المادية والإيمان بالله - عن المدونة

بسم الله الرحمن الرحيم

--------------------------------------------------------------

يزخر الإنترنت بالكثير من المدونات التي تحاول تبني الفكر المادي، أو بالأحرى إعادة إنعاشه بعد أن كان قد دخل مرحلة من السبات كفكر مطروح، والذي يقابله الفكر الإلهي أو الفكر المؤمن بوجود الإله.

الفكر المادي يلتزم به الملحد الذي يتبنى فكرة عدم وجود إله خالق أو حتى إله غير خالق، وأن المادة هي وجود أزلي (الأزلي هو غير المحدود من حيث الابتداء والأبدي هو غير المحدود من حيث الإنتهاء)، هذه الفكرة بالطبع تبطن إنكار النبوات أيضا، وتعتبر كل الأنبياء دجالين قاموا بما قاموا به لكي يسيطروا على الشعوب، ولكي يشبعوا شهواتهم المحدودة، وكذلك تستبطن إنكار الحياة الأخروية، أو المعاد، فتعتبر الوفاة حالة من العدم، أو ما يشبه الغيبوبة الدائمية.

فكرة الإلحاد المادية تعتمد اعتمادا كبيرا على نظرية علمية (بحسب مدعاهم)، مفاد هذه النظرية أن الطاقة لا تفنى ولا تستحدث، حيث إن المادة لا يمكن أن تفنى لأنها تتحول إلى طاقة، وتكثف الطاقة يولد المادة، فمذ الأزل كان العالم عبارة عن مادة متكثفة، ارتفعت درجة حرارتها، وحصل انفجار عظيم، نتج عنه تباعد الجزيئات عن بعضها، بعد ذلك بدأت درجات الحرارة بالانخفاض تدريجيا، وتكونت بذلك العناصر الطبيعية المادية بعد أن تكونت الكواكب والنجوم! تفسير جميل حقيقة.

إذن فالمادة ما هي إلا كمون في الطاقة، والطاقة ما هي إلى مادة قليلة الكثافة، وبالتالي فإن المادة والطاقة عبارة عن وجهان لعملة واحدة.

بعد ذلك بدأت تظهر التساؤلات الكثيرة، فمنها ما السر وراء نشوء الكائنات الحية على الأرض بعد نشوء الأرض؟، وبعد ذلك كيف تطورت تلك الكائنات البدائية إلى كائنات أكثر تعقيدا، وهكذا حتى وصلنا إلى نظريتين رئيسيتين يمكن تلخيصهما بكلمتين: "الخلية الأولى" التي خلقت نتيجة عوامل البيئة من الطين الأولي Preliminary soup، و"التطور" الذي جعلها تتكاثر وينتج بعد انتخابات طبيعية لا حصر لها الكائنات الحية جميعا إثر طفرات في هذا المركب الذاتي الانقسام، من المؤسسين لهذه النظرية الأخيرة أحد الهواة الأرستقراطيين داروين، وهو المنظّر الأساسي لنظرية تطور الأنواع.

وحتى يكون نقاش نظرية دارون علميا، ونقدها موضوعيا، أرى من غير المجدي مناقشة الأسس العلمية للنظرية من وجهة نظر بايولوجية. بل الأجدى هو نقاش النظرية من حيث مدى منجزيتها لليقين، فنحن أمام أطروحتين، الأولى نظرية الخلق الإلهية، والثانية نظرية تطور الأنواع المرتكزة على مبدأ الانتخاب الطبيعي. وبالتالي يتحول النقاش من نقاش حول وجهة النظر البايولوجية، إلى بحث في نظرية المعرفة ومدى حجم اليقين الذي تعطيه النظرية في قبال الأطروحة الأولى.

وبكلمة أخرى، نحن لا نبحث في أصل التطور وحدوثه، فهذا يمثل القضية العلمية، بل نبحث التفسير الفلسفي لهذا التطور، الذي يعد بعدا فلسفيا للنظرية، فنحن إما نفسر التطور تفسيرا ماديا، أو نفسره تفسيرا إلهيا.

وهذا يقودنا مباشرة إلى تقسيم منهجي للبحث الذي نود أن نستوفيه، حيث إن المنهج من أهم الأمور التي يجب أن تحدد قبل البدء في أي بحث. لابد أن يطرح البحث على عدة مستويات:

أولا - نظرية المعرفة، ومسؤولية هذا البحث تتلخص فيما يلي:
  1. الإستدلال على المنطق الذي يتوصل من خلاله العقل إلى النتائج، أي الطريقة العقلية في التفكير، وما أعتقده أن الملحدين يرتضون هذا المنطق، حيث إنهم من أعتى المدافعين عن العقل!. وكذلك نبحث كيفية الوصول إلى حقيقة إمتلاك العقل معارف ضرورية فوق التجربة، وهو بمثابة المقياس الأول في التفكير البشري، بحيث لا يمكن أن توجد فكرة علمية أو فلسفية بدون هذا المقياس العام، وما التجربة إلا أداة لتطبيق المقياس العقلي، ولا غنى للتجربة عن العقل، من أمثلة تلك المعارف الضرورية هو: استحالة اجتماع الشيء ونقيضه في مكان وزمان واحد، هذه الدراسة سوف تتطرق أولا إلى المذهب العقلي ومن ثم المذهب التجريبي، وفي فصل خاص سنتكلم عن المذهب الذاتي.
  2. دراسة قيمة المعرفة البشرية، والتوصل إلى مكانة المعرفة الإنسانية التي تبنى على المنطق العقلي في التفكير، وأن المعارف إنما يمكن التسليم لها بقيمة على أساس المنطق العقلي.
إن نظرية المعرفة تتجه بالجملة إلى اتجاهين تقليديين هما: المذهب العقلي، والمذهب التجريبي. والمذهب الثاني يتوقف عند المادة ليجعل للمادة الأصالة في الوجود وأنها منذ الأزل قائمة كما ذكرت آنفا (معنى أن المادة أصيلة هو: أن المادة هي الأصل في كل شيء، ولا يوجد شيء قبل المادة ولا بعدها)، ويجعل التجربة أساسا لكل معرفة في الواقع. وأود أن اتطرق لاحقا لأهم مذهب في نظري، والذي يقوم بالتأسيس والجمع لكلا المذهبين وهو مذهب حديث نوعا ما وغير معروف في أوساط العلماء، وهو المذهب الذاتي للمعرفة.

ثانيا - المفهوم الإسلامي للعالم، وهو مما يستحيل طرحه ما لم تتحدد قيمة المعرفة البشرية، وما يمكن أن تصيب فيه أو تخطيء، ما سوف يبحث في هذا المجال هو نظرة الإسلام للإنسان وموقعه في هذا العالم، وعلاقاته بأخيه الإنسان وعلاقته بالطبيعة.

وبالتالي سوف نصل إلى مفترق الطرق الأهم، وهو المادة أو الله؟ وهو المرحلة النهائية من مراحل الصراع بين المادية والإلهية. وهل أن فكرة "الله" تناقض ما يوحي به العلم الحديث، أو هل التفسيرات العلمية الحديثة كلها جملة وتفصيلا قد تستخدم كمؤشر على أن الله غير موجود؟

ما أتمناه من القاريء العزيز، ومن يستحق الخطاب ذو البصيرة والعقل الراجح، هو دراسة ما سيكتب في هذه المدونة دراسة موضوعية، وعدم إهمال جزء منه، حيث إن الترابط وثيق بين جميع ما سيكتب.

ستقسم المدونة حسب المواضيع، ليس هناك تسلسل زمني أكثر من الترتيب الذي سوف يوضع في المدونة كالتالي:

سوف نتكلم في هذا الجزء عن الرؤية الإسلامية وكيفية تفسيرها للعالم، نظرة الإسلام للإنسان، وطبيعة علاقاته بالإنسان أو المجتمع، وطبيعة علاقاته بالطبيعة، وكذلك حاجاته الضرورية للوصول إلى ما يهدف إليه من كمال. أي علاقة الإنسان بالمطلق، وكيفية بحثه عن الكمال الغير محدود.

بإمكان القارئ الكريم أن يجد في هذا الباب من المدونة أهم المباحث التي يتم نقدها في المدونات الأخرى وكيفية الاستدلال عليها من خلال دليل علمي مبني على أسس منطقية، سوف أحاول استخدام المنطق الاستقرائي (المذهب الذاتي في نظرية المعرفة) للاستدلال على جميع المواضيع، مع محاولة تبسيط المفاهيم لأقصى حد، وأعد القارئ الكريم بأني سأستجيب لأي نقد بناء يطال طريقة العرض محاولة لتبسيطها أو جعلها في متناول أكبر قدر ممكن من القراء.

لتتضح أهمية هذا المنهج: إن المنهج الاستقرائي هو نفس المنهج الذي يستخدمه العلماء لتبني النتائج من التجارب، وبالتالي فإن المتبنين للنظريات العلمية أمام خيارين لا ثالث لهما، إما إنكار المنهج العلمي التجريبي ونقض كافة النتائج المستنتجة من التجارب، وإما القبول بالاستدلالات المذكورة في العنوان باعتبارها تعتمد نفس طريقة البرهان.

سوف أقوم بدراسة أعمق للراغبين بالاطلاع على هذا المنهج، سيحتاج القارئ بعد ذلك أن يتسلح ببعض العلوم قبل الدخول في البحث -لن يحتاج القارئ أن يكون مختصا بل يمكنه أن يكون ملما ولو بصورة طفيفة-، من تلك العلوم الرياضيات، الإحصاء ونظرية الاحتمالات.

هنا سنتكلم عن المنهج الذي اتبعناه في الجزء الذي يتحدث عن موجز في أصول الدين، سيجد القارئ الكريم مجموعة من الحلقات التي تمت كتابتها بعناية لكي تصل لأكبر قدر من القراء، توخينا فيها أقصى حد من البساطة واليسر في الطرح.

هنا سيجد القارئ الكريم نفسه أما مجموعة من الحلول التي أوجدناها للكثير من المغالطات، تلك المغالطات التي لا تمت للإلهايت بصلة، فهي إما إشكالات علمية أو منهجية.

وما توفيقي إلا بالله، عليه توكلت وإليه أنيب،

ليث

هناك 6 تعليقات:

  1. غير معرف9/17/2010 5:09 م

    أخي بارك الله فيك و بارك لك ... عندي شوية اقتراحات في ما يخص طريقة العرض ..
    أولا لو سمحت أن تجعل للتعليقات نافذة بذاتها تظهر لمن يطلبها دون أن تتغير الصفحة
    ثانيا يا حبذا لو جعلت على صحفة المدونة أكثر من موضوع و خير من ذلك كل المواضيع او اغلبها .. حتى يتسنى لمن يريد الرجوع الى اول موضوع ان يلقاه بسهولة و يسر دون ان يضطر الى نقر "رسائل اقدم" عشرات المرات..
    و اخيرا و ليس آخرا استسمحك ان استعمل بعض بحوثك في تقاريري في المعهد و اعاهدك على الا انسبها لنفسي أو غيرك..
    ملاحظة.. كل تلك التعديلات التي اقترحتها عليك يسير الوصول اليها من خلال جزء الاعدادات في المدونة.
    و أيضا نقول "غير المحدود" لا "الغير محدود"

    و لن اكذب عليك حين اقول اني لم اصادف فيلسوفا في حياتي يدافع عن الدين و عن الذات الالهية.. بل جلهم ممن يتسابقون على انشاء النظريات التي تدحض-في نظرهم- وجود الاله.. فان كانت نيتك صافية خالصة لوجهه تعالى مالي ان اقول غير بارك الله فيك و نفعك بعلمك و نفع به امتك و جعله في ميزان حسناتك و رزقك بكل حرف كتبته لوجهه تعالى ثوابا..
    و ان كنت ممن يتخفون وراء الكلمات ذات الطابع الاسلامي و العبارات المحببة لقلوب المؤمنين و هو يحيك في الظل بعض الدسائس و يدس الفتن في القلوب و فمالي ان اقول غير هداك الله و لا حول و لا قوة الا بالله..
    كما اني لم افهم الداعي من وجود مدونات الحادية على الهامش ..اذ كنت تستطيع ان تورد بعض مقاطع مقالاتهم و ترد عليها ردا مبينا دون الحاجة الى تيسير الوصول اليها
    و السلام عليكم و رحمة الله

    ردحذف
  2. السلام عليكم ورحمة الله

    شكرا لكم لتشجيعكم إياي والشكر أيضا على ملاحظاتكم القيمة، سوف آخذ بها إن شاء الله وسوف أعدل طريقة عرض التعليقات.

    شكرا أيضا على التعديل اللغوي.

    بالنسبة للفلسفة الإسلامية فهي موجودة، وهي تدافع عن الدين منذ زمن بعيد إلا أنه أسيء فهمها ووصمت بطابع اليونانية تارة والمادية تارة أخرى، وإلا فإن الفلسفة الإسلامية على طول الخط ما هي إلا منهج عقلي منطقي لفهم وتفسير والدفاع عن المعارف الدينية. أنا من المتابعين والمتتبعين لآراء الفلاسفة منذ عصر الفارابي والشيخ الرئيس ثم شيخ الإشراق وبعده الملا صدرا الشيرازي فيلسوف الفلاسفة وشيخهم، وحتى الفلسفات الحديثة المعاصرة.

    ولهذا أحب أن أطمئنك على أن نيتي هي خالصة للدفاع عن هذا الفكر الأصيل والدين الحنيف، ولا يوجد فيها تلميع أو دس بتعبيركم.

    بالنسبة للمدونات الإلحادية هي بمثابة المصادر التي أرجع إليها في نقدي، وكان لزاما علي من باب الأمانة العلمية أن أضع روابط لها، حتى يتسنى للباحث أن يرجع إليها بيسر إن أراد.

    ردحذف
  3. غير معرف9/20/2010 8:04 م

    أخي الكريم أنصحك بتجاهل المدعو وليد فهو مجرد سفيه ومهرج.
    هناك غيره من الملحدين الباحثين عن الحقيقة بصدق واحترام وهم يستحقون وقتك ومجهودك أكثر بكثير من سفهاء الإلحاد.

    تحياتي.

    ردحذف
  4. شكرا جزيلا عزيزي،

    أنا أثني على كلامك، وهو كذلك، فقد قمت فعلا بتجاهل وليد تماما، ولم يعد يأخذ من حيز مصادري شيئا، ولا أعتمد إلا على مدونة جاد، ولا أزال أبحث عن ملحد ذو فكر يطرحه لكي أعتمد على آراءه في نقدي للإلحاد.

    كما ترى لقد قمت بإزالة مدونة وليد من قائمة المدونات الملحدة، ولم أبق إلا على مدونة جاد "العلم نور".

    شكرا جزيلا لاهتمامكم،
    أخوك ليث

    ردحذف
  5. غير معرف11/25/2010 10:23 ص

    اخي العزيز..
    جزيت خيرا كثيرا عما تقوم به.. في الحقيقة ليس في يدي شيء أدعمك به إلا الدعاء :)
    استمر .. وكن دائما على تواصل مع أفكار ملحدين جادين فهذا مثمر بشدة للطرفين .. وفقك الله

    محمد

    ردحذف
  6. أخي محمد،

    في الحقيقة دعاؤكم هو الدعم الحقيقي لي، أشكرك كثيرا.

    تحياتي

    ردحذف