الحلقة الثالثة - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

الفرق بين الاستنباط والاستقراء

إن الاستدلال الذي يمارسه الفكر البشري يمكن تقسيمه إلى قسمين رئيسيين هما الاستنباط والاستقراء، ولكل منها منهجه الخاص وطريقه المتميزة، ونريد بالاستنباط كل استدلال لا تكبر نتيجته المقدمات التي تكون منها ذلك الاستدلال ففي كل دليل استنباطي تجيء النتيجة دائما مساوية أو أصغر من مقدماتها فيقال مثلا: زيد إنسان وكل إنسان يموت فزيد يموت ويقال: الحيوان إما صامت وإما ناطق والصامت يموت والناطق يموت فالحيوان يموت ففي قولنا الأول استنتجنا أن زيدا يموت، بطريقة استنباطية وهذه النتيجة أصغر من مقدماتها لأنها تخص فردا من الإنسان وهو زيد بينما المقدمة القائلة كل إنسان يموت تشمل الأفراد جميعا، وبذلك يتخذ التفكير في هذا الاستدلال طريقه من العام إلى الخاص فهو يسير من الكلي إلى الفرد ومن المبدأ العام إلى التطبيقات الخاصة ويطلق المنطق الأرسطي على الطريقة التي انتهجها الدليل الاستنباطي في هذا المثال اسم القياس ويعتبر الطريقة القياسية هي الصورة النموذجية للدليل الاستنباطي وفي قولنا الثاني استنتجنا أن الحيوان أي حيوان يموت بطريقة استنباطية أيضا ولكن النتيجة مساوية للمقدمة التي ساهمت في تكوين الدليل عليها القائلة الصامت يموت والناطق يموت لأن الصامت والناطق هما كل الحيوان بموجب المقدمة الأخرى القائلة الحيوان إما صامت وإما ناطق.

نريد بالاستقراء كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوينه، فيقال مثلا هذه القطعة من الحديد تتمدد بالحرارة وتلك تتمدد بالحرارة وهذه القطعة الثالثة تتمدد بالحرارة أيضا، إذاً كل حديد يتمدد بالحرارة، وهذه النتيجة أكبر من المقدمات لأن المقدمات لم تتناول إلا كمية محدودة، ومن أجل هذا يعتبر السير الفكري في الدليل الاستقرائي معاكسا للسير في الدليل الاستنباطي الذي يستخدم الطريقة القياسية، فبينما يسير الدليل الاستنباطي وفق الطريقة القياسية من العام إلى الخاص عادة يسير الدليل الاستقرائي خلافا لذلك من الخاص إلى العام.

ومنذ بدأ الإنسان يدرس مناهج الاستدلال والتفكير ويحاول تنظيمها منطقيا طرح على نفسه السؤال التالي: لنفرض أن المقدمات التي نقررها في الدليل الاستنباطي أو الاستقرائي صحيحة حقا فكيف يتاح لك أن تخرج منها بنتيجة وتتخذ تلك المقدمات سببا كافيا لتبرير الاعتقاد بهذه النتيجة؟ وقد أدرك الإنسان لدى مواجهة هذا السؤال ثغرة في تركيب الدليل الاستقرائي، لا يوجد في الدليل الاستنباطي ما يماثلها، ففي الاستنباط يرتكز استنتاج النتيجة من مقدماتها دائما على مبدأ عدم التناقض ويستمد مبرره المنطقي من هذا المبدأ لأن النتيجة في حالات الاستنباط مساوية لمقدماتها أو أصغر منها كما تقدم فمن الضروري أن تكون النتيجة صادقة إذا صدقت المقدمات وأما في حالات الاستقراء فان الدليل الاستقرائي يقفز من الخاص إلى العام لأن النتيجة في الدليل الاستقرائي أكبر من مقدماتها وليست مستبطنة فيها وهكذا نعرف أن منهج الاستدلال في الدليل الاستنباطي منطقي ويستمد مبرره من مبدأ عدم التناقض خلافا لذلك منهج الاستدلال في الدليل الاستقرائي فإنه لا يكفي لتبريره منطقيا مبدأ عدم التناقض ولا يمكن على أساس هذا المبدأ تفسير القفزة التي يصطنعها الدليل الاستقرائي في سيره من الخاص إلى العام وما تؤدي إليه من ثغرة في تكوينه المنطقي.

