الحلقة الثانية - المذهب الذاتي في نظرية المعرفة

بسم الله الرحمن الرحيم

الفارق بين المذهب العـقلي والمذهب الذاتي:

يجب أن نعرف قبل كل شيء أن الإدراك ينقسم بصورة رئيسية إلى نوعين: التصور والتصديق، فالتصور هو: الإدراك الساذج أو البسيط، والتصديق هو: الإدراك المنطوي على حكم.

إلا أن المشكلة التي تواجهنا هي مشكلة أصل المعرفة التصديقية والركائز الأساسية التي يقوم عليها العلم الإنساني، فما هي الخيوط الأولية التي نسجت منها تلك المجموعة الكبيرة من الأحكام والعلوم وما هو المبدأ الذي تنتهي إليه المعارف البشرية في التحليل ويعد مقياسا أوليا عاما لتمييز الحقيقة عن غيرها؟ في هذه المسالة عدة مذاهب إلا أن المعروف والمشهور منها هو المذهب العقلي والمذهب التجريبي وأضاف إليهما الشهيد محمد باقر الصدر المذهب الذاتي والوقوف عند هذه الإضافة يستلزم الالتفات إلى أن البحث في المعرفة البشرية يمكن تناوله من زاويتين:

الأولى: تحديد المصدر الأساسي للمعرفة: فالتجريبيون يؤمنون بأن التجربة والخبرة الحسية هي المصدر الوحيد للمعرفة، فلا توجد لدى الإنسان أي معرفة مسبقة بصورة مستقلة عن الحس والتجربة. أما العقليين يؤمنون بوجود قضايا ومعارف يدركها الإنسان بصورة مسبقة ومستقلة عن الحس والتجربة وان هذه القضايا تشكل الأساس للمعرفة البشرية والقاعدة التي يقوم على أساسها البناء الفوقي للمعرفة كله.

الثانية: تفسير نمو المعرفة: أي كيف يمكن أن تنشأ من هذه المعارف المسبقة الأولية معارف جديدة؟ وكيف يمكننا أن نستنتج من القضايا التي تشكل الأساس الأول للمعرفة قضايا أخرى وهكذا يتكامل البناء؟.

إن المذهب الذاتي وإن كان يتفق مع المذهب العقلي من الزاوية الأولى أي وجود معارف سابقة للحس والتجربة وبصورة مستقلة عنها، إلا أنه يختلف معه من الزاوية الثانية وهو كيفية نمو المعرفة، وذلك لأن المذهب العقلي لا يعترف عادة إلا بطريقة واحدة لنمو المعرفة وهي طريقة التوالد الموضوعي أو الاستنباط، بينما يرى المذهب الذاتي أن في الفكر طريقتين لنمو المعرفة إحداهما التوالد الموضوعي والأخرى التوالد الذاتي، ويعتقد المذهب الذاتي بأن الجزء الأكبر من معرفتنا بالإمكان تفسيره على أساس التوالد الذاتي. من هنا لابد من وقفة ولو قصيرة للتعرف على ملامح المذهب العقلي الذي يمثله المنطق الأرسطي حتى يمكن الوقوف على الفارق الرئيسي الذي يميز المذهب الذاتي الذي يمثله منطق الاحتمال في نظرية الشهيد محمد باقر الصدر.

المذهب العـقلي:

تنقسم المعارف البشرية في رأي العقليين إلى طائفتين:

الطائفة الأولى: معارف ضرورية أو بديهية ونقصد بالضرورة هنا أن النفس تضطر إلى التصديق بقضية معينة من دون أن تطالب بدليل أو تبرهن على صحتها كإيمانها بالقضايا التالية: النفي والإثبات لا يصدقان معا في شيء واحد، الحادث لا يوجد من دون سبب، الصفات المتضادة لا تنسجم في موضوع واحد ،الكل أكبر من الجزء ، الواحد نصف الاثنين.

الطائفة الثانية: معارف ومعلومات نظرية فإن عدة من القضايا لا تؤمن النفس بصحتها إلا في ضوء معارف ومعلومات سابقة، فيتوقف صدور الحكم في تلك القضايا على عملية تفكير واستنباط للحقيقة من حقائق أسبق وأوضح منها كما في القضايا التالية: الأرض كروية، الحركة سبب للحرارة، المادة تتحول إلى طاقة، وما إلى ذلك من قضايا الفلسفة والعلوم فإن هذه القضايا حين تعرض على النفس لا تحصل على حكم في شأنها إلا بعد مراجعة للمعلومات الأخرى. لأجل ذلك فالمعارف النظرية مستندة إلى المعارف الأولية الضرورية، فلو اختفت تلك المعارف الأولية من الذهن البشري، لم يستطع التوصل إلى معرفة نظرية مطلقاً، فالمذهب العقلي يوضح أن الحجر الأساس للعلم هو المعلومات العقلية الأولية وعلى ذلك الأساس تقوم البنيات الفوقية للفكر الإنساني التي تسمى بالمعلومات الثانوية، والعملية التي تستنبط بها معرفة نظرية من معارف سابقة هي العملية التي يطلق عليها اسم الفكر والتفكير ويؤمن المذهب العقلي لأجل ذلك بقيام علاقة السببية في المعرفة البشرية بين بعض المعلومات، فان كل معرفة إنما تتوالد عن معرفة سابقة وهكذا تلك المعرفة حتى ينتهي التسلسل الصاعد إلى المعارف العقلية الأولية التي لم تنشأ من معارف سابقة ولهذا تعتبر العلل الأولى للمعرفة وهي على نحوين:

النحو الأول: ما كان شرطا أساسيا لكل معرفة إنسانية بصورة عامة كمبدأ عدم التناقض فإن هذا المبدأ لازم لكل معرفة وبدونه لا يمكن التأكد من أن قضية ما ليست كاذبة مهما أقمنا من الأدلة على صدقها وصحتها لأن التناقض إذا كان جائزا فمن المحتمل أن تكون القضية كاذبة في الوقت الذي نبرهن فيه على صدقها.

النحو الثاني: ما كان سببا لقسم من المعلومات وهو سائر المعارف الضرورية الأخرى التي تكون كل واحدة منها سببا لطائفة من المعلومات.

ويترتب على هذا الاتجاه في نمو المعرفة الإنسانية:

أولا: إن المقياس الأول للتفكير البشري بصورة عامة هو المعارف العقلية الضرورية، فهي الركيزة الأساسية التي لا يستغنى عنها في كل مجال، ويجب أن تقاس صحة كل فكرة وخطئها على ضوئها ويصبح بموجب ذلك ميدان المعرفة البشرية أوسع من حدود الحس والتجربة؛ لأنه يجهز الفكر البشري بطاقات تتناول ما وراء المادة من حقائق وقضايا ويحقق للميتافيزيقيا والفلسفة العالية إمكان المعرفة وعلى عكس ذلك المذهب التجريبي فإنه يبعد مسائل الميتافيزيقيا عن مجال البحث لأنها مسائل لا تخضع للتجربة ولا يمتد إليها الحس العلمي فلا يمكن التأكد فيها من نفي أو إثبات مادامت التجربة هي المقياس الأساسي الوحيد كما يزعم المذهب التجريبي.

ثانيا: إن السير الفكري في رأي العقليين يتدرج من القضايا العامة إلى قضايا أخص منها من الكليات إلى الجزئيات، وحتى في المجال التجريبي الذي يبدو لأول وهلة أن الذهن ينتقل فيه من موضوعات تجريبية جزئية إلى قواعد وقوانين عامة يكون الانتقال والسير فيه من العام إلى الخاص في عرف المذهب العقلي كما سنبينه لاحقا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق