ريتشارد داوكنز وورطة الانتخاب الطبيعي - الجزء الثاني

بسم الله الرحمن الرحيم

رأينا في المثال السابق كيف أن ريتشارد داوكنز يسرد دقة عمل سونار الخفاش، وكذلك عين حشرة العثة، وكيف أنه يعتبر كل هذه الآليات الدقيقة عبارة عن: "ما نحن إلا أخطاء الدي أن أي، أخطاء تراكمت ليوجهها الانتخاب الطبيعي".

وقد بينا في مثالين، وهما مثال قفل التركيبة ومثال الجملة المقتبسة من رواية من روايات شكسبير، وقد اتضح لنا بأننا لو فرضنا 27 حرفا متكررة لـ28 مرة فقط، فإننا لن نحصل على ترتيب لهذه الحروف بصورة صحيحة إلا إذا افترضنا قوة واعية تتحرك باتجاه هدف معين.

وقد ثبت عندنا بأن الفرض الثاني، وهو أن التطور الداروني عبارة عن تغيير في الحروف للجملة المفترضة فقط، أي ليست عملية التغيير عشوائية، فإننا قلنا وبينا بأن ذلك غش، حيث إن فرضية التطور الدارونية تبنى على أساس عشوائية الانتخاب الطبيعي والطفرات الوراثية بدون هدف، فليس هناك غاية وهدف تروم الوصول إليه، ولو فرضت الغاية لكان غشا ومصادرة على المطلوب بصورة واضحة.

والآن سأضرب مثالين آخرين بسرعة ومن ثم أستخلص منهما النتائج بسرعة:

المثال الأول: عدد الأزواج الجينية في الحمض النووي البشري تزيد على 3 مليار قيد base pairs تمتد بطول 1.02 متر، كلها مخزونة في 23 كروموسوم.

إن احتمال أن يكون الحمض النووي للإنسان قد تطور بالتدريج، حتى لو فرضنا أن الوصف الثاني لريتشارد صحيح، أي مع افتراض غاية ولكن نريد أن نصل إليها عشوائيا، فإننا سوف ننتظر عمر الكون عشرات المرات لكي نحصل عليها، هذا إذا فرضنا أننا نحصل يوما على 100 طفرة جديدة، هل تعلمون بأنني حاولت أن أحسب الرقم على كومبوتري ولم أستطع حيث إن الرقم مهول لدرجة أنني لم أجد إلا برنامج matlab قادرا على حسابها!! ومع ذلك سوف نحاول حساب الاحتمال قدر الإمكان.

نحن نجد بأن هناك علما إجماليا وهو تكون الحمض النووي، وهناك محوران لهذا لعلم، أحدهما يتجه نحو إمكان تكون الحمض النووي، والآخر نحو استحالة تحقق ذلك.

ونجد بأن الفراغ الاحتمالي هو 3 مليار * 2 = 6 مليار فرادى، وحيث أن الحمض النووي يحتوي على أزواج، وحتى يتحقق عندنا تركيب صحيح فعندنا تركيب ل3 مليار قيد مزدوج، ولدينا أربعة أنواع من الجزيئات لتكون الحمض النووي هي A T C G، وهكذا نحن نريد تجميع 4 جزيئات في سلسلة طولها 3 مليار قيد على شكل أزواج.

باختصار: 4 جزيئات، على شكل ثنائيات، لـ 3 مليارات مرة.

إن طرق تجميع 4 جزيئات على شكل أزواج عشوائيا هي: توافيق 4 لـ 2 = 6، إذن عندنا 6 طرق، وهذا مع عدم أخذ الترتيب بعين الاعتبار، أي أننا لم نعتبر الترتيب عاملا مهما، فجعلنا AT يساوي TA، طبعا إذا كان الترتيب عاملا مهما، كانت القيم الاحتمالية أضعف، لأن قيمة المقام دائما تزيد، لكي نجمع تلك التراكيب الستة في سلسلة طولها 3 مليار بصورة عشوائية يكون فراغنا الاحتمالي 6 مرفوعة للأس 3 مليار = ولنعبر عنها بـ "س". يعني أن القيمة الاحتمالية لكل زوج سوف تكون 1/س، وحتى نكون 3 مليارات قيد مزدوج تكون النتيجة هي: (1/س)^3,000,000,000. من كان يملك سوبر كومبيوتر فليحسب القيمة لي ويعطيني النتيجة!!

حتى نشعر بالرقم ومدى ضآلته، فيكون احتمال تكوين الحمض النووي بصورة عشوائية هو:





وبالتالي فإننا نريد أن نحسب احتمال أن نصل للحمض النووي البشري من خلال تغييرات عشوائية في داخل حمض نووي موجود بالفعل، وهذا ما سيجعل عملية الحساب مستحيلة. بمعنى آخر، لو أننا أردنا أن نقوم بهذه العملية بسرعة الضوء، فإن الضوء سوف يقطع أضعاف أضعاف حجم الكون قبل أن نكمل العملية!!!

لنترك احتمال تكوين الحمض النووي عشوائيا، ولنأخذ فقط ما عبر عنه ريتشارد داوكنز بالأخطاء والطفرات العشوائية التي تكون الأرضية للتطور، نحن نحتاج لحصول تغيير عشوائي في أي زوج من هذه الأزواج إلى احتمال نفس ذلك الزوج مضروبا في نفسه ست مرات، لأن لدينا 6 طرق لتجميع الجزيئات المكونة للحمض النووي، بمعنى آخر رقم الاحتمال مرفوعا للأس ستة وليس للأس 3*10^9 كما في المعادلة أعلاه، فيكون الاحتمال لتغير زوج واحد فقط هو:





ولكن هذا التغيير يحتمل أن يكون للأحسن أو للأسوأ، وليس هناك مرجح لأن يكون التغير للأحسن أو للأسوأ، فاحتمال أي منهما هو 1/2، وهذه القيمة لابد أن تضرب في قيمة الاحتمال أعلاه، لتقل قيمة للنصف!

طبعا مع الأخذ بعين الاعتبار بأني قمت بتسهيل العملية بإلغاء عامل هو: أن ارباط الأزواج ليس عشوائيا، بل هو مشروط، بمعنى أن AT يقترنان دائما و CG يقترنان دائما، وهذا يضعف الاحتمال إلى الثلث، لأنه سوف يضيف عاملا عشوائيا يفرض اقتران تلك الجزيئات دائما بشكل عشوائي أيضا، أي أننا نضيف عاملا عشوائيا يخلق بيئة مشروطة ولكن مشروطة عشوائيا.

الآن نأتي للنتيجة الأهم، فنحن نعلم بأن الفارق بين الشمبانزي والإنسان هو بمقدار %1.5 فقط من الحمض النووي، والباقي متطابق، نريد أن نحسب ما هو احتمال أن يشترك الإنسان والشمبانزي بسلف واحد، نجد بأن هذه الـ 1.5 من إجمالي الحمض النووي هي 45,000,000 قيد، سوف أفترض بأننا بعيدون عن السلف المشترك ب 0.75 من القيود، أي أفترض بأن تغييرنا وتغيير الشمبانزي على طول الخط مختلف دائما بحيث أن كلانا يبتعد بمسافة متساوية من سلفنا المفترض، وذلك حتى أقوي الاحتمال لأساعد ريتشارد على إثبات وجهة نظره!، فيكون مجموع القيود هو 22,500,000 قيد، واحتمال تغير أي واحد منها قمنا بحسابه سلفا، والآن لنحسب احتمال تغير كل هذه القيود بالتدريج، لنجد بأن القيمة هي التالي:




وهكذا نستكشف أن احتمال أن ننتمي إلى سلف مشترك مع الشمبانزي هو فرض مضحك، حيث إن هذا الاحتمال يساوي الصفر بكل المقاييس.

فيتحصل عندنا ليس فقط استحالة هذه العملية (عملية التطور)، بل مدى سخف الاعتقاد بها، إذ أن العقل البشري مصمم بحيث لا يحتفظ بالقيم الاحتمالية الضعيفة والتي لو نظرنا إليها بالنسبة للقيم التي حصلنا عليها هنا لوجدنا أنها أقل من القطرة بالنسبة للمحيط.

النتيجة: يتحصل عندنا مجموعة من النتائج ملخصها:

  1. قمنا بتسهيل العملية ومحاولة إعانة ريتشارد وذلك بأننا لم نقم وزنا لترتيب المركبات في الحمض النووي، ولم نأخذ بعين الاعتبار اشتراط اقتران AT & CG وافترضنا أن أي مركب سوف يكون مقبولا، وهذا زاد قيمة الاحتمال بمقدار ثلثين، ومع ذلك بقيت القيمة صغيرة جدا وتقترب من الصفر.
  2. يستحيل تطوير حمض نووي بشري، حيث إن ذلك يستغرق أكثر من عمر الكون بآلاف المرات أو أكثر، إلا بافتراض أن هناك قوة واعية عالمة تدفع هذا التطوير، بمعنى آخر وجود خالق، ولا أريد أن أستعجل، حيث إنني سوف أبحث الفرضيات البديلة في القسم التالي، طبعا الاستحالة نابعة من كون أن ذلك التغير العشوائي إنما يفرض أن نصل إلى هذه النتيجة التي وصلنا إليها، وإلا فهو غير مقبول، وهذا أيضا يؤدي إلى تساؤل: ما هو السر في عدم وجود آلاف بل ملايين الأجناس القريبة جدا من الإنسان؟ إذا كان هناك تطور عشوائي، فعلى الأقل ذلك يجعلنا نرى أجناسا أقل ذكاء منا وأكثر ذكاء من الشمبانزي نقوم بتسخيرها لتعمل لخدمتنا مثلا، كما نفعل مع الحمير أو غيرها من الحيوانات، فما هو السر في هذه الطفرة الكبيرة بين الإنسان والشمبانزي مع انعدام الكائنات الوسطية بينهما؟
  3. يستحيل أن نكون قد تطورنا نحن والشمبانزي من سلف مشترك، إذ أن ذلك ليس افتراضا أفضل من سابقه، إلا إذا افترضنا قوة واعية تدفع باتجاه معين في عملية التطور.
  4. فرضية التطور بناء على الانتخاب الطبيعي العشوائي، تعتبر عملية مستحيلة علميا وعمليا.
***

المثال الثاني: تشير الدراسات، بأن الحد الأدنى من البروتينات لتكوين أدنى صورة للحياة هي من 250 إلى 450 بروتين، ويشترط أن تكون مرتبة بصورة معينة، وأن تتواجد دفعة واحدة، أي أنه من غير المقبول أن يتواجد بعضها ومن ثم بعض آخر يضاف وهكذا، بل تواجدها سويا دفعة واحدة.

سوف لن أتعمق كثيرا في هذا المثال بل سأنتقل من المقدمات إلى النتائج بأسرع ما يمكن، إذ أن المسألة أصبحت واضحة المعالم من خلال المثال السابق.

لو فرضنا بأننا نحتاج فعليا إلى 20 بروتين فقط لتكوين حياة بأبسط صورها، فقط تغذية وتكاثر، أي نستبعد أي نشاط حي آخر سوى التغذية والتكاثر، ما هو الاحتمال في أن تتجمع هذه البروتينات صدفة بدون أي عامل خارجي واعي؟ وما هو الضامن لأن تتجمع هذه البروتينات بالترتيب الصحيح؟

لنفرض بأننا لا نملك إلا 250 بروتين في الطبيعة، مع العلم بأننا لابد من اختيار العشرين من 1500 بروتين تدخل في تكوين الخلايا، فيكون احتمال تجميع 20 بروتين من هذه الـ 250 بروتين مع إغفال الترتيب أيضا هو واحد من:


أحببت أن يسمع القارئ الكريم بالأوكتليون والسيبتيليون والسيكتيليون والكوادراليون لعله لم يسمع بها!

هذه العملية وهي عملية تجميع البروتينات الضرورية لتكوين الخلية لابد أن تكون دفعة واحدة، أي كرمي حجري نرد مرة واحدة، ولا يمكن أن تكون تدريجية، وليس لريتشارد داوكنز الاعتراض لأنها بالفعل عملية دفعية لا تدريجية.

فتخيل بأنك تمسك بـ 250 بروتين، فتقوم برميها جميعا على الأرض، فتتحقق حالة واحدة فقط من مجموع الحالات المذكورة في الرقم الفلكي أعلاه، تخيل أن الصدفة تفعلها! عندها فقط ستؤمن بأن الحياة صدفة، وساعتها أطلق ساقيك للريح واركض بأسرع ما استطعت، لأن الصدفة قد تصنع لك وحش اسباكيتي طائر يتغذى على الأنوف!!! وكل إنسان يخاف على أنفه.

لا أريد أن أطيل، فهناك كما تعودنا محوران المحور الأول هو إمكانية ذلك، والمحور الثاني هو عدم إمكانية ذلك، يمكن أن نطلق على المحور الأول بمحور صدق القضية، والثاني بمحور كذب القضية. ونستطيع بنظرة خاطفة أن نرى بأن إمكان صدق القضية أمر شبه مستحيل، لأن جميع الظروف والإحتمالات تدفع باتجاه عدم إمكانية ذلك حتى على مر ملايين السنين، بل مليارات السنين على فرض أن هذه العملية تتم كل يوم مئة مرة!

***
  • نتائج وتوضيحات
يتلخص عندنا مما ورد في الجزء الأول من المقال وأمثلة الجزء الثاني من المقال عدة أمور أهمها هو أن القضية التي نقوم بحساب إمكان صدقها هي التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي، وهذه القضية تنطوي على محورين، أحدهما هو صدق القضية والثاني هو كذبها.

وقد توقفنا على أربعة أمثلة علمية تعطي نتائج هامة باستخدام نظرية الاحتمالات، وهذه الأمثلة هي الجملة المقتبسة من إحدى روايات شكسبير، وقفل التركيبة، ومثال الحمض النووي، وأخيرا مثال البروتينات الضرورية لنشوء الحياة. جميع هذه الأمثلة أعطت صيغة مشترك تقوي محور كذب القضية وبالمقابل تضعف محور صدقها، القيم التي تضعف محور صدق القضية تقتقرب من الصفر في جميع الأمثلة، وبالمقابل فإن محور كذبها يتجه صوب الواحد الصحيح وهو رقم اليقين.

إن الفكر البشري كما بينا في الجزء الأول من المقال، مبرمج لأن لا يحتفض بالقيم الاحتمالية الصغيرة جدا، والتي تعد هامشية، والعقل البشري مصمم أيضا لكي يولد اليقين من خلال المقدمات، بالتالي فإن هذه القضية لا تعد بعد ذلك أمرا احتماليا بل تعتبر يقينية الكذب، وينتج بالضرورة أن قضية التطور بواسطة الانتخاب الطبيعي هو قضية يقينية الكذب ومستحيلة الحدوث.

بعد هذه النتيجة سوف نحتاج إلى فرضيات بديلة، فليس من المقبول رفض هذه النظرية ببساطة بدون إعطاء البدائل المنطقية والتي تخضع لنفس الشروط العلمية التي أخضعنا الفرضية الأولى لها، ولكن قبل الحديث عن الفرضيات البديلة لابد من إعطاء نبذة عن قضيتين مهمتين في نظري، وهما: السببية، والتصميم الذكي.

السببية: هي مبدأ أن لكي شيء سبب، أعم من كون ذلك السبب سببا ماديا أم وراء المادة. تنوع فهم السببية إلى مذاهب متعددة، فمنها السببية العقلية التي يؤمن بها المنطق الأرسطي والمنطق الذاتي، وهذا النوع من السبيبة هو ما نؤمن به، والسببية التجريبية التي يعبر عنها بالقانون السببي في المنطق التجريبي.

والفرق الرئيسي بين السببية العقلية والسببية التجريبية هو أن الأولى تستبطن الضرورة العقلية أما الثانية فلا تؤمن بالضرورة العقلية، بمعنى ثاني، هو أن السببية العقلية تؤمن بأن الحادث لابد أن يكون له سبب، ويستحيل أن ينفسك السبب عن ذلك الحادث، فلا يمكن عقلا حدوث أمر ما بدون سبب حتى وإن كنا نجهل أو غافلين عن ذلك السبب، ولا العكس، أي لا يمكن أن يوجد السبب ولا يوجد الحادث، بينما السببية التجريبية تؤمن بأن الحوادث إنما تتابع لا لضرورة، فالحراة تتولد عن النار لا لضرورة، بل الحرارة تتلو النار بصورة طبيعية باطراد، والإنسان هو من يبني هذه العلاقة في ذهنه، ومن الممكن أن توجد نار ولا تولد حرارة، إذ لا ضرورة عقلية بين النار والحرارة. طبعا هنا يتضح أن السببية العقلية تؤمن بأن هذه العلاقة العقلية بين السبب والمسبب هي علاقة موضوعية واقعية والعقل ينتزعها من الواقع الموضوعي، أما السببية التجريبية تؤمن بأن العقل هو من يولد هذه العلاقة، فلا وجود واقعي لها في الواقع الموضوعي.

هذا ما ترتبت عليه نتائج فهمهم وقبولهم لنظرية التطور وغيرها، حيث إنهم بنوا على هذه الفكرة عن السببية وبالتالي جعلوا للصدفة دورا في مواضع حساسة من الفكر الإنساني، على الرغم من أنهم لا يقبلون هذه النظرة في المواضع التي تتعلق بالدين، فهم يرفضون أشد الرفض فكرة الأسباب الغير مادية ويحصرون مبدأ السببية بالأسباب المادية، وبالتالي فإنهم ينكرون الفاعلية من وجودات غير مادية مثل الملائكة والله وبالتالي فإنهم ينكرون وجود مثل هذه الموجودات، ولهذا فهم ينكرون المعجزات ويعتبرونها خرقا غير مبرر لقوانين الطبيعة فتصنف مع الخرافات، ولكنهم يرفضون في نفس الوقت المبدأ العقلي الذي يقيد هذه القوانين ويجعلون التتابع بين الحدث وسببه اتفاقيا محضا! وهذا من المفارقات العجيبة والتناقضات الغريبة.

يقول الدكتور عبد المحسن صالح في كتابه "الإنسان الحائر بين العلم والخرافة": "فلقد رأى الإنسان القديم مثلا من ظواهر الطبيعة أمورا حيرته أشد حيرة، فأثارت مخاوفه، وشحذت خياله، ومن ثم فقد بدأ في استنباط تفسيرات تتلاءم وإدراكه البدائي أو البسيط، ومن هذه التفسيرات الخاطئة للظواهر الكائنة، نبتت الخرافات، وترعرعت الخزعبلات، وانتشرت الأساطير في كل المجتمعات!"

ويقول في موضع آخر: "كل هذه الأمور وغيرها -من ظواهر طبيعية-، لا ريب في أنها أفزعته وأخافته، وطبيعي أنه لا يستطيع أن يدرك مغزاها ومعناها كما ندرك نحن ذلك في أيامنا الحاضرة، ومن هنا تجسدت في خياله قوى أسطورية أكبر منه وأعتى، فأرجع ما رآه إلى آلهة وأشباه آلهة تمسك بمقاليد الأمور، وتتحكم في الأمطار والبرق والرعد والزلازل والبراكين والرياح .... إلخ".

وفي موضع آخر: "فالذي يتحدث عن الخزعبلات والخرافات، ويرجعها إلى ما يسميه بالمعجزات، لا يدرك شيئا من نواميس الكون والحياة." وبعدها بفقرتين يقول: "لكن ذلك لا يعني أن ما نعجز عن إدراكه الآن، نعيده إلى المعجزة، بل يعني أن الوقت لم يحن بعد لإدراكه، لقصور نسبي في مفاهيمنا الحالية." ويقول: "إذا بزغ نور العقل، ولى زمن المعجزات!".

وأخيرا: "وسوف يتبين لنا في ثنايا هذا الكتاب أن العلم منهج عقلي تجريبي واضح، لأنه يستقي قوته وصموده من خلال النظم الطبيعية والبيولوجية والكونية التي يحاول دائما أن يعرف الأسرار الكامنة فيها، ومن خلال هذه المعرفة ندرك أن الكون والحياة قد جاءا بنظم لا يأتيها الباطل ولا يمكن أن تتخللها فوضى، إنما الفوضى قد تنبع من العقول التي تقفز إلى الاستنتاجات قفزا، دون تقصي الأسباب التي تؤدي إلى مسبباتها.".

نلاحظ جليا كيف أن الدكتور عبد المحسن يدافع عن قانون السببية، وهو يرفض بشدة القانون السببي الذي يقول به المنهج التجريبي، وكأنه من المتبنين لمبدأ السببية العقلي لا التجريبي، حيث إنه يرفض رفضا قاطعا أي عامل خارجي قد يعطل نظام السببية في الكون! ولكن مبدأ الانتخاب الطبيعي لا يعطل فقط قانون السببية بل يهدمه من الأساس، فهو مبني على عامل الصدفة والعشوائية اللذان ينتجان أجيال جديدة، بل اللذان ينتجان كائنات معقدة من حيث مشاعرها وسلوكها وتعابيرها مثل الإنسان، وجعله مختصا بكل الصفات التي يعجز عن إيجادها الحيوان، كالتعابير العاطفية كالحزن والفرح والسرور، ولغة الإشارة واللغة المنطوقة، بل ما يتميز به الإنسان من إمكانية توريث الفكر والمعرفة، والعيش في مجتمعات منظمة، كل هذا وليد الصدفة العشوائية! فأين السببية من كل ذلك؟!

التصميم الذكي: إن ما يدعو كل المشككين بمبدأ التصميم الذكي هو أنه يفترض قوة حكيمة تدير شؤون الكون وتدفع به باتجاه التكامل من خلال حركة جوهرية تطال أدق مفاصل الكون، ولكن هذه الحركة الجوهرية قد تكون طبيعية وقد تكون مختارة لها إرادة حرة. فمبدأ التصميم الذكي هو المبدأ القائل: لابد من قوة أو عامل واعي ذكي وراء إتقان القوانين وعملها في الكون بصورة عامة، أعم من كونها تختص بالذرة أو بالخلية أو غيرها.

الغريب هو أن هذا المبدأ على الرغم من أن له شواهد واضحة في العالم، إلا أن الملحدين يحاربونه بشعوائية، بل يجرمون القائلين به، وكأن القول بمبدأ التصميم الذكي يلازم القول بمبدأ الخلق، ولو تلازم فإن مبدأ الخلق يتنافى والأخذ بالنتائج العلمية!!

الخلق: حتى نستطيع أن نرى كيف أن الخلق كمفهوم لا يتنافى والنظريات العلمية التي تتحدث عن كيفية نشوء الكون والمادة والحياة العضوية، لابد من فهم مبدأ الخلق، ولابد أن نفرق جيدا بينه وبين مبدأ الأمر الإلهي، سوف أتحدث باختصار شديد، وأسأل أن يوفقني الله لدخول بحث تفسيري يتعلق بهذه المسألة لاحقا.

الخلق يختص بميزة مهمة، وهي التدريج والمرحلية، فعندما نأتي إلى الآيات التي تتحدث عن الخلق نجدها تعطي صيغ فيها إيحاء بالتدرج والمرحلية بشكل واضح، وهذه مجموعة من الآيات:

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَاماً فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْماً ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون : 14]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاء إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّى وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ [الحج : 5]

وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ [قـ : 38]

فنجد بشكل واضح أن عملية الخلق تأخذ طابع المرحلية، الخلق عملية تدرج ومرحلية، وتقتضي أن تكون متحركة من نقطة سابقة إلى نقطة لاحقة.

أما الأمر الإلهي فلا تدرج ولا مرحلية فيه، وهو ما عبر عنه: وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ [القمر : 50]، أو: قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ [آل عمران : 47]، أو: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ [يس : 82].

ولهذا فإن التفسيرات العلمية التي تتحدث عن نمو تدريجي للكون، أو الانفجار العظيم أو غيره من تفسيرات للتطور إنما تكون مندرجة تحت عملية الخلق، باعتبارها سير طبيعي.

ومن هنا ننطلق لنتحدث عن الفرضيات البديلة لمبدأ الانتخاب الطبيعي، فنحن لا نرفض نظرية التطور بالكلية، بل نرفض مبدأ الانتخاب الطبيعي بصورة قطيعة، فنظرية التطور إن قام عليها دليل علمي لا مانع لدينا من قبولها، ولكن بشرط أن يقوم دليل علمي جازم مع الأخذ بعين الاعتبار طريقة تفسير هذا التطور.

القرآن الكريم يقول: ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ [المؤمنون : 14]، فقد وصف نفسه بأحسن الخالقين بعد أن ذكر آخر مرحلة من مراحل خلق الإنسان، وهي التي وصفها بالخلق الآخر، فلو نظرنا من وجهة نظر تطورية لن يتنافى تفسيرها مع هذه الآية، كون الإنسان أسمى وأشرف مخلوق في هذا العالم، ولا يوجد ما يجاريه في الكون كله من سمو في إمكانياته وملكاته، ولكن بشرط أن يقوم دليل قاطع على سلف مشترك بين الإنسان والشمبانزي، وسنبين أنه لا دليل قاطع حتى الآن، وكل ما يرد هو مصادرات على المطلوب من قبل أنصار التطور، وكأن التطور داحض لفكرة الخلق، ويالأسفي على غفلتهم..

  • الفرضيات البديلة
لقد قمت بعملية استقراء بسيطة للفرضيات البديلة لمبدأ الانتخاب الطبيعي، ووجدت أهم وجهين هما:
  1. فرضية الخالق الحكيم، أو بتعبير آخر الصانع الحكيم.
  2. فرضية الضرورة العمياء في المادة.
  • الفرضية الثانية: الضرورة العمياء في المادة
سوف أبدأ من هذه الفرضية، وأترك الفرضية الأولى لأتكلم عنها لاحقا. إن فرضية الضرورة العمياء في المادة إنما تتلخص في أن الحركة (المقصود بالحركة: الحركة الجوهرية التي تتجه بالمادة نحو التكامل والتغير إلى الأفضل) والتطور في المادة ناشيء من المادة نفسها، أي أن المادة هي العلة المحركة لنفسها، حيث إنها تتجه صوب التكامل والتطور، والتطور نحو إنتاج أجيال أعقد كميا وكيفيا عن الأجيال السابقة، وبالتالي فإن المادة تتحرك باتجاه التكامل لأنها تنتج أنواعا أعقد وأشمل وأكمل من الأنواع السابقة، والتطور هنا أعم من كونه بايولوجيا أو فيزيائيا، فتكون الكواكب من مجموعة من الذات والحديد والنحاس والذهب كلها تختلف عن بعضها البعض مع اشتراكهم في وحدة التكوين وهي الإلكترونات والبروتونات والنيوترونات والكواركات وغيرها من مكونات الذرة، كل ذلك تطور وتكامل كيفي وكمي، وكذلك التطور البايولوجي في النوع الواحد أو من سلف مشترك بين الأنواع على فرض صحته، ويمكن الاستفادة من النص التالي:

"المادة في حركة مستمرة وتطور دائم، وهذه حقيقة متفق عليها بيننا جميعا والحركة تحتاج إلى سبب محرك لها. وهذه حقيقة أخرى مسلمة بلا جدال -حيث إننا نجد بأننا ندعي أن الحركة سببها نفس المادة المتحركة-. والمسألة الأساسية في فلسفة الحركة، هي ان المادة المتحركة، هل يمكن ان تكون هي علة للحركة وسببا لها؟ وفي صيغة أخرى ان المتحرك موضوع الحركة، والمحرك سبب الحركة، فعليه يمكن ان يكون الشيء الواحد، من الناحية الواحدة، موضوعا للحركة وسببا لها في وقت واحد؟

والفلسفة تجيب على ذلك، مؤكدة أن من الضروري تعدد المتحرك والمحرك، لأن الحركة تطور وتكامل تدريجي للشيء الناقص، ولا يمكن للشيء الناقص ان يطور نفسه، ويكمل وجوده تدريجيا بصورة ذاتية، فان الناقص لا يكون سببا في الكمال.

وعلى هذا الأساس وضعت في المفهوم الفلسفي للحركة قاعدة ثنائية بين المحرك والمتحرك، وفي ضوء هذه القاعدة نستطيع ان نعرف ان سبب الحركة التطورية للمادة في صميمها وجوهرها، ليس هو المادة ذاتها، بل مبدأ وراء المادة، يمدها بالتطور الدائم، ويفيض عليها الحركة الصاعدة والتكامل المتدرج.


وعلى العكس من ذلك المادية الديالكتيكية، فإنها لا تعترف بالثنائية بين المادة المتحركة وسبب الحركة، بل تعتبر المادة نفسها سببا لحركتها وتطورها.

فللحركة -اذن- تفسيران:

  • أما التفسير الديالكتيكي، الذي يعتبر المادة نفسها سببا للحركة، فالمادة فيه هي الرصيد الأعمق للتطور المتكامل. وقد فرض هذا على الديالكتيك القول،بأن المادة منطوية ذاتيا على الاطوار والكمالات، التي تحققها الحركة في سيرها المتجدد. والسر في اضطرار الديالكتيك إلى هذا القول، هو تبرير التفسير المادي للحركة، لأن سبب الحركة ورصيدها، لا بد ان يكون محتويا ذاتيا على ما يمون الحركة ويمدها به، من أطوار وتكاملات، وحيث ان المادة عند الديالكتيك، هي السبب الممون لحركتها، والدافع بها في مجال التطور... كان لزاما على الديالكتيك ان يعترف للمادة بخصائص الاسباب والعلل. ويعتبرها ذاتيا على جميع النقائض التي تتدرج الحركة في تحقيقها، لتصلح ان تكون منبثقا للتكامل وممونا أساسيا للحركة. وهكذا اعترف بالتناقض كنتيجة حتمية لتسلسله الفلسفي، فنبذ مبدأ عدم التناقض، وزعم ان المتناقضات مجتمعة دائما في محتوى المادة الداخلي، وإن المادة بهذه الثروة المحتواة تكون سببا للحركة والتكامل.
  • وأما التفسير الإلهي للحركة، فيبدأ مستفهما عن تلك المتناقضات، التي يزعم الديالكتيك احتواء المادة عليها، فهل هي موجودة في المادةجميعا بالفعل، أو إنها موجودة بالقوة -أي ممكنة التحقق-؟ ثم يستبعد الجواب الاول نهائيا لأن المتناقضات لا يمكن لها -بحكم مبدأ عدم التناقض- أن تجتمع بالفعل، ولو اجتمعت بالقوة. ومعنى وجودها بالقوة، ان المادة فيها استعداد لتقبل التطورات المتدرجة، وإمكانية للتكامل الصاعد بالحركة. وهذا يعني إنها فارغة في محتواها الداخلي عن كل شيء، سوى القابلية والاستعداد. والحركة في هذا الضوء خروج تدريجي من القابلية إلى الفعلية، في مجال التطور المستمر، وليست المادة هي العلة الدافعة لها، لأنها خالية من درجات التكامل، التي تحققها أشواط التطور والحركة، ولا تحمل إلا إمكانها واستعدادها. فلا بد -اذن- من التفتيش عن سبب الحركة الجوهرية للمادة، وممونها الأساسي خارج حدودها، ولا بد أن يكون هذا السبب هو الله تعالى، الحاوي ذاتيا على جميع مراتب الكمال."
فهنا لابد من تفسير السير والحركة التدريجي الذي يحدث للمادة، فمطلق تفسيرها بالضرورة العمياء أو الضرورة في المادة غير كاف، لأننا وجدنا سابقا بأن مبنى الضرورة العمياء ينسجم مع العشوائية ولا يمكن أن ينسجم مع الوعي، فبتعبير النص السابق "فلا بد -اذن- من التفتيش عن سبب الحركة الجوهرية للمادة، وممونها الأساسي خارج حدودها" فلا يوجد رصيد في المادة نفسها، وإلا فكيف وجد هذا الرصيد من التطور، وما هو الذي يرجح ظهوره بصورة دون أخرى؟ وما هو الدافع لنمو المادة وتكاملها كمّا ونوعا؟ كل هذه أسئلة لا إجابة عنها عند هذا المبنى، إلا ما قدمته المادية الديالكتيكية من تفسيرات واضحة الضعف.

  • الفرضية الأولى: فرضية الصانع الحكيم
وهذه الفرضية تحتوي على شقين، الأول: فرضية التطور بدفع ورعاية من قبل الله سبحانه وتعالى، الثاني: فرضية الخلق بصيغ مختلفة تماما عن فكرة التطور.

والشق الأول يحتاج إلى إقامة دليل على المرحلة الثانية من نظرية التطور، فنحن نضع الآن الخالق سبحانه بديلا للعشوائية، فيصبح هو الشرط في تحقق التطور، وهذا مقبول من الناحية العلمية، إذ أن الاحتمال المشروط يسير دائما نحو رقم اليقين أي الواحد الصحيح، ففي كل الأمثلة السابقة بوضع الله تعالى كشرط لتحقق التطور في الحمض النووي أو نشوء الحياة بتجمع البروتينات الضرورية، فإن هذا الشرط هو ما يرفع قيمة الاحتمال عاليا وفق نظرية الاحتمال، وبالتالي فإنه يزيد في رصيد محور صدق القضية لا كذبها، على العكس من الاحتمال المستقل في الانتخاب العشوائي الذي يضعف هذا المحور ويزيد في رصيد محور كذب القضية.

ولكن الدليل الذي يحتاجه هذا الفرض هو على التطور بحد ذاته، وأود أن أؤكد هنا على أن التطور الذي أقصده هو ما يعرّفه دارون: "تطور الأنواع كلها من سلف مشترك"، لا مطلق التطور في النوع الواحد، وهذا الأمر مما لم أجد له دليلا قاطعا حتى هذا اليوم في نظري، ولكن أعود لأقول بأنه أمر يتعلق بعلماء البايولوجي أكثر من أي شخص آخر، ولهذا أفضل عدم النقاش فيه.

والشق الثاني هو نظرية قرآنية متكاملة، ولكن البحث فيها يطول كثيرا، ولا أود أن أدخل فيه الآن، وأسأل الله العلي القدير أن يمكنني من الدخول مستقبلا في بحوث قرآنية عن الخلق والأمر الإلهي، لأطرح نظرية القرآن الكريم بالقدر الممكن حول النشوء وكيفية الخلق، طبعا حتى ولو طرحنا هذه البحوث فإن البحث في الميدان العلمي لا يتوقف، فهو مستمر لكي نصل إلى نظرية تفسر علميا كيفية نشوء الكون ونشوء الحياة على الأرض، مع الأخذ بالاعتبار عدم التنافي ولا التناقض بينهما، بل القرآن الكريم أيد وأكد على ضرورة البحث العلمي، وكفى بقوله تعالى هذا شاهدا: يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانفُذُوا لَا تَنفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ [الرحمن : 33]، وقد تبين لنا أن البحثين لا تناقضان ولا ينفكان عن بعضهما أيضا.

والحمد لله رب العالمين

***
لقد بقي بعض الأمور العامة التي أريد التعليق عليها، وطرح بعض الإشكالات التي تثري الموضوع، فهناك مجموعة من النتائج الخطيرة على الإنسانية التي بنيت على أساس أن الإنسان تسوقه الطبيعة، وأن العوامل الطبيعية هي الأساس في صياغة مصير الإنسان لا العكس، وأن العشوائية تنتج النظام على المدى البعيد!

  1. نفي مبدأ التصميم الذكي وتجريم القائلين به: فقد أصبح هناك توجه في الصرح العلمي في الغرب لتجريم وقمع كل القائلين بأي مبدأ يخالف مبدأ الانتخاب الطبيعي العشوائي، حتى أنهم افترضوا بأن العقل البشري يسير بصورة عشوائية للوصول إلى نتائج تطورية!! ولكن التصميم الذكي هو الفرض الوحيد الصالح في قبال الإنتخاب الطبيعي العشوائي والذي ثبت عندنا مدى بعده عن الصحة ومدى ضعف محاولته في تفسير النشوء. فريتشارد داوكنز الآن في ورطة، إما القبول بالنتائج العلمية التي انتهينا إليها وقبول مبدأ التصميم الذكي وبالتالي انهيار صرح إلحاده، أو رفض مجمل النتائج العلمية التي يتم إثباتها بنفس الطريقة فينهار الصرح العلمي كله، فماذا يختار يا ترى؟
  2. ينطلق الدارونيون من منطلق صحة النظرية في تفسيرهم لأي ظاهرة بايولوجية وكأنها من المسلمات، وذلك كله اعتمادا على مبدأ الانتخاب الطبيعي العشوائي الذي ثبت عندنا خطؤه، فهم يأتون لتكون الجنين فيقولون بأنه تطور بالطريقة الكذائية أو الكذائية، ولكنهم يغفلون عن أن عملية تكون الجنين هي مرحلة لاحقة لتطور الجنس، فكيف تطور الجنس في الرتبة السابقة؟ لا يوجد إجابة. فهذا النحو من التكاثر بواسطة زوج من الكائنات المختلفين في الجنس ليس له مبرر منطقي من وجهة نظر النظرية، فلماذا لا نجد 70 جنسا عند البشر مثلا كلهم يتكاثرون بطرق مختلفة بناء على تطور عشوائي، بل لا نجد إلا جنسين الأنثى والذكر هم القادرون على التكاثر، كأي كائن حي آخر؟! لا إجابة.
  3. مبدأ الفوضى الخلاقة هو من النتائج الخطيرة التي يعتمد عليها الإحتلال الحديث في منطقه، فهذا مبدأ قد اعتمدت عليه الولايات المتحدة في المنطقة لبناء الشرق الأوسط الكبير!! والفوضى الخلاقة ما هو إلا تعبير آخر عن الانتخاب الطبيعي العشوائي، أليس كذلك؟! وَيْلَنا من هذه النظرية وتبعاتها الهمجية التي دمرت العالم ولا تزال تدمر!! ثم يأتون ليتهجموا على الدين باعتباره سبب الخراب، فعلا عجيب هذا العالم كيف اصبح يعيش أزمة موازين.
  4. مبدأ البقاء للأصلح، والانتخاب الصناعي الذي يبنى على نفس فكرة الانتخاب الطبيعي في بقاء النوع الأصلح، هو ما دفع هتلر لإبادة المعاقين والمرضى، فكان يبيد من 60 إلى 70 معاقا يوميا وبالتالي أباد مئات الآلاف من الابرياء، وهل تتصورون بأن الحملة انتهت، أبدا فهي لا تزال كما هي، وهذه الحملة تحولت إلى حركة اليوجينكس التي تعنى بتحسين النسل، وهي تعنى بقطع نسل الأشخاص القليلي الذكاء في الولايات المتحدة، وقد قامت بقطع نسل (تعقيم) أكثر من 50,000 بداعي ضعف في قدراتهم العقلية، ثم توقفت وتحولت إلى منظمة مدنية بعيدة عن العمل الطبي، ولكنها بقيت تدعو ولها أنصارها، ولعل الجميع سمع بجمعيات تحديد النسل وتحسينه. للاطلاع أكثر يرجى مراجعة المقال التالي يوجينكس
  5. من التبعات الخطيرة التي لحقت بالمجتمع الغربي بعد دعوات تحديد النسل، هو تقليل معدلات الإنجاب مما جعل المجتمع الغربي يدخل مرحلة الأزمة، ما حدا به لقبول الهجرات الخارجية لتعويض الأيدي العاملة وإبقاء الاقتصاد حصينا، وقد تكلمت أكثر في مقالات سابقة تحت قسم "الرؤية الإسلامية للعالم" في المدونة.
هذا الموضوع طويل والنتائج التي من الممكن استخلاصها كثيرة، ولا يسع المقام لسردها، وأسأل المولى عز وجل أن يمكنني من كتابة مقال مستقل عنها.

مع التحيات
ليث



هناك 4 تعليقات:

  1. غير معرف2/24/2012 11:07 ص

    لقد نسي الكاتب الكريم (أو تناسى) أن المواد موجودة بالأوكتليون والسيبتيليون والسيكتيليون والكوادراليون فهو ركز حساباته على احتمال ان تحدث هذه الصدفة في مجموعة قليله ومحدوده من هذه المواد (وكما ضربت مثال بالخزنة مثلاً فتذكر أن هناك ملايين الخزنات وملايين المحاولات التي تتزامن بنفس الوقت) واخذ يجمع ويطرح على هذا الأساس وتناسى أن الكون مليء بها وان الاحتمالات ستقل بشكل دراميتيكي ويصير من شبه المؤكد ان تحدث هذه الصدفة وانها مسألة وقت (قصير بالنسبة لعمر الكون). الآن اريدك أن تعيد حساباتك مع اخذ هذه النقطة بالاعتبار وتعطينا النتيجة وسوف تكتشف ان التطور متأخر قليلا لأن أمثالك خرجوا ليعيقوه :)

    ردحذف
  2. قبل البدء بحل إشكالكم سيدي العزيز، أود أولا أن أؤكد لكم بأنني لم أنسى ولا تناسيت ما تفضلتم به، بل قمت بتوضيحه مطولا في طيات المقالين، وسوف أقوم بتوضيحه أكثر.

    لابد أولا التمييز بين الاحتمالات المشروطة مقابل الاحتمالات المستقلة وهي محل الإشكال، فلو فرضنا أن جميع الاحتمالات مشروطة فإن إشكالكم وارد بصورة واضحة، ولكن لما كانت الاحتمالات مستقلة بمعنى عدم وجود ربط منطقي بين أي من الأحداث التي تحدث في الكون بمعزل عن بعضها البعض فإن الإشكال المطروح لا يرد، حيث تبقى جميع هذه المواد التي لا تعد ولا تحصى تخطو دائما الخطوة الأولى وتخضع لهذه المعادلة الشبه مستحيلة.

    فإن فرض حدوث أ (أو) ب، أو حدوث أ (و) ب، متساوي دائما، وهو في الاحتمالات المستقلة واحد لأن حسابهما مستقل ولا يوجد ضرف موضوعي يجمعهما.

    لو أخذنا على سبيل المثال الدي أن أي، فمن أين لنا أن نجزم بأن ملايين الأحماض النووية سوف تكون خاضعة لنفس شروط الطفرة الوراثية حتى تحصل فيها الطفرة من الأساس، بل جميعها تخضع لهذه المعادلة والتي تنتج يقينا استحالة موضوعية.

    وحتى لو فرضنا أنها احتمالات مشروطة لتكبير احتمال نجاحها في مسعاها للتطور، فإن الضرف الموضوعي المفترض هو مطابق وهذا غير ثابت علميا وعمليا لاستحالة استقصاء جميع الضروف في الكون، بل إن الضروف في مختبر صغير من المحال استقصاؤها، حتى في التجارب البسيطة، فلا يجزم العلماء بضرورة حدوث التجربة، بل يضعون لها احتمالا يكبر كلما توفرت مجموعة من الضروف المقاربة فيقل بالتالي هامش الخطأ ويكبر احتمال نجاح التجربة.

    فمن أين جاءكم الجزم بأن جميع هذه المواد المحصاة بالمليارات سوف تكون خاضعة لنفس ضروف الصدفة حتى تحدث؟

    أتمنى أن أكون قد أوصلت الفكرة بصورة أوضح حتى يتسنى للقارئ الكريم استيضاحها.

    ردحذف
  3. غير معرف9/12/2013 3:52 ص

    عزيزى ليث هنا ملاحظة رياضية : فى الاحتمالات المشروطة فان الحادثة المحتملة يكون احساب احتمالها مقسوما على قيمة احتمال الحادثة المشروطة بها وبالتالى يؤدى هذا الى تصاعد فى قيمة الاحتمال ...وعلى خلاف ذلك الاحتمالات المشروطة ....

    وفى حالة الصدفة فان الاحتمالات تكون غير مشروطة وبالتالى يتضائل الاحتمال بالضرب ...حيث لايوجد قسمة فى المقام

    تحياتى

    ردحذف
  4. بالضبط، فإن الاحتمالات المشروطة يدخل الشرط كعامل في تكبير قيمة محور القوة، بينما في الاحتمالات المستقلة فإن الاحتمال دائما يتجه نحو محور الضعف.

    ولهذا فإن تصاعد قيمة الاحتمال تقيد بوجود الشرط، وبخلاف ذلك فإن فرض تصاعد قيمة الاحتمال في الاحتمالات المستقلة غير وارد.

    ردحذف