في ضوء ما تقدم تبين أن الاستنباط هو كل استدلال لا تكبر نتيجته المقدمات التي تكون منها ذلك الاستدلال وأن الاستقراء هو كل استدلال تجيء النتيجة فيه أكبر من المقدمات التي ساهمت في تكوينه، والمنطق الأرسطي حين عالج الاستقراء لم يميز بصورة أساسية بين الملاحظة والتجربة وأراد بالاستقراء كل استدلال يقوم على أساس تعداد الحالات والأفراد وعلى هذا الأساس قسم الاستقراء إلى كامل وناقص لأن تعداد الحالات والأفراد وفحصها إذا كان مستوعبا لكل الحالات والأفراد التي تشملها النتيجة المستدلة بالاستقراء فالاستقراء كامل وإذا لم يشمل الفحص والتعداد إلا عددا محدودا منها فالاستقراء ناقص واتخذ من كل واحد من القسمين موقفا خاصا أما الاستقراء الكامل فقد أكد قيمته المطلقة من الناحية المنطقية وكونه على مستوى الطريقة القياسية في الاستنباط وأما الاستقراء الناقص فقد أرجعه المنطق الأرسطي إلى دليل قياسي يسير من العام إلى الخاص، وتنبع أهمية الدليل الاستقرائي من جهة أن جميع العلوم الطبيعية من فيزيائية وطبية وفلكية ونحوها كلها تعتمد الملاحظة والتجربة للانتهاء إلى التعميمات التي تصل إليها من هنا حاول المنطق الأرسطي إرجاع الدليل الاستقرائي الذي يسير من الخاص إلى العام إلى الدليل القياسي الذي يسير من العام إلى الخاص وذلك تخلصا من تلك الثغرة التي يتركب منها تكوينه المنطقي.

وكما بينا أن الدليل الاستقرائي في المنطق الأرسطي يستبطن قياسا، فهو في الحقيقة دليل قياسي يسير من العام إلى الخاص وليس دليلا استقرائيا يسير من الخاص إلى العام ويسمى المنطق الأرسطي هذا الدليل الاستقرائي بما يستبطن من قياس " تجربة" ويعتبر التجربة أحد مصادر المعرفة أي من القضايا اليقينية في المنطق الأرسطي ويؤمن بقيمتها المنطقية وإمكان قيام العلم على أساسها، قال المحقق نصير الدين محمد بن الحسن الطوسي في شرحه لكتاب "الإشارات والتنبيهات" للشيخ الرئيس ابن سينا: "المجربات تحتاج إلى أمرين أحدهما المشاهدة المتكررة، والثاني القياس الخفي، وذلك القياس هو أن يعلم أن الوقوع المتكرر على نهج واحد لا يكون اتفاقيا، فإذاً هو إنما يستند إلى سبب فيعلم من ذلك أن هناك سببا وإن لم يعرف ماهية ذلك السبب، وكلما علم حصول السبب حكم بوجود المسبب قطعا وذلك لأن العلم يسببية السبب وإن لم يعرف ماهيته يكفي في العلم بوجود المسبب والفرق بين التجربة والاستقراء أن التجربة تقارن هذا القياس والاستقراء لا يقارنه".

إذاً النقطة المركزية في المنطق الأرسطي هو أن الاستقراء الناقص لكي ينتج علما أو يقينا، لابد أن يستبطن قياسا خفيا، وفي مقابل ذلك يعتقد الشهيد محمد باقر الصدر انه يمكن أن ننتهي إلى النتائج الكلية من خلال الاستقراء الناقص نفسه وذلك من خلال قواعد المنطق الذاتي بلا حاجة إلى ما تكلّفه المنطق العقلي في الاتجاه الأرسطي من إرجاع الدليل الاستقرائي إلى الدليل القياسي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق