما نقصده عندما نقرر هذه الطريقة إلى جانب طريقة التوالد الموضوعي.

إن ما نقصده الآن هو أن جزءاً من المعرفة التي يؤمن بها العقليون على الأقل لم يتكون على أساس التوالد الموضوعي وإنما يتكون على أساس أخر هو ما نصطلح عليه بالتوالد الذاتي وهذا يعني أن ما دمنا نود الاحتفاظ بذلك الجزء من المعرفة وبطابعه الموضوعي السليم فلابد أن نعترف بطريقة التوالد الذاتي وبان العقل ينتهج هذه الطريقة في الحصول على جزء من معرفته الثانوية والمسألة الأساسية في هذا الضوء هي كيف يمكن أن نميز بين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي بينهما صحيحا وبين الحالات التي يكون فيها استنتاج قضية من قضايا أخرى بدون تلازم موضوعي بينهما خطأ؟ من الواضح أن المنطق الأرسطي لا يكفي للجواب على هذا السؤال وتمييز الشروط التي تكسب التوالد الذاتي المعقولية والصحة لأن طريقة التوالد الذاتي أساسا لا تنطبق على المنطق الأرسطي ومن أجل ذلك نلاحظ انه إذا انطلقنا من وجهة نظر المذهب الذاتي فسوف نجد أنفسنا بحاجة إلى منطق جديد إلى منطق ذاتي يكشف الشروط التي تجعل طريقة التوالد الذاتي معقولة كما احتجنا إلى المنطق الصوري لاكتشاف صيغ التلازم بين أشكال القضايا التي تجعل طريقة التوالد الموضوعي معقولة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق